الاثنين، 6 أغسطس 2012

جدلية الخفاء و التجلي بين الناتئ والمنسي
فيإبداعات الفنان التشكيلي عبد العزيز الغراز , التشكيلية
بقلم : عبد الجبارالغراز

كتبهاعبد الجبار الغراز ، في 29 مارس 2010 الساعة: 01:16 ص


يشتغل الفنان عبد العزيز الغراز على موضوع الزخرفة المورقة والأرابيسك , باعتباره خزانا رمزيا وفنيا خاما يتصف بالدينامكية والحركية إذ نراه ينتقل منالذاكرة والهامش إلى قلب اللوحة , حيث يصبح , بعد التوظيف مجالا بصريا ذا أهميةخاصة . كما يصبح أيضا تكثيفا للعلامات والرموز وتطويعا للذاكرة.
فعند تأملنالإبداعات هذا الفنان ,نحس بقوة الانشداد اللامرئي , الذي تفرضه علينا لوحاته , وتكشف لنا , ولكل المتلقين لهذا اللون الفني , بان هذا الفنان مبدع حقا يسعى عبرتوظيفه لفن الزخرفة والأرابيسك , إلى إبراز المنسي في جمالية الزخرف المفقودة وسطزحمة التكنولوجي والحضاري الغارق في أوهام العصرنة الكاذبة .فإلى جانب ما يتمتعبه فن الأرابسك من خصائص جمالية أبدعها الأجداد ضمن الفن العربي الإسلامي في أبعادهالروحية , فان إضافات هذا الفنان تتجلى في الرحلة الدائمة , عبر الريشة لاستكشافعجاب الموروث الذي تزخر به هذه الثقافة . ففن الأرابيسك هو شكل من الأشكال الفنيةالتي استعملها العرب, إذ اتخذ شكل تراث حضاري نراه يسكن في جدران المساجد ومآذنها, وفي الأضرحة والقصور العتيقة, كما قد نجده أيضا في الأواني والنحاسية وغيرها. فقدكان حقا تعبيرا تجريديا عن المطلق ومرآة تعكس صورة الوضع السياسي والاجتماعيوالحضاري للعصور الوسطى .
فلوحات الفنان عبد العزيز الغراز تنقلنا إلى هذاالتراث . فالأشكال الأرابيسكية التي تحملها لوحاته ليست تعبيرا عن تراث منسي , أوهي مجرد ديكورات أو فولكلور باهر لأنظار السياح , بل هي , على العكس من ذلك , بحثدائم ومستمر عن هذا الذي لا ينفك عن الانفلات من قبضة التقنية العالية التي يمتازبها هذا الفنان , ومن خبطات ريشته الحالمة التائهة في دروب التاريخ .
لمتنشأ إبداعات هذا الفنان من فراغ , بل هو , كغيره من الفنانين الشباب المغاربة , قدراكم تجارب مختلفة طيلة عقد ونصف من الزمان , وانتقل من وضعية التابع المتعلم , فيرسم لوحات كبار الفنانين وتقليد إبداعاتهم , إلى وضعية الإبداع والابتكار , عبرالإنصات إلى التراث . فالتاريخ بالنسبة له مقوم رمزي وثقافي ينهل منه التشكيلاتالزخرفية المورقة , التي تضفي على فضاء اللوحة مضمونا جماليا رائعا .
لكن, ما الشيء العجيب الذي أثار في هذا الفنان خيار الابتكار والإبداع التشكيلي, الذيأراد له أن يكون إبداعا مغايرا لكل الأساليب الفنية الأخرى التي تنهل من التاريخوالتراث العربي الإسلامي ؟
يشتغل هذا الفنان على كل ما هو مثير , باعتبارهيحتوي على قوة كامنة تحتاج إلى وجود بالفعل لتظهر كقوة جمالية مستفزة للبصر. فلمساته الفنية تحوله من شيء ساكن بارد إلى شكل متحرك خارج من التاريخ معانق للمطلق .
فمن خلال النظر إلى هذه اللوحات الأرابيسكية الحلزونية نلاحظ ابتعاد هذاالفنان عن الاستنساخ المجاني للأشكال الزخرفية , أو إعادة إنتاجها كقوالب جاهزة . فاللوحة الأرابيسكية , بالنسبة له , خروج من الذات والتحام بالمشترك , واتحادبالتاريخ والهوية , وارتباط "بالأصيل " كما أنها أيضا تشكل قلبا للمعادلةالاستشراقية وتقويضا للنظرة الإثنوغرافية الغربية للشرق . إذ تكشف لكل متأمل لها عنهضم جيد لهذا الانشطار الوجودي بين الشرق والغرب , أو لهذه الازدواجية الثقافيةالتي تتسم بها الممارسات التشكيلية العربية المعاصرة .
يعتمد الفنان عبدالعزيز الغراز في رسم لوحاته على مواد متنوعة : فإلى جانب الألوان الساخنة ( الأحمر,الأصفر والبرتقالي ) نراه يعتمد على الخطوط الأرابيسكية الحلزونية المتشكلةمن مسحوق الخشب أو الرمل , المؤثثة لفضاء اللوحة , لأنها تتصف بالمرونة في التشكلوبالقابلية في التأويل و الإيحاء الرمزي والدلالي .
كما يشتغل على مفاهيمتشكيلية مركزية "كالعمق" , " شفافية الشكل" , "المثير" . فالعمق التشكيلي لا يبرزإلا بواسطة الألوان الشفافة على الأشكال. إذ نراه قائما على عمق آخر مادي قابلللإيحاء, كما نراه أيضا قائما على الفراغ الثلاثي الإبعاد عن طريق التظليل المتدرجللكتل والظلال. فهو يتجلى للمتأمل انطلاقا من تتبع حثيث وهادئ للأصيل , انطلاقا مننفاذية البصر المتمرسة على قراءة المكتوب بصريا , وانتقاله من السطوح ذات النتوءاتوالتجاعيد والتجاويف مرورا بالمادة التشكيلية الموظفة. وانتهاء بالتفاعلاتالكيماوية للألوان .
ففضاء اللوحة يكشف لنا عن وعي كامن داخل الشكل واللونيتجاوز كل التفسيرات الحسية المادية ليستقر في مستوى التفاعلات الممكنة بينمكوناته. يظهر ذلك , وكأننا أمام لوحة بلورية متشظية العلامات , كما يقول "ديريدا " , تتناسل فيها المعاني وتتعدد القراءات , إذ يطغى فيه اللون البرتقالي , لون الشروقوالغروب في نفس الوقت , ويتفرد بشخصياته وكمونه البصري وحرارته وشدة إضاءته لتخوموهوامش اللوحة وإيقاعه الساخن والتصاقه كلباس مادي , والتحامه بالنتوءات الحلزونية , وكأنه بهذه الأوصاف البصرية يكشف عن "المنسي" القابع والساكن بين ثناياها . أليسأصل الوجود هو حضور الظل ؟ أوليس الفن , في مجمله هو كتابة إنسانية بالضوء والظلوتأثيث للوجود ؟
فلوحات الفنان عبد العزيز الغراز , هي دعوة لتلاقي وحضورالعلامات والرموز , وجواب ممكن عن السؤال المركزي : ما علاقة المنسي بالناتئ ؟
فتحليل هذه العناصر البصرية وأثرها فنيا على النفوس , يكشف عن ذكاء التقنيةاللونية التي يمتاز بها هذا الفنان . كما يكشف أيضا عن اعتماده على عناصر تشكيليةبديلة للمشخصات المرئية , كالألوان الشفافة , التي ساهمت بشكل كبير في إقامة صرحتعبيري رمزي يحتفي بهذه الأشكال الشاعرية ذات الأبعاد الطيفية , التي ساهمت فيانزياح اللون الأسود المتكرر في أغلب اللوحات نحو خارج مطلق ولا محدود .
هذهالأشكال الطيفية المتمركزة في وسط اللوحة , تتراءى كأشباح خارجة من ثنايا النتوءاتوالتقعرات , تنفض عنها غبار النسيان , إذ تتراقص بشكل متناغم كألسنة لهيب متموجة .
انطلاقا من هذه القراءة التحليلية لفضاء اللوحات يمكن استخلاص ما يلي :
* يسكن , الفنان عبد العزيز الغراز , كائن رافض لكل دعوة فنية تنشدالنسقية , متبرم عن كل استقرار في أرضية واحدة . إذ تتولد لديه الرغبة في رصد جدليةالخفاء والتجلي التي تطبع "المنسي" في التراث العربي الإسلامي , الذي دأبت النظرةالإثنوغرافية الغربية على تكريسه في الوجدان و اللاشعور الجمعي المشكل لثقافتنا .
* يعتبر الفن في نظره تشتيتا للرغبات وانتشارا لها كما يقول "فرويد" فإنتاجاته الفنية , التي عرضت في رواق " ورشات الأغورا " بمرسيليا الفرنسية , فيالفترة ما بين 02 / 06 / و 20 / 06 / 2009 , هي دعوة لكل زائر إلى السفر معه عبرالتأمل في مختلف تأثيث فضاءها لتفكيك خطابها الرمزي وتمتيع البصر بهذه المشاهدالفنية الرائعة .عبد الجبار الغراز

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق