الاثنين، 6 أغسطس 2012

الربيع العربي كما يبدو في نسخته المعدلة جينيا


الربيع العربي كما يبدو في نسخته المعدلة جينيا

بقلم : عبد الجبار الغراز

          يظهر لنا ، بعد هذه الكوميديا التي نتتبع فصولها على خشبة مسرح أرض الكنانة التي يبدعها المجلس العسكري ، و ما تمثله من إجهاز على ثورة شباب مصر ، أن إبداعات الهندسة الوراثية قد تجاوزت حدود اشتغالها كمجال علمي ، فبدل أن يقتصر مجهودها العلمي على الكائن الطبيعي نراها قد طالت أيضا حتى الكائن السياسي ، بفضل مجهودات أهل الخبرة و الدهاء و المكر في مجال السياسة الذين استلهموا من تقتيات الهندسة الوراثية  طرقا مماثلة لها للتدخل في شؤون بلدان الربيع العربي ، و أولها مصر ،  و محاولة تعديل ثوراتها الناشئة تعديلا جينيا ، لاستنساخ ما يكفي من نماذج من الديمقراطيات وعرضها للبيع ، بالعملة الصعبة ،  في السوق السياسي العالمي لمن يريد أن يشتري .

        و للعلم ، فالتعديل الجيني كما يعرفه لنا هذا الحقل العلمي ، هو التدخل في البنية الداخلية للكائن الطبيعي  بغرض إحداث تغييرات في بعض أحرفه الوراثية ، حيث يترتب عن ذلك إنتاج أشكال و أصناف متعددة تشكل بنيات جديدة يمكن اعتبارها ، إلى حد ما ، صورا مستنسخة تحاكي الأصل دون أن تتطابق معه تمام التطابق ، كالتعديل الجيني للتفاح أو العنب أو غيرها من الفواكه الأخرى .

     لا أحد ينكر أن الربيع العربي قد بدا ، في الأشهر الأخيرة الماضية ، منتكسا راكدا ، و كأن تعديلا جينيا قد شابه فأصاب نسخته الأصلية بنوع من الابتذال و التشويه . و قد شاهدنا ذلك عن كثب ، حيث طوقت مجتمعات الربيع العربي من طرف القوى العظمى شر تطويق ، بغية توجيه مدها الثوري  وجهة غير تلك التي رسمها له شباب الثورة . لقد حاولت هاته القوى العالمية إفراغ الربيع العربي من مضمونه الثوري و شل حركيته المتصاعدة حتى لا تقود تلك المجتمعات العربية إلى تحول هادف يروم بناء مشروع حضاري حقيقي . ألم يكن يهدف الربيع العربي إلى تأصيل الفعل الثوري الذي يجعل من الإنسان فاعلا في تاريخه ؟ فليس غريبا ، إذن ،  أن تجند الطاقات لإفشال مشروعه الثوري ، لأن هذا الربيع أربك كل حسابات الغرب الرأسمالي ، فاحتفاظه بزخمه الثوري يعد ، في نظره  شيئا شاذا و غير مقبول.

      و لكي يتحقق مشروع الإفشال و حتى تزيغ الثورة عن طريقها و تنحرف عن مبادئها التي من أجلها قامت ، كان لزاما أن يرحل بسرعة  هذا الفصل الربيعي المفعم بالفتوة الثورية ليعقبه صيف لم تنضج ثماره بعد ولم يحن بعد أوان قطافها ، أو أنها نضجت قبل الأوان ، بسبب تعديل جينات أصاب بذورها .

       و بناء عليه ، يبدو أن الربيع العربي سيكون الممهد الأمثل للتعديل الجيني لغيره من الثورات القادمة  في المستقبل . فما نراه من تدخل سافر في الشأن الداخلي من قبل القوى العظمى للمجتمعات العربية عبر تغيير مسار ثوراتها و جعلها حقول تجارب لإنتاج ديمقراطيات على المقاس و تحت الطلب ، يؤكد ما نحن بصدد تحليله ، حيث ستصبح بعدها الثورة عربية كانت أو غير عربية ، مجرد فاكهة ناضجة قبل الأوان لا تصلح لشيء إلا للاستهلاك الظرفي و الوقتي ، فبعد الاستهلاك  يتم لفظها كعلكة زالت منها الحلاوة ، أو تصبح مجرد موضة ثقافية تروج لماركات عالمية مسجلة يستغل فيها رموز الثورة من قادة و أبطال و شهداء أبشع استغلال . وحين يزول عنها بريقها الجذاب و تصبح قديمة و بالية يتم التخلص منها و الانصراف إلى غيرها ، و هكذا دواليك .. فعلى هذا القياس الذي قدمناه ، ستغدو ثروات الشعوب المستضعفة شبيهة بالسلع الخاضعة لتقلبات سوق سياسي لا يقل بشاعة و استغلالية عمياء عن السوق الاقتصادي أو منتوجا قابلا للاستهلاك السريع . و بعد أن يتغير مذاقه أو لونه و لا يعود يصلح لشيء  يرمى في القمامة .

      فلا غرابة قد يجدها الإنسان في هذا الوصف السوريالي الذي حول ثورات الربيع العربي إلى مسخ كافكاوي ، ما دامت الصورة التي تقدمها وسائل الإعلام المرئية المشحونة بالعنف أصبحت مستهلكة صباح مساء هذه الأيام . فمن فرط الاستهلاك و طول انتظار المشاهد الكريم للنهاية السعيدة المرجوة ، كما يحدث عادة في الأفلام الهوليودية الكلاسيكية ، يتحول في ذهن الناس المشهد السوري ، مثلا ، من مشهد ثوري سلمي مطالب بالحرية إلى مجرد مشهد دموي لا يثير فيهم سوى الشفقة الممزوجة بالملل ، و كأن الأمر هنا لا يتعلق بأرواح بريئة تزهق ، أو بأجساد آدمية لشهداء و جرحى ، تلقى هنا و هناك في الطرقات و بجانب الأرصفة ينكل بها، بل يتعلق بدراما تليفزيونية محبوكة تشابكت فيها الخيوط و تداخلت فيها الأدوار.

      يظهر هذا الغرب الرأسمالي ، الذي بدأت تنخر كيانه الأزمات ، أمام العالم بمظهر المحتضن و المدعم لهذه الثورات العربية الناشئة ، لكنه في الحقيقة يلعب خلف الستار ، لعبة دنيئة :  فهذا الاحتضان الكاذب لم يصيرها سوى مجرد أدوات جهنمية طيعة في يده تسلب من الإنسان العربي الإرادة الحقيقية في التغيير و الفاعلية الحقة في صنع التاريخ .

     في خضم هذه المحاولات التعديلية لثورات الربيع العربي جينيا ، يظهرالوعي العربي و كأنه يعيش حالة اغترابية ، هي بمثابة تعبير عن حالة ضياع الإنسان العربي في واقع غريب عنه لا يستطيع فهم آلياته و توجهاته الكبرى ، واقع  ساهم هو في تأسيسه و تغييره لكن فاعليته الحقيقية في التاريخ هاته لم تحسب له ، لأنه ، بكل بساطة ، تم تغييبها ، أو لنقل ، سلبها منه .

    هذه الحالة الاغترابية عن الذات و عن فعلها الثوري قد ظهرت معالمها الأولى  منذ إلقاء أول قنبلة من قبل قوات الناتو في أراضي ليبيا  و ازدادت حدتها بعد محاكمة للرئيس المصري الأسبق و نجليه و وزير داخليته و مبادرات كوفي عنان في اتجاه إخماد لهيب الثورة السورية ، و محاولة إقحام الإسلام السياسي كخيار واحد و وحيد لإقبار كل مشروع تحديثي في المجتمع العربي ... كل هذا و ذاك  يصب في نفس الاتجاه الرامي إلى فرملة الثورات العربية و التدخل في شؤونها لتغيير خارطة المجتمعات العربية ضمانا للامتيازات و المصالح الحيوية للغرب الرأسمالي .

      فبعد أن يخبو في النفوس وهج الثورة  و يغزو الملل الجميع ، خاصة المستضعفين من الفقراء ، لطول ترقب و انتظار أن تضع الثورة أوزارها لجني محصولها سيتشكل المشهد السياسي على الشكل الآتي : ستوضع الدساتير على المقاس لتتواءم مع الوضعية الجديدة القديمة و ستجرى الانتخابات و ستطفو على مسرح الأحداث نخب جديدة حيث سيترك لها هامش نسبي من الحرية لتتحرك و تعمل و تحقق بعض المكتسبات الجزئية ، و سيمنح للفئات المتضررة بعض الحقوق و بعض الامتيازات ( و لنا هنا في تجربة رئيس الحكومة ، عندنا في المغرب في رفعه لأسعار البترول و إلغاء صندوق المقاصة لدعم الفقراء ماليا ، أحسن تعبير عما نقول )  وسيتم تغيير بعض البنيات بشكل سطحي  ليتوهم الناس أن النسق العام قد تغير في العمق في حين لا شيء تغير في الواقع .

      و مجمل القول ، نقول للشباب الواعد في أنحاء هذا العالم العربي الشاسع : ثورات الربيع العربي هي مجهود من إبداع أياديكم فلا تهدروه بجلوسكم أمام حواسيبكم . فجاهل من يظن أن الثورات تعطي أكلها بإذن صناعها في وقت وجيز، فهي تحتاج إلى وقت كاف حتى تنضج فاكهتها في أرضها الطيبة . باختصار شديد ، الثورات العربية  تحتاج إلى أياد بيضاء ، شبيهة بأيادي الفلاحين .. تحتاج إلى عقول نيرة مدبرة تنظر لها و ترعاها و تسهر على حسن سيرها لتقودها إلى بر الأمان حتى لا يتم احتواؤها و دمجها من طرف القوى العظمى. 

     كما ندعو الباحثين و المثقفين إلى التفكير في الثورات التي تطرأ في العالم العربي ، و الثورات القادمة ، من منطلق يستلزم إعداد عدة مفاهيمية و أدوات منهجية ملائمة لطبيعة المجتمع و مؤهلاته الثقافية و الاقتصادية و مدى فاعلية الأداة السياسية التي تتحكم في مجرياته .

      هذا التنظير سيوسع مجال الرؤية حتى نرى هذه الثورات من زوايا عديدة تساهم في تركيب صورة حقيقية حول ما يجري على أرض الواقع  من صراعات مختلف الأطراف. وهذا الأمر يستلزم منا أن نعتبرها ثورات ناشئة ذات نفس طويل لهدم صروح الاستبداد و معرفة ما إذا كان سيسفر هذا الهدم عن إعادة بناء صروح جديدة و متينة أم انه سيعيد إنتاج ما كان قبل الثورة لكن هذه المرة سيكون بشكل براق و موهم و خادع.

       لكن ، و بكل تفاؤلية سليمة نقول أنه رغم هذا التدخل الناعم في شؤون العرب الداخلية ، فإنه ، في اعتقادنا الشخصي ، لن يؤثر في عزيمة الشعوب العربية التي تحرص أشد الحرص على حماية مكتسبات ثورتها من السرقة ، والتي حققتها على أرض الواقع ، فتاريخ الشعوب ليس نتاج أنساق و بنيات متعالية عنه، و ليس سيرورة عمياء بدون ذوات فاعلة ، بل هو نتاج  فعل بشري. و هذا يعني ، من جملة ما يعنيه ، أن طبيعة الثورات  تتحدد بتطلعات الشعوب و قاداتها و أحلامها في بناء غد مشرق تسود فيه الحرية و الديمقراطية و تكريس المبادئ و القيم الإنسانية الأخرى النبيلة .  لكن يبقى عنصر الفاعلية في التاريخ غير كافي ، إذا لم يصاحبه شرط بلوغ مستوى معين من درجة تطور المجتمع سياسيا و اجتماعيا و اقتصاديا . و في هذا المضمار ، نعتقد جازمين أن المجتمعات العربية قد نالت حظها بما يكفي من التطور، و الربيع العربي شاهد على ذلك ، و قد أن الأوان أن تقطف من ثماره و تستفيد ، كباقي مجتمعات المعمور، من غلاته الوافرة غير المعدلة جينيا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق