السبت، 31 مايو 2014

تحقق النظرة الجمالية في الأعمال الأخيرة للفنان التشكيلي المغربي حافظ مربو



تحقق النظرة الجمالية في الأعمال الأخيرة للفنان التشكيلي المغربي حافظ مربو

 بقلم : عبد الجبار الغراز


عرض الفنان التشكيلي المغربي حافظ مربو مؤخرا آخر أعماله التشكيلية ، برواق محمد الفاسي بالرباط ، و قد استمر هذا المعرض التشكيلي الهام ، الذي أعطي له كعنوان " تحولات " من 6 ماي  إلى غاية 30 منه .

و للعلم ، فحافظ مربو هو فنان شاب من مواليد سنة 1974 منحدر من مدينة تزنيت (جنوب المغرب ) خريج مدرسة تكوين الأساتذة في مادة التربية التشكيلية ، سبق له أن شارك في عدة معارض جماعية و فردية داخل و خارج أرض الوطن ..

 يتميز أداؤه الفني بأسلوب راق و متطور ، عرف بتجاوزه للنمطية التي تقتل الإبداع الفني الأصيل .كما يتميز أيضا بكونه مخاطرة فنية جديدة  تسعى إلى فتح قنوات ونوافذ جديدة كلما رأى الفنان انسدادا لا يحقق النظرة الجمالية . مخاطرة يتخد عبرها الفنان مربو موقفا واعيا نابعا من ذاته و من إحساسه بالجمال و المتعة و الدهشة .

لحافظ مربو ، كباقي الفنانين المغاربة الشباب ، رؤية و تصورات فنية متجددة ذات بعد ذاتي تشي بتحول مستمر لهذا الفنان فكريا و إبداعيا ، و ذات بعد موضوعي معبر عن مختلف استجابات الإبداع للتحولات الكبرى التي يعرفها المحيط . هذه الرؤية أغنت تجربته الفنية الحالية إغناء مكثفا . فكل مرحلة من مراحل عمره الفني تعتبر رحلة عبر الذات نحو المجهول لاقتناص المدهش و الممتع و المفيد و الجمالي ، مما قد يجعل من هذه الرحلة بحثا مستقلا عن أسلوب جديد يخرج إلى الوجود ليدخل ضمن الرؤيةالفنية الجديدة للفنان .

 يجعل الفنان حافظ مربو من كل مغامرة فنية وتقنية يعيشها نوعا من التجريب الفني . فليس بغريب على فنان مثله فعل ذلك  ، و  قد خبرت نفسه في مجال التشكيل ما كفاها من الخبرة و الممارسة  لكي تنوع في طرق طرح الأفكار و اختيار التقنيات الملائمة لها .. فكل بداية لمرحلة جديدة هي ، بحسبه ، إنضاج لمرحلة سابقة عنها .

و بناء على ما قيل ، يمكن تلخيص المراحل التي مرت منها التجربة  الفنية لهذا الفنان المبدع إلى ثلاث مراحل فنية كبرى ، لكل منها خصائصها و سماتها التي تفصلها عن الأخرى :

المرحلة الأولى تعود إلى بدايات تفتح موهبته الفنية، التي قام لاحقا بصقلها بالدراسة الاكاديمية بشعبة الفنون التشكيلية، والمتابعة للمعارض والتظاهرات الفنية، حيث ابحر ، كعادة كل فنان ، في بحر الفن ، و اطلع علىتاريخه العريق ، و تعرف على مدارسه الفنية الكبرى ، و راكم  الاساليب والتقنيات التشكيلية  و جعل من هذه المرحلة  مرحلة تتسم بطابع اسلوبي تشخيصي واقعي،  مستوحى من التراث المغربي في تنوعاته المختلفة، مع تبني تقنيات الفن الحديث الاوروبي في معالجته لمفاهيم تشكيلية اساسية كاللون والضوء ، الحركة،المادة...

أما  المرحلة الثانية فقد ابتدأت مباشرة بعد أولى سفريات الفنان مربو الى اوروبا ، حيث أتيحت له الفرصة أن يتشبع ، بثقافة بصرية جمعت اعمال كبار الفنانين العالميين بالمتاحف و أروقة الفن المعاصر . في هذه المرحلة بدا يبرز لدى فناننا النزوع نحو شاعرية الشكل والمضمون . هذا الأخير دفعه ، بشكل جدي ،  إلى  التفكير في البحث عن أسلوب فني خاص به هو كفنان بدأت معالم شخصيته الفنية تبرز ، لابتكار سمات فنية ذاتية مميزة، تجعل منه إنسانا  يتجاوز المرحلة التشخيصية نحو محاولة تبسيط وتحوير واختزال ما تم استيحاؤه من الطبيعة، أو ما تم تخزينه  في الذاكرة ..

أما المرحلة الثالثة ، التي يجد الفنان حفيظ مربو نفسه في خضمها ، فهي تعبير عن انتقال من هذا الأسلوب الاختزالي التبسيطي التحويري ، الذي أتينا على ذكره ، إلى أسلوب متطرف يحاول فيه هذا الفنان المبدع أن يمارس شغبه الفني  عبر إنجاز أعماله باللونين الأسود و اللون الأحمر المعدني الآجوري ، المنطليان على البياض ، كتقنية لونية وخى منها الفنان حافظ مربو إعفاء نفسه من الدخول المجاني في متاهات متعة الألوان الزاهية النشيطة التي تستجيب للذة زخرفية مبتذلة غايتها اقتناص السهل لجذب المتلقي .

و يعتبر معرضه الحالي مشروعا مبنيا على التحول المتبادل بين الإنسان و محيطه، الحامل لاسم " تحولات " ، الذي اشتغل عليه مدة سنتين تقريبا ، إذ يعتبر خلاصة تجربته الاخيرة هاته ، جمع فيها  هذا الفنان المبدع ، الفني بالتقني من جهة ، و الفكري بالثقافي من جهة أخرى ، لإنتاج أفكار  و بناء تصورات جديدة و التعبير عن أحاسيس قابعة في الدواخل ، و طرح تساؤلات مغايرة منفتحة عن الممكنات .

 هذا المشروع الجديد أراد له الفنان مربو أن يرصد  حالات اتصالية وانفصالية بين الذات والموضوع ، برؤية للواقع من زوايا متعددة، تستمد روحها من التجربة الإنسانية التي نعيشها في عالمنا المعاصر بمكوناتها الثقافية والسيكولوجية و الاجتماعية، للتمكن من اقتناص جوهره المتحرك، المتفجر ، حيث يلتقي في هذه التجربة الفنية الخاص والعام في مزيج موحد ، بالإضافة إلى سلسلة من المزاوجات بين كل الاسئلة المؤرقة الفلسفية و الشعرية و النظرية المنبثقة من مصادفات الحياة اليومية المعاشة ، للارتقاء بالتجربة إلى مستوى أشمل وأعمق .

هذه التجربة الجديدة التي اختارها عن طوع الفنان حافظ مربو هي مخاطرة فنية ابتغت أن تنهل من معين فلسفي ينفخ في الثنائيات الأنطلوجية ، روحا جدلية مفعمة بالحيوية و بالحياة .. مزيلة لكل حدود و ماحية لكل الفواصل الممكنة بين الذات و الموضوع ، الشكل و المضمون ، السطح و العمق ...


لقد استطاع الفنان حافظ مربو توظيف هذه الثنائيات الأنطلوجية أبرع  توظيف فني، حيث جعل الغلبة تؤول إلى الثيمة بدل تلك الثنائيات ، بطريقة جعلت الشكل في خدمة المضمون و السطح في خدمة العمق و الموضوع في خدمة الذات . بتعبير آخر ، لقد اشتغل هذا الفنان على " المفهوم " المفضي مباشرة إلى الفكرة ، بالشكل الذي يجعل من نظرته الداخلية المحملة بالأحاسيس و المترجمة لمختلف الانفعالات الذاتية ، تستلهم مواضيعها من محيطها الخارجي لصبها في الداخل، و معاودة إخراجها الى الوجود ملموسة فنيا و قابلة لأن تتحول إلى تعبيرات بصرية مناسبة في أي لحظة زمنية ، و في أي ظروف نفسية مواتية. فتارة قد تكون تلك التعبيرات البصرية رسما و تارة أخرى قد  تخرج من إطار اللوحة لتتخد شكل منحوتة أو تتحول إلى فن فيديو أو فن المنشآت أو فن الأداء .  



الاثنين، 26 مايو 2014

وهج الفكر و الذاكرة


شعر :  عبد الجبار الغراز
 1 -
ﺑﻴﻦ داخلي  و خارجي ..
ﺃراني طائرا يصعد صوب السماء ..
يرفرف بأجنحته
 يعلو ، ثم يعلو ،
ليلامس أرض العطاء ..
 يبحث هناك .. في الأعالي
 عن أحلام كسرتها أيادي الشقاء .. 
ناوليني يا أنشودة الأزل قيثارة الوجد ..
كي أوقظ في الأعماق
 وهج السنين الثكلى ..
 من شيمي الغوص في ثنايا النفس ..
فلا تعبثي بقدري  ، إذن ، أيتها البجعات المدنسة
سأنسج من خيوط الشمس الذهبية سجادتي
 و أنغمس في صلواتي رافعا أكف الضراعة 
 مشتما عطر الوجود حتى الثمالة .

2 -
بيني و بين نفسي ..
لا وقت عندي الآن ..
 كي أرى نفسي في نفسي
فالطفولة التي كانت تسكنني
قد اغتالتها زمجرة ريح ماضية إلى قرار مكين ..
فهل أستكين كما استكان فراخ البجع
 و أحول قمم النسور قلاعا للعواء ؟
لا وقت لدي للنحيب
لا وقت لدي للعويل
مادام صباحي غد دائم
 يسكب قهوته المرة السوداء
لترشفها بنات آوى وقت الظهيرة
دموعا و دماء ..

3 -
 بيني و بين بنات أفكاري ..
وقتي .. كل وقتي
 زنزانة تبتسم لي ..
 و تروادني عن نفسي :
 " هيت لك يا أشقى الناس "
تقد قميصي من دبر ..
 فأشتهي كيوسف الصديق
 فاكهة التأويل ..
يا أيها الراقد في مكمني
 لم تقضن مضجع أحلامي
و أنا القادم من دنيا اليقضة ..
أرشف نبيذ الحنين
كؤوسا شبقية تسكر أطيافي المتراقصة في رأسي .. ؟

4 -
بيني و بين وهجي
تسكنني أوجاع الأنبياء
فأكنس محراب فكري من دنس القداسة
منعرجا نحو اليسار ..
سالكا طريق الغواية
جسدي المثخن بالجراح
 مازال يصرخ كالرغبة في أحشاء الذكرى
" هل أدلك ، أيها الحالم في أرض التجانس
 على أوطان لا تشبع من ترياق الذكريات ؟ "
هكذا قالت لي محنتي الحبلى بنوارس الجنوب .
أجبتها ضاحكا :
 " سأعود في المساء
 لتروي لي أمي كيف انتحرت أشواق الناس
 في معبد الرتابة " 
لا تتعجلي رواية القصة يا أماه
 ، فنحن في حضرة وطن ينعي موتاه ..
و غدا سيطوي صفحاته الداكنة
 و يغادر أرض التطابق
 كعبير اشتاق إلى خلانه ذات يوم من أيام الربيع المزهرة ..
قد لا أكون ساعتها كما تشتهي نفسي ..
لكن ..
سأكون ، يا أمي ،  كما أراد قدري أن أكون :
مسافرا يهوى الترحال في متاهات الأسفار ..
  بزورق صغير يمخر عباب الأفكار ..
باحثا في بحر المفارقات
 عن ذرر الشذرات و الأشعار ..

5 -
 بيني و بين البحر 
سأشبه نفسي في انكساراتها ..
بأمواج بحر
 في ارتفاعه و تعاليه .. تزأر مزمجرة
لكن حين تعانق صلابة الصخر
تستكين على ضفاف رؤياي ..
قد أشبهك أيها الضوء الساطع
المار من شرفة الروح
ذات مساء بارد ..
حين تشتعل نار الرغبة و تجتاح تجاويف دواخلي ..
آه .. كم تبدو لي، وقتها ، طقوس قبيلتنا ثقيلة
تكتم الأنفاس كصباحاتي الخريفية ..

6 -
 بيني و بين حزني
لا بريق ضوء يومض في أفق حاضرنا ..
لا موت رحيم ينثر شآبيبه على نعوشنا الباردة
ﺃﺑﻜﻲ أيامنا الخوالي
كم هو جميل لو بقيت يا  أمي على قيد الحياة
كم هو جميل
لترضعي سمكاتي .. لبن الفكر ..
مساؤكن أيتها السمكات .. غفوة للروح
و ليلكن الحالك نزوة للجسد
 يزهو كطاوس بريشه السرمدي ..
لم عجلت يا أماه .. الرحيل
  حتى غدت كلماتي عابرة
تنسج في سمائي وطن المستحيل ؟؟؟
لم عجلت  يا أماه الرحيل ؟؟؟
آكادير يوم الجمعة 23 ماي 2014

السبت، 10 مايو 2014

في الحاجة إلى نقد ثقافة الإقصاء في المغرب

في الحاجة إلى نقد ثقافة الإقصاء في المغرب .

عبد الجبار الغراز

يضعنا حادث مقتل الطالب عبد الرحيم الحسناوي ، إثر نشوب عراك بالأسلحة البيضاء بين فصيل إسلامي و آخر يساري ، في رحاب جامعة ظهر المهراز بفاس ، أمام ما يسمى ب " الجمود العقائدي " ، الذي استفحل و انتشر مرضه الخطير في صفوف طلبتنا الجامعيين ، إذ يمكن اعتباره نتاجا حتميا لبنية فكرية هجينة وهشة قد تركبت و تشابكت عناصرها ، تدريجيا ، على مدى ثلاثة عقود و نيف ، و أصبحت تشكل ، الآن ، سمة أساسية بات يتسم بها ، للأسف الشديد ، " عقلنا الطلابي المغربي " ، حيث يعتبر التعصب و العنف و إقصاء الآخر أحد أبرز مظاهره الخطيرة

تنصب مهمة هذا المقال على تحليل السياق السوسيو سياسي و السوسيو تربوي الدقيق الذي بلور عناصر هذه البنية الفكرية و أكسبها تلك الوظائف . هذا السياق الذي يدفعنا إلى الاعتقاد بان هذه الجريمة المأساوية ليست بعرضية ، لأن مسرح أحداثها هو مؤسسة تربوية أخذت على عاتقها مهمة تأهيل الرأسمال البشري و تكوينه معرفيا و تقنيا ، و ليس تأهيل مجرمين لا يتواصلون إلا بالهراوات و السيوف .

في حقيقة الأمر، لا يمكن إنكار أن جامعاتنا ، منذ تأسيسها ، كان لها ، في عقدي الستينيات و السبعينيات من القرن المنصرم ، دور كبير في الارتقاء بالوعي لدى الطلبة، و قد تجلى ذلك في أن تلك المعارف المحصلة قد ساهمت ، بشكل كبير ، في تشكيل الوعي بالذات ، و تأطير كل اشكال الممارسات الفكرية و العقائدية و تثويرها ، و بالتالي ، تأصيلها في الوجدان و اللاوعي الجمعي ، و جعلها ، في النهاية ، قابلة للتجدد و خاضعة دائما للتطوير و التغيير بقصد إبداع أشكال جديدة ، من رحم الأحداث و القضايا المصيرية التي تشغل الفكر و تلهب الوجدان . وقتها كان ظهور الجامعات في المغرب بعيد الاستقلال مرتبطا بسد النقص في الأطر الوطنية ، إذ كانت مختلف القطاعات ، من تعليم و إدارة و اقتصاد ، في أشد الحاجة إلى تلك الأطر . و كان حقل التعليم ، وقتها ، يشكل ، في البداية ، تغطية واسعة لمغربة الأطر .

و في المقابل ، يمكن القول ايضا ، أنه منذ عقد الثمانينيات ، أصبحت الجامعات المغربية منبتا خصبا لزرع الشقاق بين الطلاب لكسر وحدة صفهم ، و مرتعا للصراعات الإيديولوجية و تكريس قيم سلبية فاسدة متشبعة بثقافة الاقصاء و هيمنة الصوت الواحد . فليس بجديد التصريح بهذه الحقيقة . فالكل يعلم بالخلفيات السياسية التي جعلت الحرم الجامعي مؤدلجا مسيسا . فاليسار المغربي ، في فترة منتصف الستينيات و فترة السبعينيات ، كان يعيش مواجهة حقيقية بينه و بين قوى اليمين المدعمة بسلطة المخزن ، لكن هذا الصراع المؤدلج لم يفض إلى قتل طالب لطالب كما نرى الآن .

فماذا يعني إذن ، أن يقتل طالب طالبا آخر في رحاب الجامعة ؟

يعني لنا ذلك ، الاعتبارات التالية :

- أولا : إن التكوين العلمي و المعرفي للطالب لم يعد ، كما كان ،عميقا بالشكل الكافي لكي يجعل من هذا الأخير كائنا معرفيا و أخلاقيا. فهذا التكوين أريد له أن يغير فقط السطح دون أن يعمل على تغيير القاع الذي هو أساس الشخصية الإنسانية. .فقد صدق المفكر الهندي محمد إقبال حينما قال بأن التعليم هو حامض يذيب شخصية الطالب و يصيرها كيفما يشاء . و التعليم في بلادنا يطبق هذه المقولة حرفيا حينما نجده يصهر أطفالنا و شبابنا ، شخصيات المستقبل ، على الشكل الذي يرتضيه أهل القرار .

ثانيا : إن جامعاتنا و باقي الأسلاك الأخرى التعليمية قد عبرت عن عجزها عن إنتاج اللآليات الثقافية الحقيقة التي ستساهم ، بشكل أساسي و جذري في بعث روح طلابية هازمة لليأس و الخوف ، و في إشعال شرارات توقظ في النفوس جذوة الحماس المعهودة في فترات الستينيات و السبعينيات من القرن المنصرم . فما نراهم حاليا ليسوا بطلاب حقيقيين ، بل هم ، إلا من رحم ربك ، مجرد كائنات و أشباح آدمية ، تائهة في متاهات الإيديولوجيا ، تعوزها القدرة على أن تعيد إنتاج نفسها فكريا و معرفيا حتى تستطيع أن تعي شروط وجودها . فالطالب الجامعي اليوم يجد نفسه ، بعد التسجيل الأولي في الجامعة ، بين عشية و ضحاها ، مستقطبا بسهولة من طرف فصيل طلابي ، و منخرطا ، بعد ذلك ، و بدون وعي، في سجالات فكرية و عقدية و إيديولوجية مطروحة في حلقة من حلقات النقاش ، لا قبل له بها

ثالثا : إنه لا يمكن لوم هذا الشباب التائه المغلوب على أمره ، و تحميله مسؤولية تأجيج الصراعات الإيديولوجية ، وترك المسؤول الحقيقي عن هذا العبث الجنوني الذي اجتاح جامعاتنا .

فاحدث يكشف بالملموس أن ما تلقاه أطفالنا في المدارس التعليمية الابتدائية و شبابنا اليافع في الإعداديات والثانويات والجامعات من تعلمات و قيم لم تنفعهم و لم تؤهلهم لكي يتبوئوا المكانة المرموقة المنتظرة منهم . شباب تعوزه القدرة المعرفية و الفكرية على إعادة بناء الذات بشكل صحيح . شباب قد حوله هذا العوز الفكري إلى كائن ذي مزاج عصبي ، عنيف سريع الغضب ، غير مقدر للعواقب الوخيمة التي قد تترتب عن سلوكه العنيف. إنه ، باختصار شديد ، شباب هجين أنتجته السياسات التربوية المغربية العقيمة، منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود ، و جعلته مجرد كائن خاضع لسلسلة من الكوارث و الاحباطات النفسية التي أثقلت كاهله و جعلته عرضة للتفكك النفسي و الاستيلاب الاجتماعي و الغبن السياسي . فسياسات أولي الأمر ، في مجال التربية و التكوين ، كانت، دائما تطبخ في الكواليس . و القرارات الحاسمة كانت تتخذ في غفلة عن الفاعلين الرئيسيين في هذا الميدان الحيوي ، من أساتذة و آباء و مربين ، بتواطؤ و مباركة من أحزاب و نقابات كان يشهد لها بأنها كانت في الصف التقدمي .

رابعا : إن قيمنا المعرفية و الجمالية و الأخلاقية و الاجتماعية التي ينبغي أن تدأب مؤسسات المجتمع ، بما فيها المؤسسات التعليمية بجميع أسلاكها ، على ترسيخها في سلوك ناشئتنا ، قد مست و تحولت إلى قيم سلبية تنذر بخراب الأسس التي يقوم عليها أي مجتمع .

يمكن القول ، قبل الختام ، بأن البنيتين المجتمعية و السياسية في المجتمع المغربي غير متفاعلتين بالشكل الذي يكفي ، الأمر الذي يجعلهما يلتقيان في نقط و يفترقان في أخرى .

فإذا كانت البنية الأولى منفتحة على الجديد و المفيد ، فإن الثانية منغلقة في مجالها ، تخاف كل جديد ، بل و تحاربه، إذ بقيت أسيرة أدواتها التقليدية في تدبير أمور المجتمع ، رغم الإصلاحات التي مست قشرتها السطحية . فتراجع الدولة المغربية عن خطتها الاستراتيجة الوطنية الهامة التي ابتدأتها بمغربة الأطر لاستكمال المشروع التحديثي ، جعلت المجتمع المغربي في أزمة مجتمعية حقيقية أبانت عن التفاوت المهول الذي تعيشه طبقات المجتمع، كما أبانت أيضا عن سوء توزيع ثروات البلاد ، و قادت إلى خيار الخوصصة ، فعرفت القطاعات الإنتاجية الأساسية ركودا ملحوظا ، بسبب إفشال المنظومة التعليمية ، فاكتشف الطلبة ، بعد التكوين ، أن مؤهلاتهم العلمية غير منسجمة مع متطلبات سوق العمل ، لتتضاءل ، بالتدريج فرص العمل أمامهم و تستفحل ظاهرة البطالة في صفوفهم . و يظهر ، بالتالي ، على السطح ، في حقل التعليم ، تكوينان :

- الأول خاص بالطبقات الموسرة التي تستطيع أن تدفع اكثر للحصول على تعليم جيد .

- الثاني خاص بالطبقات المعوزة و الفقيرة. و هو نوع أريد له أن يكون رديئا غير منتج .

و في عقد التسعينيات عجز المغرب عن ربط المؤسسة التعليمية ، و ضمنها الجامعة ، بالسياقات الكونية الكبرى نتج عنه اتساع الهوة بين الطالب و واقعه ، و تكسر ذلك الجسر الذي يسهل عليه المرور لاكتساب المعارف و المهارات و الكفايات بمختلف أنواعها ،، و الانفتاح على مختلف الممارسات الحياتية المتشعبة و طمس وعي تنويري تشكلت معالمه مع مقررات دراسية تساعد التلميذ و الطالب على تنمية استقلالية الرأي ، و تطويره حسه النقدي و ترسيخ ملكات الفكر التواقة إلى الحرية و الابداع و الابتكار ، لخلق ذات تواصلية و تفاعلية مع محيطها البعيد و القريب ، و تراجع بالتالي ، دور كل من المثقف و الأستاذ و اختزلت الأدوار الطلائعية للثقافة في أدوار تكميلية تقوم بها مهرجانات الغناء و الطرب مدعومة بإعلام ترفيهي الغرض منه هو تمييع ثقافات الشعوب و جعلها مبتدلة و غير صالحة إلا كديكور يؤثت المشهد الثقافي و يجعله رهينة فلكلور جالب للسياح و مساهم في تنمية اقتصاد معولم .

مقتل الطالب عبد الرحيم الحسناوي هو دعوة إلى التسامح ، و في نفس الوقت ، دعوة إلى أصلاح منظموتنا التربية . فلا مجتمع أفراده صالحون دون تعليم صالح .

.