الخميس، 21 مايو 2015

الجابري و إشكاليات الفكر العربي المعاصر : ازدواجية : " أصالة / معاصرة " كنموذج

عبد الجبار الغراز 
     حلت يوم الأحد الماضي 03 ماي ( آيار ) الذكرى الخامسة لوفاة المفكر المغربي محمد عابد الجابري ( 1936 – 2010 ) . و هي مناسبة هامة ، بالنسبة لكل عربي ، لكي يستحضر أعمال هذا الهرم العربي الذي أغنى الثقافة و الفكر العربيين بسلسلة من أبحاثه في مجال الفكر و الفلسفة و التراث ، وسع الجابري ، من خلالها ، مجالات تفكير هذا الإنسان العربي ، و ذلك بحس فكري تجديدي و رؤية نقدية عميقة للتراث العربي الإسلامي ، قربت هذا الأخير من إشكاليات ارتبطت بالماضي العربي ا لفكري و السياسي و الاجتماعي ، و هي الآن ، تحضر بقوة  في واقعه العربي المعاصر ، كقضايا مركزية لا مهرب منها . ( 1 )

     لقد تداخلت و تشابكت أوجه الطابع الإشكالي لهذه القضايا ، التي نذكر منها إشكالية الأصالة و المعاصرة و إشكالية أزمة الإبداع و إشكالية التقدم و إشكالية النهضة و إشكالية العلاقة بين العرب و الآخر الغربي ، لتشكل تجليا للواقع الثقافي للإنسان العربي ، في أفق تجاوز  أزمة الإبداع التي تعاني منها ثقافته العربية المعاصرة الراكدة، بقصد إنتاج شروط جديدة لمواجهة عسر الانتقال بها إلى مرحلة متقدمة .

      و قبل الدخول في عرض كيف تناول الجابري لازدواجية : " أصالة / معاصرة "، تناولا تحليليا و نقديا ، المعتمد عليها هنا في هذا المقال كنموذج لهذه الإشكاليات ، نود أن نستعرض، في عجالة ، مساره ، الذي سبق مرحلة تأسيسه لمشروعه الفكري في نقده لبنية العقل العربي.

      لقد قدم الجابري إسهامات كثيرة و متنوعة تنوعت بتنوع الأشواط التي قطعتها مسيرته الفكرية . إذ كانت له إسهامات في التأليف المدرسي في مادة الفلسفة و الفكر الإسلامي الموجه إلى تلامذة الباكالوريا ، و أخرى في مجال الإبستيمولوجيا و فلسفة العلوم الموجهة للطلبة الجامعيين . كما أن له إسهامات في مجال النضال السياسي ، قبل أن يتجه إلى الجانب الفكري الفلسفي مع بداية السبعينات من القرن العشرين . ( 2 )

       لقد ارتبط التأليف الفكري لدى الجابري ، بدراسة التراث العربي الإسلامي ، فأصدر كتابه عن ابن خلدون " العصبية و الدولة " كما اهتم بأقطاب الفلسفة العربية في العصر الوسيط ، كالفارابي و ابن سينا و ابن رشد و الغزالي ، فأنجز سلسة من المقالات ، هي في الأصل مداخلات في ندوات فكرية كان الجابري يشارك فيها، سواء في المغرب أو في  عدد من الدول العربية .

        و نظرا لتجاوب و استحسان عدد كبير من المفكرين و المثقفين العرب لهذه المقالات، لتناولها العميق لإشكاليات التراث العربي الإسلامي تناولا يعتمد الجدة و الأصالة في الطرح الفكري و الفلسفي ، فقد ارتأى الجابري جمعها في كتاب " نحن و التراث " . هذا الكتاب الذي اعتبر نقطة انطلاق حقيقية لفكره  في شق الطريق نحو تأصيل و تجديد التراث العربي الإسلامي النابع من تحليل عميق للعلاقة التي تجمع العرب بموروثهم الثقافي و الحضاري من جهة ، و النابع ، أيضا ، من فهم له في تاريخيته ( 3 )

        لقد كان يحدو الجابري ، في تلك المرحلة من حياته الفكرية ، هاجس بناء رؤية تقدمية للتراث العربي و الإسلامي. فكتابه الموسوم ب " من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية و التربوية " هو محاولة لتشكيل رؤية نقدية جديدة لطبيعة الإشكاليات الفكرية و التربوية التي تناولت مسألة التراث من زوايا متعددة. رؤية أرادت، من جهة، أن تربط الحاضر بالماضي من أجل رسم مستقبل مشرق و زاهر، و من جهة أخرى ، أرادت أن تحدد موقفا فكريا و منهجيا لمعالجة مختلف القضايا المرتبطة بالتراث و بفترتنا المعاصرة ( 4 )
       و قد اهتدى الجابري في  بناء هذه الرؤية التقدمية إلى تبني منهج علمي زاوج فيه ما بين النظرتين التاريخية و البنيوية المضاف إليهما موقف الذات المفكرة المعالجة للموضوع .

     و هكذا ، و على هذا الأساس المنهجي ، الذي بدأ يتسع عند كل محطة من حياة الجابري الفكرية ، حاول الجابري تعميق رؤيته و تصوره لقضايا تراثنا العربي ، انطلاقا من تحليل كيفية تعامل العرب مع قضاياهم المعاصرة ، خاصة تلك التي تخص ماضيهم في علاقته بحاضرهم . ذلك الحاضر المتسم ب " الانشطار " و ب " الانفصامية " ( على حد قول الجابري )  كحالة تعبر، في نظره ، عن وضعية ثبات و جمود عند نقطة وسط بين ماض متجاوز و حاضر غير متملك . حالة تكشف التجاذب و الصراع و الاصطدام  بين ثقافة العصر الوسيط و بين ثقافة العصر الحديث ، لتضع وضع ، بفعل ذلك ، العرب في مستوى إشكالي ، قفز به الجابري من مستوى مناقشة العلاقة بين القديم و بين الحديث إلى مستوى يمس الذات العربية في علاقتها بآخرها الذي هو الغرب الأوروبي .

    لقد اعتبر الجابري قضية علاقة الذات العربية بالآخر الأوروبي قضية مركزية قد أنتجت، في خضم المخاض العسير الذي يعيشه الواقع العربي المعاصر ( أو ما يسميه الجابري ب " عسر الانتقال إلى مرحلة متقدمة " )، قضايا و إشكاليات فرعية مختلفة و متداخلة ، كإشكالية "الأصالة و المعاصرة " و إشكالية " أزمة الإبداع " و إشكالية " النهضة " و قد انصب جهده على ممارسة النقد عليها و تحليلها عبر تفكيك خطاباتها لتغدو مسائل قابلة للحل ، بدل تركها ك" صور لاعقلانية مشوشة للكيان " أي كإشكاليات بدون حلول . ( 5 )

    يرى الجابري أن إشكالية " الأصالة و المعاصرة " قد كشفت عن صراع بين ثلاثة أقطاب و هي :
-       قطب عصراني متبن للنموذج الغربي " ( ليبراليون ، اشتراكيون ، قوميون ، و أصحاب النزعة القطرية الضيقة )
-        و قطب سلفي "  متبن للنموذج العربي القديم كما كان قبل عصور الانحطاط ( سلفيون راديكاليون يرون في ماضي السلف الصالح نبعا صافيا ينبغي الاغتراف منه اتقاء شرور الثقافة الغربية المعاصرة ، سلفيون معتدلون يقبلون بهذه الأخيرة شريطة عدم مخالفة ما أتت به الشريعة من أحكام )
-        وقطب متبن لموقف " انتقائي " يسعى إلى التوفيق بين " العصرنة " و بين " السلفية " عبر البحث في الحضارات الإنسانية ما يقوي " يؤصل " قيم الحضارة العربية الإسلامية .
     و في هذه الحالة ، اعتبر الجابري أن العرب قد بدوا في وضعية جبرية لم تسمح لهم بحرية الاختيار بين النموذج الغربي المعاصر و بين النموذج العربي الإسلامي الأصيل . فالتحديث الذي تعرفوا عليه لا يعدو أن يكون مجرد تحديث مستورد كشف ، بالتالي ، عن وجه استعماري مقيت للغرب ، وانعكس ، سلبا ، على مختلف شؤونهم التنظيمية و التدبيرية للاقتصاد و السياسة و المجتمع ، فظهرت هذه الأخيرة ، غارقة في السطحية و في الارتجال .

      و قد اقتضى الأمر ، في نظر الجابري ، لمعالجة إزدواجية : أصالة / معاصرة ، موضوعيا و تاريخيا ، فحص أسئلة النهضة التي تمخضت عنها، للبحث عن أسباب التأخر و التقدم و البحث عن كيفية النهوض و اللحاق بالركب الحضاري الغربي . و قد قام الجابري  بتحليلها و ممارسة النقد عليها ، ليكتشف ، في الأخير ، أنها مجرد أسئلة حالمة و إيديولوجية انطلقت من نقد الحاضر للاحتماء بالماضي البعيد من أجل توظيفه لمصلحة النهضة .

       فليس عيبا ، في نظر الجابري ، أن يستشعر العرب ، بعد قرون من الانحطاط و الجمود الفكري ، بضرورة النهوض اعتمادا على ماضيهم لتأكيد هويتهم و خصوصيتهم  الثقافية ، ضدا على أي ثقافة غازية ، لكن العيب كل العيب ، هو افتقاد التاريخ الثقافي العربي لإعادة الكتابة و التأسيس بروح نقدية . ذلك التاريخ ، الذي هو في واقعه ،  يؤرخ  لخلاف الرأي و ليس لبناء الرأي ( 6 ) تاريخ الفصل و ليس الوصل تاريخ التزامن و ليس التعاقب تاريخ فاقد لمعنى التغاير . تاريخ مرتبط بالمكان أكثر مما هو مرتبط بالزمان ، تاريخ  قائم على التراكم بدل التعاقب قائم على الفوضى بدل النظام . و تعتبر إعادة الكتابة و التأسيس هته ، في رأيه ، خطوة و سبيلا لرد الاعتبار إلى هذا التاريخ .

     و لن يتأتى ذلك، في نظر الجابري ، إلا إذا تم فحص الأداة التي أنتجت هذه الثقافة ( العقل العربي ) و تفكيك بنيتها الداخلية لمعرفة كيف تأسست و تكونت و معرفة نوعية الإنتاج الذي أنتجته ( 7 ) و قد كان هذا هو الهدف الرئيسي من إصدار الجابري لكتابه الموسوم ب " الخطاب العربي المعاصر " أي افتتاح مشروعه الكبير في نقد العقل العربي حيث انكب على تحليل الخطاب النهضوي العربي الحديث و المعاصر لإبراز مكامن ضعفه و إبراز عيوبه و نواقصه لكشف صورة العقل العربي كما هي .
  
الهوامش :
1 -  تزامنا مع هذه الذكرى الخامسة لوفاة محمد عابد الجابري أنتجت " قناة الجزيرة الوثائقية " فيلما وثائقيا من إخراج عز العربي العلوي . و قد تم عرضته في شهر أبريل ( نيسان ) المنصرم .  و من فاتته مشاهدته يمكن النقر على الرابط التالي
2 – أنظر تقديم الأستاذ محمد وقيدي لوقائع ندوة " نقد العقل العربي في مشروع الجابري " مجلة الوحدة العربية السنة الثالثة – العددان 26 و 27 تشرين الثاني / نونبر 1986 . و قد أعاد نشره الجابري في كتابه الموسوم ب " التراث و الحداثة " في الفصل الثاني عشر ص – 265 .
3 -  نفس المرجع : " التراث و الحداثة " ص – 267
4 – " التراث و الحداثة " ص – ص 268 – 269 .
5 -  أنظر إلى كتاب : " إشكاليات الفكر العربي المعاصر " للدكتور محمد عابد الجابري – مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الثانية : بيروت – أيلول / سبتمبر 1990 ص – ص : 9 – 10
6 – نفس المرجع . ص 38
7 – نفس المرجع . ص 39  



نشر هذا المقال اليوم بجريدة " الأخبار " المغربية عدد 774 بتاريخ الخميس 21 ماي 2015 م الموافق ل 2 شعبان 1436 ه 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق