الخميس، 22 أكتوبر 2015

العرب و الاستحقاقات المنتظرة .. هل من سبيل ليقظة عربية جديدة ؟؟؟


عبد الجبار الغراز
        في ظل الوضع المتردي الذي يشهده عالمنا العربي المعاصر، نطرح على أنفسنا التساؤلات التالية:
        كيف نستطيع، كأمة،  الخروج من هذه الدائرة المغلقة، دائرة الاقتتال و حرب الكل ضد الكل؟
        و هل من سبيل إلى " يقظة عربية حديثة" ثانية شبيهة بتلك اليقظة الأولى التي حدثت في القرن التاسع عشر ، و التي ربطت تقدمنا بتوفير شروط معينة كشرط التحرر السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي و الفكري،  و شرط إرساء أسس الديمقراطية الحقيقية و شرط صون الحقوق و ضمان الكرامة و شرط تحقيق العدالة الاجتماعية للجميع ؟
       و ما موقفنا ، كنخبة مثقفة ، من كل هذه الصراعات الطائفية و المذهبية ، الذي نخر اشتداد حدتها في الآونة الأخيرة ، جسمنا الثقافي و شوه معالمه بعد أن كان مكونا حضاريا ذو حضور وازن في الثقافة العالمية المعاصرة و ذو مكانة راقية استمدها من ماضيه المشرق ؟
       و بأي معنى يمكن تفسير هذا النكوص ، و هذا التراجع الخطير الذي شاب ثقافتنا العربية حتى غدت ثقافة راكدة لا توقظ في وجدان الأمة سوى الخنوع و الاستسلام و الانهزامية ، و لا تشحن في الهمم و في النفوس كل طاقة متجددة تساعد على النهوض و المضي قدما نحو بناء المستقبل المشرق ، بدل الاكتفاء بالالتفات إلى الماضي و التباكي بحسرة على أمجاد الأجداد ؟
       ألم يحن الأوان بعد،  للتفكير بجدية في التخلف الفكري التي تعاني منه مجتمعاتنا العربية و الإسلامية، و الذي أصبح سمة بارزة طبعت كياننا، فبتنا نعرف بها عند القاصي و الداني ؟
       أما من وسيلة ممكنة ترفع عنا هذا التأخر التاريخي الجاثم على الأرواح و الكاتم للأنفاس التواقة للتغيير؟
       ألا ينبغي ، في الأخير ، و الحالة هذه ، تبني الفكر الحدااثي و الدفاع عن قيمه التي تولدت عنه ؟
        يمكن القول ، كمحاولة للإجابة عن بعض من هذه الأسئلة ، أن الغرب الليبرالي قد استنفذ أغراض القطبية الأحادية ، و أصبح العالم ، بفعل ذلك ، يعيش مرحلة بداية نهاية نظرية " نهاية التاريخ " ل " فوكوياما ". فما نراه و ما نشاهده ، على مستوى الساحة السياسية العالمية ، من غليان و فوران الأطراف على المركز لشاهد على ما قلناه . ذلك، أن للتاريخ منطق خاص به يفيد بأن كل الكائنات التاريخية تتعرض ، بشكل حتمي ، لحوادث تسعى إلى تشكيل تلك الكائنات ، في بداية الأمر ، في صورة بنية  متماسكة داخليا ، لكن ، بعد حين من الدهر، يشوب الخلل العناصر ، لتلحقها الأضرار و الإعطاب  ، فتؤول إلى الفساد التدريجي الذي يعقبه الزوال و الاندثار. و معنى هذا القول أن لا تجربة حضارية ستثبت، إلى ما لا نهاية، على وضع واحد في الزمان و في المكان .
       فأمام هذا  " المكر التاريخي "،  أصبحنا ، نحن العرب ، مدعوين أكثر من غيرنا من سائر الأمم المعاصرة ، إلى التفكير في تبني إستراتيجيات عربية موحدة تجعلنا ننفض عنا غبار ما خلفته الأحادية القطبية من دمار و خراب عصف ب" حلمنا العربي " الذي  كاد ، بالأمس القريب ،  أن يكون قابلا للتحقيق ، لولا انخراطنا ، بوعي منا أو بدونه ، في رسم خطوط هذه التجربة التاريخية و الاقتصادية اللبرالية الغربية الموسومة ب " العولمة "  ، إذ  لم يسعفنا هذا الانخراط في تحقيق التحرر الاقتصادي و السياسي و الفكري المنشود ، بل قادنا، على العكس من ذلك ، إلى الصراع  المؤدي إلى التفرقة و التشرذم .      
     ينبغي علينا، و الحالة هذه ، إذا أردنا الخروج من هذا المأزق ، الانتباه إلى مختلف العوامل الإيجابية ، السياسية منها و الاقتصادية و الفكرية ، التي راكمنا من خلالها ، منذ  أكثر من قرن و نيف ، تجارب حياتية عديدة  مفيدة و بناءة للذات الجماعية .
     هذه التجارب قد ساعدتنا على تجاوز معضلات تولدت زمن الحرب الباردة ، و هاهي الآن ، ستساهم ، و لا شك ، إن أحسنا استثمارها عقلانيا، في تفكيك ما قد تم تركيبه ، سلبا ، مع بداية الألفية الثالثة إلى الآن ، من معضلات جديدة ، كما ستساعدنا أيضا على التحرر من تبعاتها نهائيا .
      معضلات شكلت إطارا  واسعا باديا للعيان ، ارتسم داخله وضع عربي مأزوم ،  وعكس ، بشكل تعسفي ، لأنظار العالم ، صورة قاتمة و مشوهة لأنسنتنا العربية الأصيلة .
       فالمعركة الحقيقية التي تنتظرنا أن نخوضها جميعا ، كعرب هي معركة التحرر الاقتصادي و السياسي و الفكري ، معركة بناء الذات وفق رؤية  لا تتصالح مع الماضي إلا عند اعتماده كقاعدة ثقافية مركبة تدخل في تكوينها ثقافة الذات و ثقافة الآخر ، و لا تنظر إلى الحاضر كمجرد محطة عبور عابرة .
       فهذا الطابع الجديد الذي يسم نظرتنا للماضي و للحاضر هو طابع كيفي سيساعدنا على رسم الخطوط العريضة للمستقبل الواعد. فقد نفشل أثناء خوضنا لمعاركنا الحضارية ، و قد نتعثر بسبب طبيعة المسالك الوعرة التي تطأها أقدامنا ، لكن الإصرار على مواصلة المسير هو وحده الكافي لإقناع أنفسنا أن نقطة الوصول إلى المبتغى ، مهما بعدت ، لن تكون  ، هذه المرة ، سرابا ، بل واقعة حقيقية .
      و في الأخير يمكن القول بأن لا سبيل إلى ربح رهان هذه المعركة إلا بالتثقيف و نشر الوعي في صفوف الشباب  و إصلاح المنظومة التربوية . فمسيرة بناء الذات و الكيان الجماعي تتطلب أن نفحص ، بكل جدية و بكل عقلانية ، أعطابنا المركزية و ذلك بمحو تلك الصورة التي كوناها عن أنفسنا ، و تكرست في أذهان الغرب كصورة نمطية للإنسان العربي .
      نحن نعيش الآن في مفترق الطرق ، و العالم من حولنا يتغير بسرعة  . و هذا يتطلب ضرورة التصرف على وجه عقلاني أكمل للتكيف الإيجابي معه . فلا محيد لنا، إذن ، عن تحمل مسؤولياتنا التاريخية الكبرى التي تنعكس ، سلبا أو إيجابا ،على أبنائنا و أجيالنا اللاحقة .. فلا منأى لأحد منا عن هذا التغير. فهدر الفرص في التنمية و تحديث البنيات السياسية و الاقتصادية و الفكرية معناه إنتاج مزيد من المآزق و المثبطات.
نشر بمجلة الهوية الكويتية بتاريخ 2 أغسطس - غشت  2015  تحت عدد 82 . 

الخميس، 21 مايو 2015

الجابري و إشكاليات الفكر العربي المعاصر : ازدواجية : " أصالة / معاصرة " كنموذج

عبد الجبار الغراز 
     حلت يوم الأحد الماضي 03 ماي ( آيار ) الذكرى الخامسة لوفاة المفكر المغربي محمد عابد الجابري ( 1936 – 2010 ) . و هي مناسبة هامة ، بالنسبة لكل عربي ، لكي يستحضر أعمال هذا الهرم العربي الذي أغنى الثقافة و الفكر العربيين بسلسلة من أبحاثه في مجال الفكر و الفلسفة و التراث ، وسع الجابري ، من خلالها ، مجالات تفكير هذا الإنسان العربي ، و ذلك بحس فكري تجديدي و رؤية نقدية عميقة للتراث العربي الإسلامي ، قربت هذا الأخير من إشكاليات ارتبطت بالماضي العربي ا لفكري و السياسي و الاجتماعي ، و هي الآن ، تحضر بقوة  في واقعه العربي المعاصر ، كقضايا مركزية لا مهرب منها . ( 1 )

     لقد تداخلت و تشابكت أوجه الطابع الإشكالي لهذه القضايا ، التي نذكر منها إشكالية الأصالة و المعاصرة و إشكالية أزمة الإبداع و إشكالية التقدم و إشكالية النهضة و إشكالية العلاقة بين العرب و الآخر الغربي ، لتشكل تجليا للواقع الثقافي للإنسان العربي ، في أفق تجاوز  أزمة الإبداع التي تعاني منها ثقافته العربية المعاصرة الراكدة، بقصد إنتاج شروط جديدة لمواجهة عسر الانتقال بها إلى مرحلة متقدمة .

      و قبل الدخول في عرض كيف تناول الجابري لازدواجية : " أصالة / معاصرة "، تناولا تحليليا و نقديا ، المعتمد عليها هنا في هذا المقال كنموذج لهذه الإشكاليات ، نود أن نستعرض، في عجالة ، مساره ، الذي سبق مرحلة تأسيسه لمشروعه الفكري في نقده لبنية العقل العربي.

      لقد قدم الجابري إسهامات كثيرة و متنوعة تنوعت بتنوع الأشواط التي قطعتها مسيرته الفكرية . إذ كانت له إسهامات في التأليف المدرسي في مادة الفلسفة و الفكر الإسلامي الموجه إلى تلامذة الباكالوريا ، و أخرى في مجال الإبستيمولوجيا و فلسفة العلوم الموجهة للطلبة الجامعيين . كما أن له إسهامات في مجال النضال السياسي ، قبل أن يتجه إلى الجانب الفكري الفلسفي مع بداية السبعينات من القرن العشرين . ( 2 )

       لقد ارتبط التأليف الفكري لدى الجابري ، بدراسة التراث العربي الإسلامي ، فأصدر كتابه عن ابن خلدون " العصبية و الدولة " كما اهتم بأقطاب الفلسفة العربية في العصر الوسيط ، كالفارابي و ابن سينا و ابن رشد و الغزالي ، فأنجز سلسة من المقالات ، هي في الأصل مداخلات في ندوات فكرية كان الجابري يشارك فيها، سواء في المغرب أو في  عدد من الدول العربية .

        و نظرا لتجاوب و استحسان عدد كبير من المفكرين و المثقفين العرب لهذه المقالات، لتناولها العميق لإشكاليات التراث العربي الإسلامي تناولا يعتمد الجدة و الأصالة في الطرح الفكري و الفلسفي ، فقد ارتأى الجابري جمعها في كتاب " نحن و التراث " . هذا الكتاب الذي اعتبر نقطة انطلاق حقيقية لفكره  في شق الطريق نحو تأصيل و تجديد التراث العربي الإسلامي النابع من تحليل عميق للعلاقة التي تجمع العرب بموروثهم الثقافي و الحضاري من جهة ، و النابع ، أيضا ، من فهم له في تاريخيته ( 3 )

        لقد كان يحدو الجابري ، في تلك المرحلة من حياته الفكرية ، هاجس بناء رؤية تقدمية للتراث العربي و الإسلامي. فكتابه الموسوم ب " من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية و التربوية " هو محاولة لتشكيل رؤية نقدية جديدة لطبيعة الإشكاليات الفكرية و التربوية التي تناولت مسألة التراث من زوايا متعددة. رؤية أرادت، من جهة، أن تربط الحاضر بالماضي من أجل رسم مستقبل مشرق و زاهر، و من جهة أخرى ، أرادت أن تحدد موقفا فكريا و منهجيا لمعالجة مختلف القضايا المرتبطة بالتراث و بفترتنا المعاصرة ( 4 )
       و قد اهتدى الجابري في  بناء هذه الرؤية التقدمية إلى تبني منهج علمي زاوج فيه ما بين النظرتين التاريخية و البنيوية المضاف إليهما موقف الذات المفكرة المعالجة للموضوع .

     و هكذا ، و على هذا الأساس المنهجي ، الذي بدأ يتسع عند كل محطة من حياة الجابري الفكرية ، حاول الجابري تعميق رؤيته و تصوره لقضايا تراثنا العربي ، انطلاقا من تحليل كيفية تعامل العرب مع قضاياهم المعاصرة ، خاصة تلك التي تخص ماضيهم في علاقته بحاضرهم . ذلك الحاضر المتسم ب " الانشطار " و ب " الانفصامية " ( على حد قول الجابري )  كحالة تعبر، في نظره ، عن وضعية ثبات و جمود عند نقطة وسط بين ماض متجاوز و حاضر غير متملك . حالة تكشف التجاذب و الصراع و الاصطدام  بين ثقافة العصر الوسيط و بين ثقافة العصر الحديث ، لتضع وضع ، بفعل ذلك ، العرب في مستوى إشكالي ، قفز به الجابري من مستوى مناقشة العلاقة بين القديم و بين الحديث إلى مستوى يمس الذات العربية في علاقتها بآخرها الذي هو الغرب الأوروبي .

    لقد اعتبر الجابري قضية علاقة الذات العربية بالآخر الأوروبي قضية مركزية قد أنتجت، في خضم المخاض العسير الذي يعيشه الواقع العربي المعاصر ( أو ما يسميه الجابري ب " عسر الانتقال إلى مرحلة متقدمة " )، قضايا و إشكاليات فرعية مختلفة و متداخلة ، كإشكالية "الأصالة و المعاصرة " و إشكالية " أزمة الإبداع " و إشكالية " النهضة " و قد انصب جهده على ممارسة النقد عليها و تحليلها عبر تفكيك خطاباتها لتغدو مسائل قابلة للحل ، بدل تركها ك" صور لاعقلانية مشوشة للكيان " أي كإشكاليات بدون حلول . ( 5 )

    يرى الجابري أن إشكالية " الأصالة و المعاصرة " قد كشفت عن صراع بين ثلاثة أقطاب و هي :
-       قطب عصراني متبن للنموذج الغربي " ( ليبراليون ، اشتراكيون ، قوميون ، و أصحاب النزعة القطرية الضيقة )
-        و قطب سلفي "  متبن للنموذج العربي القديم كما كان قبل عصور الانحطاط ( سلفيون راديكاليون يرون في ماضي السلف الصالح نبعا صافيا ينبغي الاغتراف منه اتقاء شرور الثقافة الغربية المعاصرة ، سلفيون معتدلون يقبلون بهذه الأخيرة شريطة عدم مخالفة ما أتت به الشريعة من أحكام )
-        وقطب متبن لموقف " انتقائي " يسعى إلى التوفيق بين " العصرنة " و بين " السلفية " عبر البحث في الحضارات الإنسانية ما يقوي " يؤصل " قيم الحضارة العربية الإسلامية .
     و في هذه الحالة ، اعتبر الجابري أن العرب قد بدوا في وضعية جبرية لم تسمح لهم بحرية الاختيار بين النموذج الغربي المعاصر و بين النموذج العربي الإسلامي الأصيل . فالتحديث الذي تعرفوا عليه لا يعدو أن يكون مجرد تحديث مستورد كشف ، بالتالي ، عن وجه استعماري مقيت للغرب ، وانعكس ، سلبا ، على مختلف شؤونهم التنظيمية و التدبيرية للاقتصاد و السياسة و المجتمع ، فظهرت هذه الأخيرة ، غارقة في السطحية و في الارتجال .

      و قد اقتضى الأمر ، في نظر الجابري ، لمعالجة إزدواجية : أصالة / معاصرة ، موضوعيا و تاريخيا ، فحص أسئلة النهضة التي تمخضت عنها، للبحث عن أسباب التأخر و التقدم و البحث عن كيفية النهوض و اللحاق بالركب الحضاري الغربي . و قد قام الجابري  بتحليلها و ممارسة النقد عليها ، ليكتشف ، في الأخير ، أنها مجرد أسئلة حالمة و إيديولوجية انطلقت من نقد الحاضر للاحتماء بالماضي البعيد من أجل توظيفه لمصلحة النهضة .

       فليس عيبا ، في نظر الجابري ، أن يستشعر العرب ، بعد قرون من الانحطاط و الجمود الفكري ، بضرورة النهوض اعتمادا على ماضيهم لتأكيد هويتهم و خصوصيتهم  الثقافية ، ضدا على أي ثقافة غازية ، لكن العيب كل العيب ، هو افتقاد التاريخ الثقافي العربي لإعادة الكتابة و التأسيس بروح نقدية . ذلك التاريخ ، الذي هو في واقعه ،  يؤرخ  لخلاف الرأي و ليس لبناء الرأي ( 6 ) تاريخ الفصل و ليس الوصل تاريخ التزامن و ليس التعاقب تاريخ فاقد لمعنى التغاير . تاريخ مرتبط بالمكان أكثر مما هو مرتبط بالزمان ، تاريخ  قائم على التراكم بدل التعاقب قائم على الفوضى بدل النظام . و تعتبر إعادة الكتابة و التأسيس هته ، في رأيه ، خطوة و سبيلا لرد الاعتبار إلى هذا التاريخ .

     و لن يتأتى ذلك، في نظر الجابري ، إلا إذا تم فحص الأداة التي أنتجت هذه الثقافة ( العقل العربي ) و تفكيك بنيتها الداخلية لمعرفة كيف تأسست و تكونت و معرفة نوعية الإنتاج الذي أنتجته ( 7 ) و قد كان هذا هو الهدف الرئيسي من إصدار الجابري لكتابه الموسوم ب " الخطاب العربي المعاصر " أي افتتاح مشروعه الكبير في نقد العقل العربي حيث انكب على تحليل الخطاب النهضوي العربي الحديث و المعاصر لإبراز مكامن ضعفه و إبراز عيوبه و نواقصه لكشف صورة العقل العربي كما هي .
  
الهوامش :
1 -  تزامنا مع هذه الذكرى الخامسة لوفاة محمد عابد الجابري أنتجت " قناة الجزيرة الوثائقية " فيلما وثائقيا من إخراج عز العربي العلوي . و قد تم عرضته في شهر أبريل ( نيسان ) المنصرم .  و من فاتته مشاهدته يمكن النقر على الرابط التالي
2 – أنظر تقديم الأستاذ محمد وقيدي لوقائع ندوة " نقد العقل العربي في مشروع الجابري " مجلة الوحدة العربية السنة الثالثة – العددان 26 و 27 تشرين الثاني / نونبر 1986 . و قد أعاد نشره الجابري في كتابه الموسوم ب " التراث و الحداثة " في الفصل الثاني عشر ص – 265 .
3 -  نفس المرجع : " التراث و الحداثة " ص – 267
4 – " التراث و الحداثة " ص – ص 268 – 269 .
5 -  أنظر إلى كتاب : " إشكاليات الفكر العربي المعاصر " للدكتور محمد عابد الجابري – مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الثانية : بيروت – أيلول / سبتمبر 1990 ص – ص : 9 – 10
6 – نفس المرجع . ص 38
7 – نفس المرجع . ص 39  



نشر هذا المقال اليوم بجريدة " الأخبار " المغربية عدد 774 بتاريخ الخميس 21 ماي 2015 م الموافق ل 2 شعبان 1436 ه 

السبت، 4 أبريل 2015

جدلية العتمة و الضوء



أهدي هذه القصيدة ..
إلى كل قلم شريف .. 
و إلى كل شرفاء وطننا المكابر ..  

                                          جدلية العتمة و الضوء

 للمفسدين ،
صائدي هذا الوطن المسكين
، الذين انسلوا هاربين،
 قبيل فجر ذلك اليوم الأليم ،
من باب جبنهم الهجين ،
بعد أن جففوا ينابيع الفرات
و كنزوا الدينار ..
و الدولار اللعين ..
 و طرزوا على رقعة هذا الوطن
 الفوضى ،
 الألم و الأنين ..
و لم يخلفوا وراءهم ..
سوى هذا الحزن الدفين ،
 ليحصد الخيبات ..
 تلو الخيبات ، 
لهم أقول :   
" أنا فارس الحرف،
الكتابة بالنسبة لي
 ساحة وغى 
أصول فيها أنا ..
 و أجول ..
سأتعقب آثاركم
لأفضحكم
 يا فرسان الجبن
 يا من يحملون سكين الغدر
 ليفصلوا هامات أفكارنا عن أجسادها
و هوياتنا عن تربتها ..
فلتعلموا إذن ..
 يا فرسان الموت
أن تاريخنا ، الذي بيننا،  شاهد 
 لم يكن في يوم من الأيام
 محطة خفاء ..
 أو عتمة للاختباء..
إنه ضوء ينسج خيوطه الذهبية
  الشعراء
 بقصائد علت فوق كل سماء
لتنير كل هاتي الأجواء.
 فلا تعبثوا يا وجه الوسخ
بماضي الشرفاء .
و لا تنسوا ..  
أن تاريخنا الأليم ،
 مكر ..
و ليس كر
 و لا فر
  فأين المفر ؟
القصيدة منشورة في جريد " الأخبار " المغربية عدد : 768 الخميس 14 ماي 2015 

طفولة قاتلة .. و مقتولة !





طفولة قاتلة .. و مقتولة !
عبد الجبار الغراز


       يأبى " الإرهاب  " ، هذه المرة ، إلا أن يقدم للعالم دراما دموية ، في صورة جديدة ، حيث أظهر ، بنرجسيته المتعطشة للدماء ، الطفولة قاتلة، و في نفس الآن ، أظهرها  مقتولة ..
       فما معنى أن تكون الطفولة قاتلة و مقتولة في نفس الآن ؟
     
       طرحت على نفسي هذا السؤال بعدما شاهدت الفيديو الصادم الذي يصور مشهدا مروعا لطفل صغير يقتل ببرودة أعصاب رهينة ، بعد أن تسلم مسدسا أوتوماتيكيا من أحد عناصر تنظيم داعش ،  ولم  أجد لسؤالي هذا،  جوابا شافيا  يبدد أعاصير تلك النوبة الهيستيرية التي انتابتني . فالمنظر ، لو ندري ، فظيع بكل المقاييس ..
   
       نوبة لم أستطع الخروج منها إلا و في القلب غصة وفي الوجدان جروح أمدتني بحزمة من أسئلة من قبيل: 
     كيف يصيرسلاح فتاك يدا بيضاء ناعمة إلى يد خشنة  جبارة ، لا تعرف غير  لغة البطش والفتك وإزهاق الأرواح  ؟
      وكيف تتحول ،هكذا فجأة ، عينا ملاك رباني ، كانتا تفيضان ببريق البراءة والطهر، إلى عيني شيطان تقذفان الشرر والتوحش والغدر؟
      أ إلى هذا الحد يحول الإرهاب سكينة النفوس ، كما شكلتها يد الخالق ، إلى  زمهرير في ليلة عاصفة ؟
  
     لقد عودنا الإعلام المرئي ، في عصر طغيان ثقافة الصورة ، أن نرى أجساد الأطفال ، ضحايا الحروب الظالمة ، مرمية في الشوارع ، هنا ..  وهناك ، لكننا لم نتعود ، أبدا ، على رؤية طفل ينتحل ، قسرا ، صفة جلاد ليعدم بأعصاب باردة رهينته .
  
     فما أقبحه من سلوك  سالب للبراءة وللعفوية هذا الذي قامت به يد " الإرهاب "  !!! وما أغربه من سلوك يؤصل العنف والعدوان في جسم الطفولة البريئة !

    فقد يموت " الإرهاب"، لكن سيترك فراخه، وقد تلبس شيطان العنف والفتك والقسوة ، التي لا حدود لها ،  أرواحها البائسة . 
   أما كان من الأجدى أن تحمل يدا هذا الطفل المسكين، بدل المسدس ، أقلاما ملونة لترسم بها وطنا متوجا بالغد المشرق   الجميل ؟
     
    إن هذا المشهد الرهيب ، يدعونا إلى التفكير في مفهوم الإرهاب  لإعادة النظر فيه بقصد إعطائه  دلالة أخرى تقودنا إلى معرفة أن لهذا الأخير جذورا تغذت على ثقافة سلبية ما تزال ، للأسف الشديد مجتمعاتنا العربية والإسلامية أسيرة لها .. ثقافة تحكم ، مسبقا ، على الطفولة بالإعدام مع وقف التنفيذ ..


       " الإرهاب "، هذا الذي عرفناه ، انطلاقا من وسائل الإعلام ، والذي يتجسد في صورة وجه ملثم يخفي عن الأنظار ملامحه،اللهم إلا من أعين يتطاير منها شرر الحقد والكراهية، أو يتجسد في صورة يد خشنة تضرب الأعناق لتفصل الرؤوس عن أجسادها ، ما هو إلا صورة مظهرية لإرهاب خفي مبثوث في ثنايا الثوب ، قابع في أعماق النفوس الآدمية . إنه، بهذا المعنى الأخير ، بنيةune structure   نجدها قد تكونت و تفاعلت عناصرها و تأسست ، أول الأمر، في أسر تشكو من نقص مزمن في فيتامين  الدفء الأسري الناعم .. أسر لم  ترضع أطفالها ، قبل اللبن ، الحب و الحنان ، ولم تلبسهم  ، قبل الكسوة ذات الجودة الرفيعة ، لباس التقوى ، ولم تفطمهم على النبل وتقدير الذات واحترام النفس الذي لا يكون إلا بتقدير واحترام الآخر.

    كما قد نجده، ثانيا ، قد تأسس في الحضانة .. في المدارس.. في الاعداديات.. في الثانويات.. في الجامعات وفي الشوارع الحاضنة للوساخة والقبح الرافض لكل ما هو مفيد وممتع و جميل .     
       
     ففي ظل مثل هذه الأوساط الموبوءة ، يعيش الإنسان بلا حس إنساني و اجتماعي و جمالي يحميه من شر نفسه و من شرور غيره ، ،كائنا مغترب الكيان ، متماه مع أفكار شيطانية تجتاحه و تستحوذ عليه وتتلبسه و تفعل به ما تشاء، ليظهر متوحدا معها في جسم ناري حارق حامل لهوية شيطانية ممسوخة ، ويصبح ، في نظر العرف الإنساني و القوانين السماوية والوضعية ، إرهابي  بامتياز . وهو ، في حقيقة الأمر ، إنسان غير مسؤول عن أشياء قد ارتكبتها يداه ..
        
     فتدريب أطفال على ذبح الدمى و على حمل السلاح و استعماله في معسكرات التدريب لا معنى له سوى تكريس احترافية القتل و تأصيلها في وجدان طفولة تساق إلى متاهات الإرهاب ، بدل إلحاقها بالفصول الدراسية من أجل اكتساب المعارف والمهارات اللازمة التي ستساعدها على استيعاب الحياة في تركيبتها جد المعقدة ..

         فعندما ستصبح هذه الطفولة يافعة و تعوزها القدرة على فهم الواقع ، وقتها سيتسلل الخطاب الديني البسيط و السطحي إلى عقلها ليسحرها، فتنساق ، من حيث لا تدري ، إلى متاهات و دروب الفكر التكفيري الذي يحولها إلى مجرد آلة مبرمجة تأتمر بأوامر أياد تحركها في خفاء .
       
        إنه لشيء مؤسف أن نرى ، بعيون المستقبل الغامض والمجهول ، أجيالا ضائعة من الأطفال ، فاقدة لمعاني الحس الإنساني المشترك ، طامسة لماهيتها ، التي هي إنسانيتها . أجيال تتورط ، و هي في عمر الزهور،  من حيث لا تدري ، في حروب و ويلات أكبر منها، بحيث لا يستطيع عقلها الناشئ استيعاب ما يجري لها. فإذا كبر الجسم وشب فيه الكائن ، بقي العقل والوجدان ثابتين لا يتغيران، وقد احتواهما قالب التكفير احتواء، فيمسي الإنسان أسيرا لذلك القالب إلى أبد الآبدين . بعدها، تغدو تلكم النفس التي كانت مطمئنة ، تسرح في ملكوت الطفولة المرحة ، نفسا أمارة بالقتل والحرق و فصل الرؤوس عن أجسادها .. نفسا شخصانية مرضية تكشف عن أورام سرطانية اجتماعية ، لم يعد من الإمكان استئصالها.
       
        فهل سيستطيع ، بعدها ، الأطباء وعلماء النفس والأخصائيون الاجتماعيون معالجة ظواهر، ستظهر على سطح الأحداث بعد حين من الدهر ، وقد تجذرت في أعماق طفولة مغتصبة ، وانغرست كالألغام في قرارها المكين ؟  

       وقبل الختام ، أوجه خطابي إلى كل سياسيي العالم ، الذي هو بمثابة صرخة مدوية في وجوههم قائلا لهم :
       " رجاء أوقفوا هذا النزيف الحاد في جسم الطفولة .. إن صمتكم هو تواطؤ مع هذا الإرهاب ومؤشر دال على موت الإنسان فيكم .

       فافعلوا شيئا لأجل هذه الطفولة المسكينة قبل فوات الأوان ". 
نشر هذا المقال بمجلة الكويت عدد يونيو 2015 - رمضان - شوال 1436 تحت عدد 381 

الاثنين، 5 يناير 2015

الفيلم الوثائقي: " تحت الثلج.. البياض القاتل " للمخرج المغربي عز العرب العلوي : البياض الذي ارتد إلى سواد


الفيلم الوثائقي: " تحت الثلج.. البياض القاتل " للمخرج المغربي عز العرب العلوي :
البياض الذي ارتد إلى سواد


عبد الجبار الغراز

      عرضت مؤخرا ،  قناة " الجزيرة الوثائقية  " الفيلم الوثائقي " تحت الثلج .. البياض القاتل " لمخرجه المغربي " عز العرب العلوي. و قد استحق هذا الفيلم ، من هذه القناة أن يعرض ، ضمن ركن " العدسة الحرة "   نظرا لكونه يستجيب ، بشكل كبير ، لشروط الجودة و الإبداع ، على مستوى رؤية المخرج  النقدية  للعالم التي جمعت ما بين الواقعي و الإستيتيقي ، بشكل تجعلنا ، كمتلقين ، ننحاز،  بوعي كبير ، إلى أفكار الفيلم ،  و نتتفاعل ، إيجابيا ،  مع تداعياتها الفنية و الإبداعية .
    عند بداية العرض نجد أنفسنا ، لأول وهلة ،  مشدودين إلى هذا الفيلم ، و ما خطه المخرج بالبياض من كلمات هي بمثابة مقدمة تمهد لمجريات الفيلم و وقائعه ، و كأنه يريد ، من خلال ذلك  ، أن يضعنا في صورة واقع ستبدأ بتشكيله ، بصريا ، عدسات كاميراته ..
      مقدمة تشرح  ، باقتضاب  ، كيف استطاع الثلج في قرية نائية في جبال الأطلس المتوسط المغربية أن يفرض جبروته  " الأبيض " على أهلها ،  ذكورا و إناثا ، أطفالا و شبابا و شيبا .
     " تحت الثلج ... " ، إذن ، هو تصوير بليغ لمعاناة أناس في رحلة بحث عن قوتهم اليومي و قوت ماشيتهم ..  بحث عن دفء مادي لم  ينته،  بعد و لا قبل ، بجمع أعواد حطب تحولت إلى لهيب مشتعل في مواقدهم الحديدية ، و لم ينته حتى  بذلك الدفء  المعنوي الذي تنعشه ، بين اللحظة و الأخرى ، ما تنسجه علاقاتهم الأسرية الممتدة التي يتميز بها مجتمع القرية ، من تآزر و تعاون و تضامن .  
     فمنذ البداية ، تدخلنا عدسات كاميرات المخرج عز العرب العلوي في ثنايا هذا الثلج وبياضه لاكتشاف عوالمه و بريقه الخداع ..
    ففي الاتجاه السالك لمكان ما .. مكان مجهول  يطلب منا الفيلم اكتشافه ، تبدو تلك  الطريق المؤدية إليه ( حيث نترك على يميننا  مدينتي ميسور و بولمان و على يسارنا مدينتي فاس و صفرو )  و كأنها بساط أسود وسط فضاء أبيض تتخلله نتوءات  تكشف عن مكان موحش و قفر . الداخل إليه مفقود و الخارج منه مولود .
     مكان، لا نرى فيه ، على حد ملمح بصرنا ، سوى هذا البياض  الشاخص الذي يجتاح كل الفضاءات ، و لا نسمع فيه سوى أصوات الريح بكل تلاوينها ، و كأنها عواء ذئاب جائعة ..
      بياض تتخلله  نتوءات تظهر و تختفي ، و كأن ثمة صراع لا مرئي بين الوجود و العدم ، الظلمة و النور .. المكان و اللامكان  ..   بياض قد ارتد إلى سواد ..  فضاعت معه معاني حياة كريمة مزهوة بكل ألوان الطيف ..    
      على اليمين ، تواصل عدسة الكاميرا شق الطريق نحو قرية نائية . .  تبدو ، تلك القرية ،  عند الوصول إليها  ، و كأنها خاوية على عروشها إلا من  أغصان أشجار اللوز و الزيتون  التي كستها الثلوج ، فغذت أوراقها و كأنها قد  تساقطت منذ أمد بعيد ..
      لا حي يرزق يجوب هذا المكان ..  فكل المخلوقات التي تدب على هذه الأرض ، أرض هذا البياض القاتل ،  قد اختفت في تلك اللحظة ، أو أنها سكنت و جمدت عند نقطة ما  من نقاط  هذا المكان الممتد ، أو أنها هرعت إلى أوكارها خوفا من صقيع  لا يرحم ، يمزق الأجسام  التي يصادفها أمامه إربا إربا .
      يتوارى الليل ، تدريجيا ، عن مشهد هذا الوجود ، و ينطفئ سواده معلنا انسحابه و تاركا المكان لنور صباح ليس ككل الصباحات ..  شيئا فشيئا يبسط وشاحه الفضي الميال إلى الاصفرار عن جبال قد كساها الثلج  و منحها حلته البيضاء ، معلنا استيقاظ كل المخلوقات .
          شخوص الفيلم الوثائقي " تحت الثلج ... " واقعية مائة بالمائة ، تماما  كما أرادها المخرج أن تكون  .. تولدت من رحم ظروف حياتية قاهرة انتزعت منها ألوان الحياة انتزاعا ، فصارت مجرد أشباح آدمية تدب في أرض هذا البياض    
         لكن ، بالرغم من ذلك ،  فهي لم تختزل في مجرد عناصر صالحة لمادة توثيقية أو ترفيهية فرجوية ،  تستعرض، بشكل فولكلوري أو تقريري ، مجريات حياتية لأناس يعيشون بشكل مختلف ، و تحت ضغط ظروف مختلفة عن ظروف بقية خلق الله ، بل أريد لها من طرف المخرج أن تكون  رؤية نقدية تسلط الضوء على كل ما هو هامشي  ..  منسي  .. و مسكوت عنه .. و كأنها تشعرنا ، من خلال ذلك ، بأننا جد مقصرين في حق هؤلاء الخلق الذين ينتمون إلى مغرب آخر غير مغربنا الذي نعيش فيه .. مغرب عميق .. مغرب غير نافع ..   
        هكذا  ترصد عدسة ه كاميرا المخرج  عز العرب العلوي، و بكل أمانة فنية ، هؤلاء الخلق في وضعيات حياتية مختلفة ، ارتأينا ، نحن أيضا ، أن ننقلها بتأويل سيميولوجي أمين و صادق .  
        في البيت ، وعلى مائدة فطور مكون من أرغفة خبز ساخنة تعد على رؤوس الأصابع لا تكفي لسد الرمق ، و كؤوس شاي . يتحلق الجميع  حول  تلك " الغنيمة "..  تتسابق الأيدي نحو الصحن  و ترتمي كارتماء النسور الجائعة على فريستها ، على محمولاته لتنهشها ، تتشكل معاناة شخوص هذا الفيلم الوثائقي في شكل دردشات كلامية انصبت حول مجريات ليلة فائتة و ما حملته من مآسي من الصعب نسيانها : برد قارص ، أغطية غير كافية لمواجهته ، رياح قوية عاتية تزيح سقوفا بلاستيكية من مكانها ،  تعاني أصلا من السيلان بسبب ما أحدثت  بها الطيور من ثقوب .  
      أو في الحظيرة لتفقد ماشية ، صغيرة  أو كبيرة في السن ، حين يغرز البرد القارص مخالب الموت في أضلاعها لتوجد في صباح اليوم التالي مرمية بلا حراك ، فترغم  بالقوة النعاج الأخرى على إرضاع صغارها حتى لا تكون هي الأخرى عرضة للهلاك ، أو قد تتعرض للأذى إذا صاحبت القطيع في رحلة بحثه اليومي عن الكلأ ..
       تحدث هذه المآسي  دون أن يكلف البياطرة أنفسهم عناء تفقد القرى لمد يد المساعدة لمعرفة سبب موت هذه القطعان الصغيرة ..
      أو في المرعى ، حيث  يكون القطيع ، في أحسن حاله ، تحت رحمة الذئاب و الوحوش الضارية الأخرى ، أو ، في أسوأ حاله ،تحت رحمة الثلوج التي تحاصره في كل مكان ..
      ثلوج  تمنع الرعاة من مزاولة مهامهم في الرعي ، فلا كلأ  لهذا القطيع إلا ما تجود به أغصان الأشجار التي  يسقطها ، من أجلهم ، الرعاة بواسطة عصيهم .
     أما  في حالة البرد القصوى ، فقد يتحتم على هذا القطيع البائس ، أن يبقى لأيام و ليال طوال رابضا في الحظيرة ، و هذا أمر مكلف ماديا بالنسبة "  للكساب "..  فصاع شعير يساوي 100 درهم ..
    أو في الغابة لقطع الأشجار و جلب خشبها على ظهور الحمير بقصد البيع أو بقصد التدفئة ..
    كل هذه الأعمال تبدو للحطاب عادات متكررة و روتينية .. أو انتظار عبثي لما سوف تأتي به الدقائق و الساعات و الأيام .. أو قتل لفراغ موحش .. أو مقاومة لليال حبلى بالصقيع و البرد القارص ..
     لكنها ، في عين عدسة كاميرا عز العرب العلوي ،  مكابدة لموت بطيء يدنو من الأبواب ليحول ربيع عمر هذا الحطاب إلى خريف متساقط الأوراق . 
     فبين ناظر الحطاب المثقلة أجفانه بالهموم و المآسي ،  و هذا الفضاء الواسع الممتد ثلوجا ،  تنسل أطياف بيضاء تشكلت لترقص رقصتها الشيطانية الخالية من أي معنى سوى من التعبير عن هذا الخواء الأبيض الذي يملأ المكان . في مخيلة الحطاب كليشيهات أو صور بيضاء  بلا ألوان قزحية .. يحاول المسكين أن ينظر إلى ما وراء هذه الأشياء الماثلة أمامه لعله يقتنص معنى معقولا لوجوده في هذا البياض الممتد ، فلا يرى سوى حياة بائسة  تتراجع إلى الوراء في بطء  لتختفي و تحل محلها حياة أخرى غريبة مثقلة بالكوابيس و الهواجس ..
     حياة تبحث عن ركن قصي في النفس  يستظل باللاشعور لتوفير ملجأ يمنح لحظة انتشاء .. لحظة سعادة عابرة .. قد تتولد عنها تداعيات في شكل أغان أمازيغية بطعم عاطفي .. أغان  خارجة ، للتو ،  من الأعماق ..
     تبدو كلمات هذه الأغاني ، لدى سماعنا لها خارجة من أعماق الحطاب ، نهرا متدفقا يفيض عذوبة .. كلمات تائهة  تبحث عن لحظات عشق أجهضتها الأيام و السنون ..  تعبيرا ، بلا جدوى ، عن حبيب عزيز ضائع وسط ما صنعه هذا البياض من خرائب ..
     يحاول عز العرب العلوي أن يوظف هذه الكلمات الأمازيغية الشاعرية و يجعلها تتوافق و ثيمة فيلمه و ذلك من خلال اعتبارها  أنينا حزينا آتيا من الأعماق  .. رجع صدى لنغمة تنامت  في الأعماق و انسلت من منعرجات الحنجرة لتخرج صوتا  جريحا و مبحوحا ..  صرخة مدوية  في وجه هذا البياض القاتل ..
      أو في الطريق الوطنية رقم 707 الرابطة بين مدينتي بولمان و إفران .. حين يرخي الليل سدوله على القرية و ينتصف ، و حين تعانق السماء سواده و يرتمي الفضاء في أعماق ظلمته ، و تتعب النفوس من سلطان يقظة كلت الجفون يكون الحسين كريش ، ذلك الموظف البسيط التابع لمديرية  الإقليمية للتجهيز و النقل بإيفران ، بمعية فريق عمل ميداني يجوب الطريق طولا و عرضا باسطا أجنحة الرحمة الربانية لكل مسافر عابر تقطعت به السبل و بقي في نقطة من نقط العبور الوعر محاصرا بالثلوج .
     عمل ، و لا شك قاس و صعب ، لكنه بطولي يصارع على واجهتين حربيتين : واجهة يكون هذا الطاقم فيها أمام ثلوج مكتسحة للطريق إذ يتطلب الأمر منه  مخاطرة و مجازفة استثنائيتين لإجلائها عن تلك الطريق ، و واجهة  يكون فيها أمام عابرين متهورين لا يقيمون أي وزن للأخطارالتي تنتظرهم .. عابرون يكسرون الأقفال و يجتازون الحواجز الموضوعة ليجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام بياض قاتل .  
       أو في أي مكان من أرض هذا البياض ، الذي تتواجد فيه المرأة كأم ، كزوجة ، كأخت ، أو كابنة .. حيث تظهر النساء ، كهذا البياض الممتد فوق الأرض السوداء،  بلا لون ..  بلا طعم .. بلا رائحة .. بلا أنوثة تجعل منها كيانا  له معنى .. نساء تعيد إنتاج نفسها في صور رمادية باهتة .. نساء لا هم لهن سوى تقاسم غبن مزدوج فيما بينهن : غبن ناتج عن هذه الطبيعة القاسية ، وغبن ، توارثنه أبا عن جد ،  ناتج عن مجتمع ذكوري ،  لا يرى فيهن سوى أكياس إنجاب للأطفال ، أو ماكينات لعجن الرغيف اليومي المر و طهيه على مطبخ موت مؤجل ..
       أو في تلك الوجوه الصغيرة التي اغتصبت في طفولتها .. وجوه كئيبة  ارتسم عليها التعب و أبانت ، ذات صباحات من صباحات هذا البياض القاتل عن عيون بريئة  ما تزال تغالب النعاس .. عن ملامح لم تغادر بعد أرض السهاد و هي تحث الخطى سيرا على الأقدام نحو  مدرسة بلا نجاح .   
       أطفال في عمر الزهور يحملون هذا البياض و يصنعون منه مستقبلا غامضا و وهميا  يتراشقون به  فيما بينهم ، اقتناصا للحظات فرح هارب نحو اللاشيء ..
       فبين حكاية النملة و الدودة ، كما  روتها كراساتهم العقيمة ، و بين تفاؤل يرسم ببياض الثلج آفاقا يكون فيها هذا التلميذ  طبيبا و تكون فيها  تلك التلميذة معلمة و يكون فيها ذاك التلميذ  مهندسا ..  تضيع تفاصيل  الحكاية و تتبخر أحلام المستقبل ..
      هذه الوضعيات الحياتية ، التي أتينا على ذكرها ، و التي نقلتها لنا عدسة كاميرا المخرج عز العرب العلوي هي نسج  لفضاءات هذا البياض القاتل ،  وفق رؤيته الخاصة للأشياء .
       في هذه القرية ، " قرية جبل بولمان " مكان تصوير فيلم " تحت الثلج ... "  تضيق دوائر الرؤيا أمام أعين ساكنتها..  يتراجع الزمن الكرونولوجي الذي يعد بالأنات و الدقائق ليفسح المجال لزمن آخر .. زمن بنيوي تنتفي فيه كل الامتدادات و كل الأشكال الهندسية .. إنه الزمن النفسي الذي معه تتشكل كل تضاريس النفس البشرية لتكشف عن مكنوناتها و دواخلها الخفية ..
       فالطبيعة القاسية ، و الإنسان ، هذا  الذي يشرب معاناته شايا و سكرا، و باقي المخلوقات الأخرى التي دبت على أرض هذا السواد ..  كلها مجرد أطياف و أشكال لهذا الزمن النفسي الذي تشخصنت سانكرونيته المثقلة ببياض الثلوج .. زمن تسارع بخطى وئيدة نحو اللاشيء . زمن  قد صير الحياة هناك .. فراغا جامعا بين أضداد :  حلو و مر ، بياض و سواد ظمأ و ارتواء ..