الاثنين، 6 أغسطس 2012

 

أنا أدمج الاختلاف .. إذن أنا موجود !
عبد الجبار الغراز

كتبهاعبد الجبار الغراز ، في 29 أبريل 2010 الساعة: 15:07 م


الاستشراق في الفن التشكيلي , أو ما يسمى عادة , ب L’ orientalisme Artistique هو بروز سمات فنية مستوحاةمن حياة و بيئة الشرق , من تراث و كنوزوآثاروتقاليدعريقة .
و حركة الاستشراق الفنية هذه , قد تجلت سماتها و مظاهرها , في هجرة عدد كبير من الفنانين و الرسامين و الشعراء و الكتاب الغربيين , إلى بلدان المشرق و بلدان شمال أفريقيا , خاصة المغرب و الجزائر , يدفعهم إلى ذلك الإيحاءات السحرية التي تثيرها في نفوسهم مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية و الثقافية , وكذا الطبيعة الخلابة الوديعة التي تتمتع بها تلك البلدان الشرقية .
وقد وصلت هذه الهجرة الفنية إلى مرحلة النضج و الكمالية الفنية في القرن 19 و خمدت نارها مع بزوغ فجر القرن 20, و بالضبط سنة 1910, أي قبيل اندلاع الحرب الكونية الأولى بأربع سنوات. إذ فقد العالم , بفعل الدمار و الخراب الذي خلفته الحرب , رومانسيته بتواري و جمود النزعات و التيارات الرومانسية و الجماليات الشكلية , و البهارات البصرية الشاعرية , وبروز تيارات فنية تعتمد على الشحنات الانفعالية , تشوبها أفكار تتبنى العقلانية و تتسم بتعقيدات فلسفية , نظرا لظروف الحرب و التطورات التي حصلت في الميادين العلمية و التكنولوجية . و كنموذج لهذه التيارات الفنية الجديدة , نجد التجريدية و التكعيبية و السريالية .
الاستشرق الفني هو ظاهرة تم التمهيد لها من قبل أدباء و مفكرين غربيين , الذين كانوا يتوخون , من خلال إبداعاتهم الفنية و الأدبية , إنتاج خطاب فني ينادون , بواسطته , بعودة الإنسان إلى أصوله الأنثروبولوجية . دعوة,يشوبها حنين الغرب إلى ماضيه , كما يوضح لنا عدد من المفكرين الذين يشتغلون في ميدان الأنثروبولوجيا و الإثنولوجيا كلفي ستروس و إدغار موران و روني جرار و غيرهم . دعوة , إذن , قد اعتمدت على أصول فلسفية و علمية تقول أن الإنسان خير بطبعه . و من بين هؤلاء المنادين أدباء و مفكرون نذكر منهم , على سبيل المثال لا الحصر , " شاتوبريان " الفرنسي , و " غوته " الألماني , و " بايرون " الإنجليزي . لقد استوحى هؤلاء الرجال أفكارهم و مشاعرهم من التراث الشرقي الذي نقبوا فيه , بفضل نزوحهم بأنفسهم إلى بلاد المشرق العربي , فكانت أفكارهم بمثابة ترجمة لما شاهدوه من أصالة و عادات و تقاليد و كنوز التراث الشرقي , فاكتشفوا في المرأة الشرقية , تجسيدا لحياة الفطرة و البساطة في اللباس و العيش . كما رأوا في جمالها و أنوثتها , انطلاقة و جموح الخيال و فيض العواطف المتدفقة , فتغنوا بهذا العطاء الرباني الساحر للألباب , و أفاضوا و أجادوا الوصف في غنجها و فتنتها و دلالها الأخاذ من خلف الأسوار و الأستار المخملية , وداخل قصور الأمراء و كبار التجار و الأثرياء .
فنحن إذ نسرد هذه المظاهر و ما ينتج عنها من انبهار الغرب بالشرق , في فترة تاريخية معينة , لا يعني أننا كشرقيين , لا نبدي أي تحفظ في أخد كل هذه الإنتاجات , دون أن نمارس عليها أي نقد ! فحوار الغرب و الشرق , في شكله الذي نطرحه الآن , قد أثار عدة تساؤلات فلسفية كبرى , وجعل تمركز الغرب حول ذاته لإنتاج المعارف و الفنون , محط انتقادات عميقة في طرحها , بسطت مفهوم " العقل " La raison كسلسلة انبناءات Structurations و مفعولات لثقافات و حضارات كونية ليست بغربية ( بابلية , آشورية , فرعونية , إسلامية … )
فبناء عل هذا الإطار النقدي , يمكن القول أن التأثيرات المختلفة للشرق على الغرب , لم تنتظر حلول القرن 19 حتى تبدأ في ممارسة فعلها التاريخي , بهجرة الغرب إلى الشرق , بل إن حوار الشرق و الغرب كان قديما . و هنا يمكن الإشارة إلى أطروحة " جان بيير فرنان " في هذا الصدد , و التي اشتغلت على الخطاب العقلاني الإغريقي , فأعادت , بفعل نقدها البناء لهذا الخطاب مشروعية الحديث عن اللامفكر فيه في ثقافة الغرب اليونانية , و الهامشي الذي كان يسبح في فلك العقل الأثيني , و يقصد بذلك ثقافات الشرق الحاضرة / الغائبة , التي كانت تقاوم الاقصاء و الإلغاء التاريخي الذي كانت تمارسه المركزية الأروبية L’ Europeocentrisme عليها .
فحينما نطرح , في هذا المقال , عملية الاحتواء و الإدماج الثقافيين الغربيين لمشاريع ثقافات الغير ( الشرق مثلا ) فإننا نقصد بها , تبني الغرب لها بهدف إقصائها و إلغائها و تدويبها في ثقافاته المتعددة . و منطق حاله يصاغ بكوجيطو ديكارتية ثانية , على منوال " أنا أفكر إذن أنا موجود " " أنا أدمج المغايرة و الاختلاف إذن أنا موجود !! "
يمكن صب حركة الاستشراق الفني , كباقي الحركات الإستشراقية الأخرى , في هذا النمط و هذا الإطار : فانبهارات الفنانين و الرسامين و سحر الشرق , ما هو إلا مجرد انفعالات أناس ما يزالون يتمتعون بالحس المرهف الذي فقده الغرب , بفعل بداية ظهور علاقات جديدة في النسيج الثقافي و الاجتماعي و التعاملات الفردية و الجماعية , كرد فعل على ما يشهده الواقع من تغيرات بنيوية ( مكننة العلاقات الإقتصادية ) الشيء الذي جعل حوار الغرب و الشرق , فنيا , يسمو عن هذه العلاقات , وينتج ثقافة تحايث ثقافة الشرق .
فتجليات العلاقة بينهما بلغت أقصاها, كما يؤكد ذلك جمال قطب , مع ظهور عصر النهضة الأوربية في القرن 15 مع انتقال الإمبراطورية الرومانية إلى إيطاليا , حيث برزت سمات الشرق , خاصة في شقه العربي الإسلامي , في الغرب الأوروبي . فتأثرت فنون عصر النهضة الإيطالي و أوروبا الشمالية بتلك السمات الشرقية , فضلا عن تأثيرات الفن الإسلامي بدولة الأندلس , و اطلاع الغرب على كتب ألف ليلة و ليلة و غيرها ,و بداية عملية الهجرة إلى الشرق بواسطة الرحالة و المستكشفين و المغامرين الذين أسسوا , بشكل فردي و عفوي , حركة استشراقية أمدت المؤرخين بالمادة , و أعطت للأدباء و المفكرين الفرصة للتعرف على الشرق كما سبق ذكره .
فأمام هذا السيل العرم من الأوصاف , التي تضمنتها كتابات مشاهير الكتاب و الشعراء الغربيين شد الرحال إلى بلدان الشرق , التي أوقدت في مخيلتهم شموع الشوق و الحنين و الإشراق , مدغدغة أحلامهم و ملهمة قرائحهم و تعطشهم إلى ملء الثغرات النفسية و الروحية التي اجتاحت كيانهم بسبب الفراغات التي أحدتها التعقيدات الفكرية و المجتمعية التي تركبت مع مرور الزمن فيهم .
فكانت أجنحة الحريم و الحمامات الشرقية التي يتسع فضاؤها , و القصور و الحدائق الغناء و البساتين المثمرة التي تحيط بها , و التي دونوها في رسوماتهم , ما هي إلا إحالات مرجعية لاستحضار أطياف شهرزاد و لياليها و حكاياها المتناسلة , و مناسبة أيضا لترتيب فضاء الحكايات و الأساطير الغربية و مغامرات السندباد البحري و البري , و فرصة لإعادة تشكيل عوالم الجن و السحرة و المردة و المغارات الغريبة التي تحبل بالكنوز و الدرر النفيسة . لقد تشكل كل هذا و ذاك بالحركة المرحة و اللون الساخن و الأنوار المتوهجة و الضلال و الإيقاعات المتناغمة.
و مما يوضح مدى قيمة هذه الروائع , الجمالية و الفنية , التي أبدعها هؤلاء الفنانون أمثال " دولا كروا " ( نموذج المغرب و الجزائر ), هو التهافت الجنوني للمتاحف و المجمعات و الهيئات و الأروقة العالمية على اقتنائها. يحدث هذا في عصر يشهد بانتهاء الرومانسية , كشكل تعبيري فني , و رؤية حياتية , في عصر أصبح فيه الإبداع الفني جزء من الذهنية المغرقة في الذاتية و الرمزية و الهلوسات و الهذيانات المرضية التي توحي بها بعض التنظيرات الفلسفية , في عصر لم يعد الجمال , كقيمة فنية إبداعية , له أية مدلولات نستلهمها من الذات الملهمة و من الوجدان و العواطف .
فالحنين الذي شد الغرب إلى الرومانسية , و مساءلة الماضي و التنقيب في التراث و فتح سجل أمجاد الأجداد قد خلق في النفوس التعويض عن التشتت و فقدان الثقة بالذات و بالمحيط و خلق الإحساس بالضياع و عدم الانتماء , في عالم ينتج التوترات و الضغوطات النفسية بسبب ما وصل إليه الإنسان , ما بعد صناعي , من استلاب في التفكير و ضجيج و تصدع في الكيان , و انحلال و تفسخ في القيم و الأخلاقيات . فلم يعد للعطاء الإنساني أي دور طلائعي و قيادي في هذه الحياة.
و قبل ختم هذا المقال , أود أن أطرح على أنفسنا, نحن العرب و المسلمين, سؤالا و هو كالتالي: ألسنا جديرين بهذه التحف الفنية ما دامت تعرض, صباح مساء, في المتاحف و الأروقة العالمية, في اقتنائها ؟ ألا يفكر اتحادات كتاب العرب و المسلمين و كل الإطارات الثقافية و الجمعيات و الهيئات الرسمية و غير الرسمية في جمع شتات هذه الدرر النفيسة في متحف عربي إسلامي تشترك كل الدول المعنية في إنشائه و تشييده و يحج إليها كل من أراد أن يزوره . و تقوم محافل فنية لتقييم هذا الرصيد الهائل, في وقت يشتكي كل واحد منا بفقر كبير في استهلاك و إنتاج ثقافة بصرية تشكيلية , نحن في أمس الحاجة إليها. ثقافة بصرية تجعلنا نعيد إنتاج موروثنا و مخزوننا و ذاكرتنا الجمعية في قوالب فنية . ثقافة بصرية تحمينا من كل اختراق ثقافي و افتضاض بشع لغشاء شرفنا . ثقافة ترد الاعتبار لأدوارنا التاريخية التي نأبى أن نتعامل معها بانتقاء إيديولوجي ضيق أو نتعامل معها برؤية ذات مرجعية مرضية تنظر دائما إلى التراث , كإطار فكري و سلوكي يجب الاحتماء به فقط ضد ضربات القوالب الإيديولوجية الغربية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق