سنة 2011 أو سنة زمانية العرب . قراءة سريعة في أنطلوجيا الثورات
العربية
كتبهاعبد الجبار الغراز ، في 7 يناير 2012 الساعة: 11:26 ص
سنة 2011 أو سنة زمانية العرب
قراءة سريعة في أنطلوجيا الثورات العربية
عبد الجبار الغراز
قد لا يرقى هذا المقال إلى مستوى
التحليل الأكاديمي لمقاصد ريبع الثورة العربية كما يوحي به عنوانه ، لكنه ، تكثيف
لبعض معاني هذه الثورات المباركة ، كما أنه يعتبر مناسبة للوقوف و التامل في
التجربة الوجودية العربية التي انكشفت في سنة 2011 ، تلك التجربة التي عبرت عنها
أحسن تعبير ، و لا زالت ، شعوبنا العربية المتعطشة للحرية . فالموضوع كبير و شاسع يحتاج الى نفس طويل و جهد
معرفي و منهجي متمرس يسبر أغواره و يقف عند حدود اشتغاله . الشيء الذي يجعلنا ، في
هذه العجالة ، سنكتفي فقط، باستلهام بعض التداعيات من سنة 2011 ، لنترجمها إلى
أفكار نفك بها الدائرة من أجل الانفتاح على موجودنا العربي ، هذا الموجود الذي
صنعته بأياديها البيضاء الثورات العربية .
إن سنة 2011 تستحق هذا الاهتمام ، لأنها
كانت سنة زمانية العرب بامتياز كبير .. سنة الإعلان عن استكمال الشروط الموضوعية
للتحقق الذاتي لمواجهة الآخر القريب – الأنظمة العربية الاستبدادية - في انتظار آن
تنضج بعض شروط الوجود لمواجهة الآخر البعيد – الغرب الرأسمالي ، و إسرائيل على
الخصوص - .
لكن ، في مقابل ذلك ، ألا يجدر بنا
الاهتمام بالسنة الجديدة بدل الالتفات إلى هذا الذي مضى و انقضى ؟ أوليس الحاضر و
المستقبل هما ضالتنا ؟ فلماذا إذن الاهتمام بسنة 2011 ؟ أهو الحنين إلى إحياء أمجاد
الماضي أم أن الأمر يتعلق ، بعد الثورة العربية ، بتشكيل ذاكرة عربية مضادة تعطي
لجنيالوجيا الذات طابعها المركزي في الاستلهام من الماضي دون استيلاب ؟
صحيح
القول ، أنه لا تستطيع أي قوة آدمية على وجه الأرض أن ترجع الزمن إلى
الوراء ، أو توقف عجلته التي تديرها ماكينة جبارة تسحق الحاضر سحقا و تطحن طحنا كل
من يقف أمامها معترضا . فلا تنبؤات العرافين تفيد في إعطاء المعرفة اليقين عن ما
تخبئه الأقدار، و لا توقعات المنجمين و أصحاب الرأي السديد من أهل السياسة و الخبرة
الدبلوماسية تستطيع أن تفك طلاسم غد حاضره قد لطخ بدم الشهداء و الأبرياء و عشاق
الحرية و طلاب التحرر ، لكن الأكيد الذي لا يطاله الشك هو أن كل التفاتة إلى سنة
2011 ستكون تعبيرا عن زمن مضى مليء بالرموز و المعاني و الدلالات العميقة ، و في
نفس الوقت هو استشراف للمستقبل العربي .
لنقل
إذن، أن في السنة التي انصرمت، ، موضوع
حديثنا ، قد ذاق العرب فيها ، بعد سنوات عجاف
، طعم الحرية ، وسيبقى هذا المذاق حلوا لذيذا لن يتغير إلا بتغير ألوان الحرية
الزاهية. ولنقل أيضا ، أن العرب كسروا فيها جدار الصمت و الخوف ، و استجابوا أخيرا للقدر و لبوا نداء إرادة الحياة ، فانجلى
ليلهم السرمدي الجاثم على صدورهم و انكسر قيد العبودية الذي أدمى معاصمهم لعقود
خلت . لقد أبانوا عن وعي يقظ و تصميم و عزم نادرين ، فهمهم الوجودي كان مشتركا و مدهم التحرري كان
واحدا: اقتلاع الظلم و الاستبداد و الفساد من
جذورها . أولم ير العالم عبر وسائل الإعلام ، الغث منه و السمين ، كيف تساقطت هامات
بعض الرؤساء العرب الواحدة تلو الأخرى ، كما تتساقط أوراق الخريف ، فمنهم من قضى نحبه ، و منهم من ولى الأدبار هاربا من نقمة
شعبه كفأر مذعور ، مستقلا طائرته الرئاسية ، و منهم من ينتظر ساعة الجزاء ، أسيرا و
رهينة سرير المرض ، و منهم من يؤخر لحظة السقوط المرتقبة ، منتظرا أن تجود عليه
السماء بمعجزة من معجزاتها الخارقة ، لينجو بفعلته و جرمه من انتقام الثوار
الغاضبين ، و ما بدل كل واحد من هؤلاء الطغاة من أمر الأقدار تبديلا . فسبحان مبدل الأحوال بكرة و أصيلا !؟
في ليلة رأس السنة ، و قبيل انسحاب سنة 2011 بدقائق قليلات ، تراءت للناس
المتجمهرين في ساحات المدن سماء العرب و كانها شريط يتدفق ذكريات ممزوجة بالألام و
الأفراح . أحداث أليمة تذكرهم بأحبة فقدوهم قد قدموا أرواحهم قربانا في مذبح الحرية
. و أحداث مفرحة تذكرهم بانتصارهم على الظلم و الفساد و الطغيان . كما تراءت لهم
وجوه الشهداء قد ملأت اركان تلك السماء و قد كساها الموت رهبة و اجلالا و سلاما . و
ردد الناس في حماسة لم يشهد لها مثيل من قبل شعارات الثورة و الاناشيد الوطنية و
الأغاني الثورية ، فغدت سماء تونس ، سماء مصر ، سماء ليبيا ، سماء اليمن، و سماء
سورية ، مزينة بعيون هؤلاء الشهداء الأبرار و كأنها مصابيح عرس تتلألأ بشرا و فرحا
بحلول غد جديد مشرق خطوه بدمائهم الزكية ، قد شعت بنورها الوضاح و غطت كل أرض العرب
.
و في
لحظاتها الأخيرة المتبقية من عمرها ، أبصر الناس بقلوبهم سنة 2011 وهي تحضن ، في
حنو و عطف ، هؤلاء الشهداء ، فتجلت لهم ، بعدما انطفأت أضواء الساحات العمومية ،
وهي تقف بشموخ و تعال كبيرين فوق ربوة الذكرى شاهدة على هذا الفتح المبين الذي تكلل
بإسقاط رموز الفساد و الغطرسة و الظلم ، شاهدة على تهاوي أصنام وأوثان تربعت على
عرش الزيف و الضلال ، فتهشمت أطرافها ، و دوى طنينها فملأ الآفاق كاشفا عن خواء
اجتاحته رياح الثورة المزمجرة .
انسحبت سنة 2011 ، إذن كسابقاتها من السنوات ، لتحل محلها السنة الجديدة ،
و كان انسحابها عند العرب ، له نكهة خاصة و شكل ثان : فقد تبادل الناس التهاني و
التحايا بمناسبة قدوم السنة الجديدة ، و تمنوا لبعضهم البعض دوام الصحة و العافية و
الراحة و الهناء و العمر المديد ، لكن بقي في نفوس هؤلاء الناس، شيء من هذه السنة
الماضية . فلا أحد كان يجادل في
التقييم العام لهذه السنة و اعتبارها سنة " ارحل " سنة " دكاج " ، سنة " الشعب يريد إسقاط النظام "، سنة " الشعب يريد إسقاط
الفساد " ، و لا احد يشكك في مصداقيته الحكم عليها ، بالقول على أنها شكلت زمانية
العرب بامتياز كبير : فالسقوط الفعلي المهول لهؤلاء الطغاة المتجبرين ، في ظرف
زماني قياسي قصير و سقوط قناع الغطرسة عن رموز الفساد ، و تهاوي هامات الظلم يوضح
، بالملموس ، أن زمن ربيع الثورة العربي قد تشكل في رحم هذه الكلية الوجودية التي
ندعوها بالعالم ، حيث تجلى هذا الزمن العربي في أبهى صوره كوجود أصيل . فبعد ان كنا
ننعته بقولنا انه " زمن رديء "، زمن " مر كالقهوة العربية "، أصبحنا نراه ، في سنة
2011 ، بعيون الشهداء التي لا تنام ، الذين مروا من هنا ذات ثورة ، مستقبلا
يتصدر كل ماضينا و كل حاضرنا .
لم تقدم سنة 2011 معنى مبتذلا عن مفهوم
الزمان ، كما كانت تقدمه السنوات التي سبقتها . فالظاهر أنه لم يكن أحد منا يتصور ،
قبل حلولها ، أن التأصيل العربي سيتحقق واقعيا في داخلية زمننا العربي و جوانيته
. فمنذ الشرارة التي أطلقها محمد البوعزيزي، تعلمنا نحن الشعوب العربية ، أن
زمانية العرب ، لم تعد تخضع لمقولة الزمان ، في معناه الكلاسيكي الذي يقاس عادة
بالأنات و اللحظات الكرونولوجية . فهذا المعنى الاخير لمفهوم الزمان قد يكون مجرد
تسطيح يؤطر أساسيات معيشنا اليومي ، لكنه لا يرقى بنفسه الى المستوى الذي قد يؤطر
فيه وعينا و نظرتنا للحياة و للوجود . فالاطار الذي اصبح وعينا الشعبي يندرج فيه هو
هذه التجاذبية الزمانية الأصيلة التي " تزمن " الماضي و الحاضر و المستقبل ، أي
تلك الفعالية القصوى التي تمنح لأبعاد الزمان تلك الخاصية التي بمقتضاها ينجذب
الماضي و الحاضر و المستقبل الى بعضهم البعض مشكلين تلك الكلية الوجودية التي
ينعتها الفيلسوف الوجودي مارتن هايدجر ، بالزمانية الأصيلة .
سيكون من الإجحاف و الانتقاص من قيمة هذه
السنة المنصرمة التي ودعتنا و ودعناها على أمل تتجلى ، وجوديا ، زمانية العرب في
السنة الجديدة ، سنة 2012 ، و يظهر فيها الوجود العربي كانكشاف غد عربي مشرق ، إن
اعتبرناها مجرد سنة مرت و انقضت . فسنة 2011 ليست ، في حقيقة الأمر ، على الأقل
بالنسبة لنا كعرب ، سنة عادية . فلا يكون من باب الإنصاف و العدل مقارنتها مع
سابقاتها من السنوات ، و لا ردها إلى مجرد سنة ارتدادية يكون فيها المستقبل امتداد
للماضي و الحاضر ، بعد الأحداث العظام التي تتبعها العالم بأسره . أفلا ينبغي ، بعد
هذا كله ، تسجيل نقاط عديدة لصالحها أهمها هو كونها اعطت بامتياز كبير الصدارة
للمستقبل بدل الماضي ، فغدت بفضلها ، زمانية العرب تمتاز بخاصية التجاذبية الاصيلة
؟؟؟
و في الأخير ، و بعد استنفاذ أغراض هذه
الرؤية الأنطلوجية لزمانية العرب ، نستطيع القول ، هذه المرة ، و من زاوية
إبستمولوجية ، مع الفيلسوف الفرنسي الراحل مشال فوكو ، أن لكل ظاهرة أرشيفها يمكن
العودة إليه كمرجع من اجل قراءته من جديد . فاذا كان هذا التصور الأركيولوجي ينطبق
على المعارف باعتبارها ظواهر إنسانية ، فان سنة 2011 تبقى ، و إلى أبد الآبدين ،
الظاهرة العالمية ، التي انكشف فيها الزمن العربي ، كموجود أصيل ، ستبقى الظاهرة
الغنية بأرشيفاتها، بمرجعياتها ، برموزها و دلالاتها و أنماطها السلوكية، التي
ستسعف كل من مهتم بسوسيولوجيا الثورات و سوسيولوجيا التغير الاجتماعي لدراستها
للكشف عن قصدية الفاعلين الذين غيروا الأوضاع الحياتية في بلدانهم ، من أجل أن
تستفيد الأجيال اللاحقة ، العربية و غير العربية منها و تستلهم من تراثها الثوري .
ففي هذه الحالة ، سوف لن تكون سنة 2011 ، و من منظور الزمانية الأصيلة ، بعيدة
زمانيا عن انشغالاتنا و همومنا الفكرية و الحياتية ، لأنها بكل بساطة ، سوف تكون
تعبيرا عن تجربة وجودية خلخلت ، بشكل عميق ، كل ثوابت الوجود التي تركن عليها
كينونتنا العربية .
أفلا تكون مشروعية سنة 2011 التي تستمدها
في كونها سنة زمانية العرب ، هي جوهرها الذي يسمها بطابع الخصوصية و الامتياز .
كتبهاعبد الجبار الغراز ، في 7 يناير 2012 الساعة: 11:26 ص
سنة 2011 أو سنة زمانية العرب
قراءة سريعة في أنطلوجيا الثورات العربية
عبد الجبار الغراز
قد لا يرقى هذا المقال إلى مستوى
التحليل الأكاديمي لمقاصد ريبع الثورة العربية كما يوحي به عنوانه ، لكنه ، تكثيف
لبعض معاني هذه الثورات المباركة ، كما أنه يعتبر مناسبة للوقوف و التامل في
التجربة الوجودية العربية التي انكشفت في سنة 2011 ، تلك التجربة التي عبرت عنها
أحسن تعبير ، و لا زالت ، شعوبنا العربية المتعطشة للحرية . فالموضوع كبير و شاسع يحتاج الى نفس طويل و جهد
معرفي و منهجي متمرس يسبر أغواره و يقف عند حدود اشتغاله . الشيء الذي يجعلنا ، في
هذه العجالة ، سنكتفي فقط، باستلهام بعض التداعيات من سنة 2011 ، لنترجمها إلى
أفكار نفك بها الدائرة من أجل الانفتاح على موجودنا العربي ، هذا الموجود الذي
صنعته بأياديها البيضاء الثورات العربية .
إن سنة 2011 تستحق هذا الاهتمام ، لأنها
كانت سنة زمانية العرب بامتياز كبير .. سنة الإعلان عن استكمال الشروط الموضوعية
للتحقق الذاتي لمواجهة الآخر القريب – الأنظمة العربية الاستبدادية - في انتظار آن
تنضج بعض شروط الوجود لمواجهة الآخر البعيد – الغرب الرأسمالي ، و إسرائيل على
الخصوص - .
لكن ، في مقابل ذلك ، ألا يجدر بنا
الاهتمام بالسنة الجديدة بدل الالتفات إلى هذا الذي مضى و انقضى ؟ أوليس الحاضر و
المستقبل هما ضالتنا ؟ فلماذا إذن الاهتمام بسنة 2011 ؟ أهو الحنين إلى إحياء أمجاد
الماضي أم أن الأمر يتعلق ، بعد الثورة العربية ، بتشكيل ذاكرة عربية مضادة تعطي
لجنيالوجيا الذات طابعها المركزي في الاستلهام من الماضي دون استيلاب ؟
صحيح
القول ، أنه لا تستطيع أي قوة آدمية على وجه الأرض أن ترجع الزمن إلى
الوراء ، أو توقف عجلته التي تديرها ماكينة جبارة تسحق الحاضر سحقا و تطحن طحنا كل
من يقف أمامها معترضا . فلا تنبؤات العرافين تفيد في إعطاء المعرفة اليقين عن ما
تخبئه الأقدار، و لا توقعات المنجمين و أصحاب الرأي السديد من أهل السياسة و الخبرة
الدبلوماسية تستطيع أن تفك طلاسم غد حاضره قد لطخ بدم الشهداء و الأبرياء و عشاق
الحرية و طلاب التحرر ، لكن الأكيد الذي لا يطاله الشك هو أن كل التفاتة إلى سنة
2011 ستكون تعبيرا عن زمن مضى مليء بالرموز و المعاني و الدلالات العميقة ، و في
نفس الوقت هو استشراف للمستقبل العربي .
لنقل
إذن، أن في السنة التي انصرمت، ، موضوع
حديثنا ، قد ذاق العرب فيها ، بعد سنوات عجاف
، طعم الحرية ، وسيبقى هذا المذاق حلوا لذيذا لن يتغير إلا بتغير ألوان الحرية
الزاهية. ولنقل أيضا ، أن العرب كسروا فيها جدار الصمت و الخوف ، و استجابوا أخيرا للقدر و لبوا نداء إرادة الحياة ، فانجلى
ليلهم السرمدي الجاثم على صدورهم و انكسر قيد العبودية الذي أدمى معاصمهم لعقود
خلت . لقد أبانوا عن وعي يقظ و تصميم و عزم نادرين ، فهمهم الوجودي كان مشتركا و مدهم التحرري كان
واحدا: اقتلاع الظلم و الاستبداد و الفساد من
جذورها . أولم ير العالم عبر وسائل الإعلام ، الغث منه و السمين ، كيف تساقطت هامات
بعض الرؤساء العرب الواحدة تلو الأخرى ، كما تتساقط أوراق الخريف ، فمنهم من قضى نحبه ، و منهم من ولى الأدبار هاربا من نقمة
شعبه كفأر مذعور ، مستقلا طائرته الرئاسية ، و منهم من ينتظر ساعة الجزاء ، أسيرا و
رهينة سرير المرض ، و منهم من يؤخر لحظة السقوط المرتقبة ، منتظرا أن تجود عليه
السماء بمعجزة من معجزاتها الخارقة ، لينجو بفعلته و جرمه من انتقام الثوار
الغاضبين ، و ما بدل كل واحد من هؤلاء الطغاة من أمر الأقدار تبديلا . فسبحان مبدل الأحوال بكرة و أصيلا !؟
في ليلة رأس السنة ، و قبيل انسحاب سنة 2011 بدقائق قليلات ، تراءت للناس
المتجمهرين في ساحات المدن سماء العرب و كانها شريط يتدفق ذكريات ممزوجة بالألام و
الأفراح . أحداث أليمة تذكرهم بأحبة فقدوهم قد قدموا أرواحهم قربانا في مذبح الحرية
. و أحداث مفرحة تذكرهم بانتصارهم على الظلم و الفساد و الطغيان . كما تراءت لهم
وجوه الشهداء قد ملأت اركان تلك السماء و قد كساها الموت رهبة و اجلالا و سلاما . و
ردد الناس في حماسة لم يشهد لها مثيل من قبل شعارات الثورة و الاناشيد الوطنية و
الأغاني الثورية ، فغدت سماء تونس ، سماء مصر ، سماء ليبيا ، سماء اليمن، و سماء
سورية ، مزينة بعيون هؤلاء الشهداء الأبرار و كأنها مصابيح عرس تتلألأ بشرا و فرحا
بحلول غد جديد مشرق خطوه بدمائهم الزكية ، قد شعت بنورها الوضاح و غطت كل أرض العرب
.
و في
لحظاتها الأخيرة المتبقية من عمرها ، أبصر الناس بقلوبهم سنة 2011 وهي تحضن ، في
حنو و عطف ، هؤلاء الشهداء ، فتجلت لهم ، بعدما انطفأت أضواء الساحات العمومية ،
وهي تقف بشموخ و تعال كبيرين فوق ربوة الذكرى شاهدة على هذا الفتح المبين الذي تكلل
بإسقاط رموز الفساد و الغطرسة و الظلم ، شاهدة على تهاوي أصنام وأوثان تربعت على
عرش الزيف و الضلال ، فتهشمت أطرافها ، و دوى طنينها فملأ الآفاق كاشفا عن خواء
اجتاحته رياح الثورة المزمجرة .
انسحبت سنة 2011 ، إذن كسابقاتها من السنوات ، لتحل محلها السنة الجديدة ،
و كان انسحابها عند العرب ، له نكهة خاصة و شكل ثان : فقد تبادل الناس التهاني و
التحايا بمناسبة قدوم السنة الجديدة ، و تمنوا لبعضهم البعض دوام الصحة و العافية و
الراحة و الهناء و العمر المديد ، لكن بقي في نفوس هؤلاء الناس، شيء من هذه السنة
الماضية . فلا أحد كان يجادل في
التقييم العام لهذه السنة و اعتبارها سنة " ارحل " سنة " دكاج " ، سنة " الشعب يريد إسقاط النظام "، سنة " الشعب يريد إسقاط
الفساد " ، و لا احد يشكك في مصداقيته الحكم عليها ، بالقول على أنها شكلت زمانية
العرب بامتياز كبير : فالسقوط الفعلي المهول لهؤلاء الطغاة المتجبرين ، في ظرف
زماني قياسي قصير و سقوط قناع الغطرسة عن رموز الفساد ، و تهاوي هامات الظلم يوضح
، بالملموس ، أن زمن ربيع الثورة العربي قد تشكل في رحم هذه الكلية الوجودية التي
ندعوها بالعالم ، حيث تجلى هذا الزمن العربي في أبهى صوره كوجود أصيل . فبعد ان كنا
ننعته بقولنا انه " زمن رديء "، زمن " مر كالقهوة العربية "، أصبحنا نراه ، في سنة
2011 ، بعيون الشهداء التي لا تنام ، الذين مروا من هنا ذات ثورة ، مستقبلا
يتصدر كل ماضينا و كل حاضرنا .
لم تقدم سنة 2011 معنى مبتذلا عن مفهوم
الزمان ، كما كانت تقدمه السنوات التي سبقتها . فالظاهر أنه لم يكن أحد منا يتصور ،
قبل حلولها ، أن التأصيل العربي سيتحقق واقعيا في داخلية زمننا العربي و جوانيته
. فمنذ الشرارة التي أطلقها محمد البوعزيزي، تعلمنا نحن الشعوب العربية ، أن
زمانية العرب ، لم تعد تخضع لمقولة الزمان ، في معناه الكلاسيكي الذي يقاس عادة
بالأنات و اللحظات الكرونولوجية . فهذا المعنى الاخير لمفهوم الزمان قد يكون مجرد
تسطيح يؤطر أساسيات معيشنا اليومي ، لكنه لا يرقى بنفسه الى المستوى الذي قد يؤطر
فيه وعينا و نظرتنا للحياة و للوجود . فالاطار الذي اصبح وعينا الشعبي يندرج فيه هو
هذه التجاذبية الزمانية الأصيلة التي " تزمن " الماضي و الحاضر و المستقبل ، أي
تلك الفعالية القصوى التي تمنح لأبعاد الزمان تلك الخاصية التي بمقتضاها ينجذب
الماضي و الحاضر و المستقبل الى بعضهم البعض مشكلين تلك الكلية الوجودية التي
ينعتها الفيلسوف الوجودي مارتن هايدجر ، بالزمانية الأصيلة .
سيكون من الإجحاف و الانتقاص من قيمة هذه
السنة المنصرمة التي ودعتنا و ودعناها على أمل تتجلى ، وجوديا ، زمانية العرب في
السنة الجديدة ، سنة 2012 ، و يظهر فيها الوجود العربي كانكشاف غد عربي مشرق ، إن
اعتبرناها مجرد سنة مرت و انقضت . فسنة 2011 ليست ، في حقيقة الأمر ، على الأقل
بالنسبة لنا كعرب ، سنة عادية . فلا يكون من باب الإنصاف و العدل مقارنتها مع
سابقاتها من السنوات ، و لا ردها إلى مجرد سنة ارتدادية يكون فيها المستقبل امتداد
للماضي و الحاضر ، بعد الأحداث العظام التي تتبعها العالم بأسره . أفلا ينبغي ، بعد
هذا كله ، تسجيل نقاط عديدة لصالحها أهمها هو كونها اعطت بامتياز كبير الصدارة
للمستقبل بدل الماضي ، فغدت بفضلها ، زمانية العرب تمتاز بخاصية التجاذبية الاصيلة
؟؟؟
و في الأخير ، و بعد استنفاذ أغراض هذه
الرؤية الأنطلوجية لزمانية العرب ، نستطيع القول ، هذه المرة ، و من زاوية
إبستمولوجية ، مع الفيلسوف الفرنسي الراحل مشال فوكو ، أن لكل ظاهرة أرشيفها يمكن
العودة إليه كمرجع من اجل قراءته من جديد . فاذا كان هذا التصور الأركيولوجي ينطبق
على المعارف باعتبارها ظواهر إنسانية ، فان سنة 2011 تبقى ، و إلى أبد الآبدين ،
الظاهرة العالمية ، التي انكشف فيها الزمن العربي ، كموجود أصيل ، ستبقى الظاهرة
الغنية بأرشيفاتها، بمرجعياتها ، برموزها و دلالاتها و أنماطها السلوكية، التي
ستسعف كل من مهتم بسوسيولوجيا الثورات و سوسيولوجيا التغير الاجتماعي لدراستها
للكشف عن قصدية الفاعلين الذين غيروا الأوضاع الحياتية في بلدانهم ، من أجل أن
تستفيد الأجيال اللاحقة ، العربية و غير العربية منها و تستلهم من تراثها الثوري .
ففي هذه الحالة ، سوف لن تكون سنة 2011 ، و من منظور الزمانية الأصيلة ، بعيدة
زمانيا عن انشغالاتنا و همومنا الفكرية و الحياتية ، لأنها بكل بساطة ، سوف تكون
تعبيرا عن تجربة وجودية خلخلت ، بشكل عميق ، كل ثوابت الوجود التي تركن عليها
كينونتنا العربية .
أفلا تكون مشروعية سنة 2011 التي تستمدها
في كونها سنة زمانية العرب ، هي جوهرها الذي يسمها بطابع الخصوصية و الامتياز .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق