الأحد، 24 نوفمبر 2013

العلاقة مع الغير

العلاقة مع الغير
تأطير إشكالي
      في هذا المستوى الثالث من زاوية النظر إل الغير ، سنتطرق إلى الجانب العلائقي الذي سيجسد لنا طبيعة العلاقة الممكنة التي ينبغي تأسيها مع الغير . فالآخر قد يشكل تمييزا للذات ، كما أنه ، في جوانب مقابلة لا يشكل ذلك . فالعالم الذي أنا موجود فيه كذات هو عالم أتقاسمه مع ذوات غيري ن و أشكل عبره عالم صداقة و عالم تواصل ز عالم مغايرة تبني الذات و الغير معا .
       و على أساس هذه المعاني المختلفة و المتعددة التي يمكن أن نرصد به طبيعة العلاقة مع الغير ، تبرز لنا إشكالية الغير ، التي  تنظر إلى الغير في صورة هي أكثر تركيبا و أكثر تعقيدا . فما الأساس الذي تقوم عليه العلاقة مع الغير ، هل على أساس الصداقة و المشاركة في الوجود ، و الغيرية و نكران الذات ، أم على أساس الصراع و المغايرة و الاقصاء و التهميش ؟ 
      كإجابة عن هذا التساؤل الكبير و العريض لهذه الإشكالية، يرى أرسطو ( 384 ق م – 322 ق م فيلسوف يوناني )  أن أساس العلاقة مع الغير هي الصداقة . و المعنى الذي يعطيه للصداقة يختلف عن معنى أستاذه أفلاطون الذي يحددها في كونها تعبير عن حالة وسط بين الكمال المطلق و النقص المطلق . فأرسطو يعتبر الصداقة ضربا من ضروب الفضيلة و أشد الحاجات ضرورة للحياة فلا أحد يستطيع أن يعيش دون أصدقاء حتى و لو كان ينعم بجميع خيرات الدنيا . فكلما عظم الإنسان ، على مستوى الجاه و السلطان ، كلما كان في حاجة إلى أصدقاء ، و العكس أيضا صحيح ، فالأصدقاء ، حسب هذا الفيلسوف ، هم ملاذنا الأول و الأخير الذي يمكن التشبت به في حالة الشقاء و البؤس أو عندما تحيط بنا الشدائد المتربصة بنا.
      نفهم من خلال هذا الكلام أن الصداقة في معناها الأرسطي ، هي تجربة معيشية و واقعية ترتبط بالمنفعة و بالمتعة ، لكنها تبقى في هذا المعنى نسبية تتوقف على هذين المعطيين ( المنفعة و المتعة ) ففقد تزول بزوالهما ، لكن إذا ارتبطت بالفضيلة فإنها ستمثل الصداقة الحقيقية التي تقوم على الخير و الجمال لذاتهما . ففي إطار صداقة الفضيلة ستتحقق المنفعة ز تتحقق المتعة . لكن يبقى هذا النوع من الصداقة نادر الوجود ، فلو تحقق لما احتاج الناس إلى القوانين التي تنظمهم .
           و من وجهة نظر أخرى تتقاطع مع مقاربة أرسطو لمفهوم العلاقة مع الغير، يعتبر إيمانويل كانط ( 1724 – 1804 فيلسوف ألماني ) أن العلاقة مع الغير هي علاقة صداقة يحكمها الحب و الاحترام المتبادل بين الذات و الغير، فأساس هذه الصداقة هو الإرادة الأخلاقية النابعة من مفهوم الواجب الأخلاقي الذي يفترض حضور نفس الاستعداد العقلي عند الطرفين معا ، كما يفترض أيضا الحب المولد للتجاذب و الاحترام المولد للتباعد . فبناء على هذا المعنى الأخلاقي الذي يقدمه كانط لمفهوم العلاقة مع الغير ، يمكن فهم أن الصداقة لا تقوم على المنافع المباشرة المتبادلة بين الذات و الغير بل تقوم على أساس أخلاقي محض .
          أما موقف إلكسندر كوجيف ( فيلسوف فرنسي من أصل روسي 1902 – 1968 ) عن هذه العلاقة التي تربط الذات بالغير ، فهو مختلف تماما عن موقف كل من أرسطو و كانط إ فإذا كان هذان الأخيران يعتبران الصداقة هي أساس هذه العلاقة ،  فإن ألكسندر كوجيف يعتبر أن العلاقة مع الغير يحكمها الصراع و الهيمنة و لا تحكمها الصداقة، . و هي على هذا الأساس ، تمشي وفق جدلية العبد و السيد التي بلورها هيجل . و مفادها هو أنه ، لكي يحصل الوعي بالذات ينبغي على الرغبة أن تتعلق بموضوع غير طبيعي أو بشيء يتجاوز الواقع المعطى ، كما أنها ينبغي أن تكون متعددة تخلق التفاضل الذي يستلزم خلق سلوكين متمايزين الأول يسعى إلى تحقيق السيادة و الثاني يحقق العبودية . فالإنسان لا يؤكد رغبته في العيش كإنسان إلا إذا خاطر بحياته الحيوانية . و هكذا نجد أن الإنسان ، بناء على نظرية هيجل هذه ، قد ظهر داخل قطيع يسوده راع قوي استمد قوته من خضوع الضعيف المستسلم في معركة يسودها قانون الغاب حيث لا يكون البقاء إلا للأقوياء.فالإنسان ، بهذا المعنى ، لم يستطع تحقيق حالة المجتمع والخرج من حالة الطبيعة البدائية ، إلا عندما استعمل القوة و سلطها على الغير من أجل السيطرة عليه و نزع الاعتراف بالذات منه .
      و من موقف الفلسفة الوجودية ، يعالج مارتن هيدجر مسألة العلاقة مع الغير، انطلاقا من اعتبارها تشكل أساس علاقة اشتراك بين الذوات الدال هنا على وضعية الإنسان في العالم من خلال تجربته الوجودية و من خلال علاقته بالكائنات البشرية الأخرى .فالعالم ، الذي نتواجد فيه ، هو نفس العالم الذي نتقاسمه مع الغير . فالوجود ( في - العالم ) هو الوجود في ( العالم – مع  ), و هذا يعني أن عالم ( الوجود – هنا ) ( الدزاين Desein   ) هو عالم مشترك ، و الوجود - من أجل  ، هو وجود مع الغير. و هذا يعني أن " الدزاين ( الوجود – هنا ) لا يتحكم في وجوده بل يعني أن ماهيته ليست شيئا آخر غير طريقة وجوده .
      لفهم العلاقة مع الغير ،  ينطلق موريس ميرلوبونتي ( 1909 –  1961 ، فيلسوف فرنسي )  من الربط بين تصورين فلسفيين لبناء تصور فلسفي جديد ، يتعلق الأمر بالتصور الوجودي الساتري لمفهوم السلب و العدم ( الآخر ليس هو أنا ) و التصور الفينومينولوجي ، كما بلوره إدموند هوسرل ( 1859 – 1938 ، فيلسوف ألماني ) ، الذي يعتبر أن العلاقة مع الغير هي بالأساس علاقة " بين – ذاتية " و عليه فالعلاقة مع الغير ، حسب موريس ميرلوبونتي ، تستلزم ، في تحقيقها ،  التركيز على فتح قنوات الحوار و التواصل مع الغير و عدم النظر إليه نظرة موضوعية تشييئية . فالنظرة إلى الغير لا تحول الغير إلى شيء ، كما أن نظرة الغير ، هي بدورها ، لا تحولني إلى موضوع ، اللهم إلا إذا انسحب كل واحد منا و قبع داخل طبيعته المفكرة و شعر بأن أفعاله  تخضع للملاحظة و كأنها مجرد حشرة ، بدلا من أن تقبل و تفهم. و عليه ، فنظرة شخص مجهول إلي لا تحولني إلى موضوع . فالامتناع عن التواصل هو في حد ذاته نوع من التواصل ، أي أنه  تعبير عن تواصل ممكن يتأتى و يتحقق بالنطق بالكلام ، الذي هو الكف عن تعالي الغير علي كذات . و هكذا ، فالمجال الذي كنت اعتقد أنه مستعصي علي بلوغه، أصبح ، بفضل التواصل و اللغة ، ممكن التحقق .
     تتأسس العلاقة مع الغير ، حسب أوغست كونت ( عالم اجتماع فرنسي ) على الغيرية L alterite  و نكران الذات و التضحية . و هي مبادئ ترسخ في الإنسان المحبة و تذكي في نفسه شعلة التعاطف. فالغيرية قيمة أخلاقية لا تختلف عن قيم العقل و العلم ، ففبها يتجاوز الإنسان أنانيته و ذاتيته الضيقة و غرائزه الحيوانية .
     أما جوليا كريستيفا ( 1941 ، عالمة لسان فرنسية من أصل بلغاري ) فإنها ترى أن الغير لفظة مشتقة من المغايرة أي الاختلاف ، و ما دام الأمر كذلك ، فالغير هنا ، هو الآخر الغريب و المختلف و الأجنبي المندس وسط جماعة تختلف عن جماعته الثقافية . الغير ، بهذا المعنى ، هو دلالة الحذر و التوجس و الكراهية التي يثيرها لدى الذات . إنه اسم نكرة مجهول العنوان ، لأنه لا يشاطر جماعة مرجعيتهم الثقافية المشتركة . إنه كائن دخيل ، و باعتباره كذلك ، فقد نظر إليه ، تاريخيا ، على أنه الذات المسؤولة عن كل الشرور التي ينبغي القضاء عليها من أجل إعادة الاستقرار و الأمن للجماعة .
      و الفعل ، فهذا الإقصاء المباشر لذات الغير نلمسه ، بشكل شعوري و لاشعوري ، في مجتمعنا المغربي ، في تمثلات الناس كحس شعبي مشترك ينطلق من ثنائيات معينة : عروبي \ مديني ، أمازيغي \ عربي ، فاسي \ عروبي ... فالغريب ، بهذا المعنى ، حسب جوليا كريستيفا ، هو غريب يسكن ثقافتنا على نحو غريب ، هو اسم مستعار للحقد و الاقصاء و التهميش .
     خلاصة تركيبية

     إن التفكير في العلاقة مع الغير ، يكشف عن إشكالية عميقة و غنية في طرحها لهذه المسألة الفلسفية . فالعلاقة بين الأنا و الآخر هي علاقة جد مركبة . فالغير ، كما رأينا على المستوى الأنطلوجي ، نجده قد يتحدد إما جدليا  ( هيجل ) أو إما ذاتيا ( ديكارت ) ، أو على المستوى المعرفي ، نجده قد تحدد وفق نظرة تشييئية ( سارتر ) أو وفق مقاربة تجعل من المشاركة الوجدانية المحدد الأساسي لمعرفته ( ميرلوبونتي ) أو وفق مقاربة تراه من منظور يتوخى الشمولية ( شيلر ) أو وفق المنظور البنيوي المحدد للموضع الذي تثبت عليه ذوات الأغيار ( دولوز و غاتاري ) ، أو على المستوى العلائقي ، حيث نجد الغير قد تحددت علاقته بالذات وفق تصورات عديدة تتأرجح ما بين النظرة الإقصائية  و النظرة الأخلاقية الوجدانية و النظرة التي تريد تؤسس العلاقة مع الغير على أسس الحوار و الاختلاف و المغايرة .      

الأربعاء، 20 نوفمبر 2013

معرفة الغير


تأطير إشكالي للمفهوم
    على مستوى هذا المحور الثاني من موضوع الغير ، يمكن القول أن فلسفات العصر الحديث كانت تحت تأثير الاتجاه العقلاني الذي جعل من " الكوجيطو " الحقيقة الواضحة و المتميزة . و قد ترتب عن هذا المبدأ اعتبار أن جميع موضوعات الغير، المرتبطة بالأحاسيس و المشاعر، التي تبدو لنا في الجهة الأخرى المقابلة لنا ، هي موضوعات غير يقينية تمدنا ، فقط  بمعرفة تقريبية و تخمينية .
    يمكن الفهم من خلال هذا الترتيب أن إشكالية معرفة الغير هي إشكالية جديدة ستعمل الفلسفات المعاصرة على تناولها  من باب إخراج الغير من عزلته و جعله ذاتا مغايرة للأنا ، تكون منفتحة على العالم وفق مفاهيم و مقاربات جديدة . هذه الأخيرة ستضع الوعي ضمن خضم الوجود ، و ستعيد تأسيس الذات من خلال علاقة " بين ذاتية " كشرط لبناء معرفة موضوعية بالعالم لرصد ما تقوم عليه معرفة الغير .
    فانطلاقا من هذا التمهيد العام يمكن طرح إشكالية معرفة الغير وفق التساؤلات التالية : هل عالم الغير عالم منغلق تستحيل معرفته ، و بالتالي ، التواصل معه ، أم أن  معرفة الغير ممكنة ؟ إذا كان الجواب بالإيجاب ، فهل تعتمد هذه المعرفة على قوة الحكم الاستدلالي العقلي ؟ و على ماذا ترتكز ، هل على إدراك المتشابه للذات أم على المختلف منها ؟  ألا تلعب اللغة و الحوار دورا أساسيا في تحقيق عملية التواصل الرمزي  بين الأنا و الغير ؟  
   للإجابة عن تساؤلات هذه الإشكالية ، يرى نيقولا مالبرانش ( 1638 – 1715 فيلسوف و رجل لاهوت من أتباع العقلانية الديكارتية ) أنه إذا أردنا أن نبني معرفة عن الغير فإننا لا نستطيع أن نحصل على معرفة يقينية بكل ما يحسه الغير أو يشعر به ، و السبب في نظره هو أن المعارف التي نكونها عن الآخرين تكون معرضة للخطأ و التخمين . فنحن نكتفي فقط بالحكم على الغير ، اعتمادا على إحساسات قد كوناها عن أنفسنا ، و هذا يعني أن أحكامنا في حق الغير قد تحمل الخطأ و قد تحتمل الصواب . فإذا افترضنا أن هناك تطابق بين معارف الذات مع معارف الغير فإن ذلك لا يمكن أن يسري على معرفة الخصوصيات التي تجعل من ذات الغير ذاتا مغايرة لنا، الشيء الذي يجعل معه من المستحيل النفاذ إلى أعماق الغير لإدراك حقيقة مشاعره و انفعالاته.
   واضح من خلال هذا التصور الفلسفي أن مالبرانش قد تأثر بالاتجاه العقلاني الديكارتي الذي الذي يبقى أسير مفهوم " الأنا وحدية "
    أما ماكس شيلر ( فيلسوف ألماني ) فإنه يعتبر أن النظرة التي تقسم الغير إلى ظاهر و باطن ، جسم و روح و بالتالي تجزيء عملية الإدراك إلى باطني و خارجي ، هي نظرة لا تقود إلى بناء معرفة حقيقية عن الغير ، لأنها نظرة تجزيئية ، فوحدها النظرة الكلية التي تجمع ما بين الظاهر و الباطن هي الكفيلة بجعل معرفة الغير تكون معرفة ممكنة . فتعبيرات جسد الغير لا يمكن تجزيئها إلى أجزاء و إعادة تركيبها لا يعطي الربط الحقيقي بين الظاهر و بين الباطن . و هذا يجعل من التعاطف السبيل إلى النفاذ إلى أعماق الغير و تكوين معرفة صحيحة عنه. فلا ينبغي الفصل بين تعبيرات الجسد و المشاعر الباطنية ، فاتحادهما  ، في نظر ماكس شيلر ، يشكل كلا لا يقبل الانفصال .
    بينما غاستون بيرجي فإنه يعتبر أن الحميمية مع الذات التي تحمي و تحدد الإنسان ، تعد أكبر عائق نحو تواصل حقيقي و مثمر مع الغير ، فلا يمكن للآخرين اختراق وعينا و لا يمكن لنا اختراق وعيهم ، فالتجربة الداخلية للأنا التي هي الوجود الحقيقي ، لا نستطيع نقلها إلى الآخر . فعالم الذات ، مثلما عالم ذات الآخر ، الموجود في الواجهة الأخرى ، هو عالم سري و معزول ، و سجن منيع محاط بسور . يقدم غاستون بيرجي مثال تجربة الألم لتوضيح أن معرفة الغير تكون غير ممكنة . فقد نتعاطف مع الغير عندما يحس بالألم عبر مواساته و مشاطرته أحزانه ، لكن لا نستطيع البتة ، كذات مغايرة له ،  أن نعيش تجربته بشكل حقيقي، و السبب هو أنها تعتبر تجربته الذاتية المرتبطة به ، و ليست مرتبطة بنا كذوات أخرى مقابلة له .
     أما إدموند هوسرل  ( 1859 – 1938 فيلسوف ألماني ) فإنه يرى أن معرفة الغير هي ممكنة  . فذاتنا لا تتعامل مع ذات الغير كموضوع خارجي ، انطلاقا من وعيها بذاتها و من شعورها بتجربتها المتعالية عن العالم ، بل تتعامل معه ، من خلال ذلك التوحد الذي يجمع بينها و بينه في عالم " بين – ذاتي " فللغير ، أيضا نفس التجربة الذاتية الخاصة به . فهذا العالم موجود لكل واحد منهما و موضوعاته في متناولهما. فالذات تستطيع  تعرف الغير من خلال مماثلة نفسها بذاته في إطار علاقة بين – ذاتية.  
   و من زاوية مغايرة لزاوية نظر إدموند هوسرل ، يرى جان بول سارتر أن معرفة الغير نابعة من العلاقة بين الذات و بين الغير ، التي يحكمها الإقصاء و التشييء المتبادل بين الطرفين. فحرية كل واحد منهما تتجمد ما أن يحس أحدهما أنه مراقب من طرف نظرات الآخر التي تسحبه من مركزه و تحوله إلى هامش و موضوع و شيء . فالغير بالنسبة للذات هو " لا أنا " أي هو سلب و نفي فاصل بين الذواتين .  فالغير بهذا المعنى ،  لا يؤثر في كينونة الذات من خلال كينونته . و مادام الامر كذلك فهو يتبدى للذات كموضوع ، على أساس اعتبار أنها هي التي تكونه ضمن حقل تجربتها ، حيث لا يكون الغير سوى صورة ذهنية لها . و لعل ما يلخص هذا التصور هو قولة سارتر الشهيرة : " الجحيم هم الآخرون "
     أما موريس ميرلوبونتي فإنه يبني تصورا ظاهريا عن الغير ، نافيا بذلك نزعة " الأنا وحدية " التي تدعي أن معرفة الغير ليست يقينية ، لأنها تتم بالقياس إلى الأنا.
     يعتبر ميرلوبونتي أن العالم ليس موضوعا ، بل هو هذا الذي ندركه ، فهو مجال تتجلى فيه أفكار الإنسان و تتحقق فيه إدراكاته الحسية ، فهو يتعرف على نفسه و غيره داخله ، و وظيفة الفلسفة هي الكشف عن هذا العالم الذي له معنى . و على الإنسان أن يعيد تشكيل ذلك المعنى و تجاوز ثنائية الذات و الموضوع . و يعتبر الجسد هو الخيط الناظم بين الذات و بين العالم لأنه يعيش تجربة الوساطة بينهما .
و تبعا لهذا المعنى ، يقوم ميرلوبونتي بوصف فينومينولوجي لعملية التواصل ليستدل على إمكانية معرفة الغير عن طريق ما يسمى بالاستدلال بالمماتلة  التي مفادها أن معرفة الغير ممكنة ، بحيث تكون قائمة على افتراض أن الغير هو شبيه و مماثل للذات . فنحن نعرف الغير بواسطة رموز و علامات ، فاحمرار الوجه علامة على الخجل و البكاء علامة على الإحساس بالألم . فالجسد يقوم بوظيفة الحركة و التعبير ليصبح وسيطا يحقق الإنسان عن طريقه وجوده في العالم . من هنا ينتقد ميرلوبونتي فكرة سارتر التي ترى بأن من شأن النظرة المتبادلة بين الأنا و الآخر تحيل أحدهما إلى موضوع أي إلى شيء ، فهذه العملية لا تتحقق إلا إذا كان أحد الطرفين مجهولا بالنسبة إلى الآخر ، فالتوقف و الانقطاع يكون مؤقتا فقط عندما يكف الغير عن التعالي عن الذات في الوقت الذي يهم بالحديث فينشأ التواصل . فحتى اعتكاف الفيلسوف في خلوته و انقطاعه عن الناس من أجل التأمل هو في حد ذاته حوار و فعل ز كلام فالانعزال التام يحمل معه الآخرين و في هذا الصدد ، يتحدث ميرلوبونتي عن فعل الانبثاق المشترك co-naissance  و ليس عن معرفة connaissance  .
  
   


الأحد، 10 نوفمبر 2013

وجود الغير


وجود الغير

تقديم الإشكالية

     لا يمكن الاعتراف بوجود الغير إلا إذا اعتبرناه يشكل مفارقة أنطلوجية و معرفية ضرورية . و مفاد ذلك أن وعي الذات بنفسها لا يتحقق إلا بوجود الغير ، أي أنه لا وجود ل " لأنوات" منعزلة في هذا العالم . و ما دام الأمر بهذا المعنى ، فإن وجود الغير ، من الناحية الفلسفية ، قد شكل قضية فلسفية أثارت نقاشات واسعة في أوساط الفلاسفة ، تختلف درجة حدتها باختلاف تناولهم لها و تعمقهم في مختلف جوانبها .

     فما الذي يميز وجود الغير ؟ هل هو مؤشر دال على ذوبان الذات في حياة الجماعة ، أم يشكل وعيا مستقلا ؟ و كيف يمكننا الحديث عن " أنا آخر " غير " أنا  المتكلم " ؟ و كيف يمكن فهم أن الغير ، من جهة ، يكون شرطا لإدراك ذاتي ، و من جهة أخرى ، وسيطا حائلا بيني و بينها ؟ هل يمكن تصور الغير كعالم واقعي يخضع للوجود الممكن ؟

    هناك مقاربات فلسفية تجيب عن هذه الإشكالية:

     من وجهة نظر الفلسفة الوجودية ، ينطلق مارتن هايدجر من التفكير في سؤال معنى الوجود الإنساني ، الذي يقسمه إلى :  وجود  متعين و وجود راهن . فالأول هو الذي تعيشه الذات لنفسها ، أما الثاني فهو الذي تعيشه الذات مع الآخر . فباقتسامها معه ذاك الوجود تفقد معنى  وجودها كاختلاف.

     فوجود الإنسان بما هو إنسان يتجاوز وجود الأشياء (" الموجود – هنا ") لا يكون مطابقا لذاته ككينونة خاصة ، لأنه يكون مفرغا منها و مذابا في نمط الوجود المشترك اليومي الذي يتحكم فيه الغير (الوجود – مع - الغير ) .و هذا الوضع الوجودي يجعل الآخر ، منذ الوهلة الأولى ، يكون على نمط " الموجود – هنا " و تصبح ، بالتالي سلطته قوية ، فتختفي الذات و ذات الآخر أكثر فأكثر و تفقد كل واحدة منها ما يميزها و ما يجعلها متفردة ، ليبرز ، بالتالي ضمير المجهول On   و يطور خاصيته الدكتاتورية المميزة له ، فيصبح ، ترتيبا على ذلك  ، كل واحد هو آخر  ، و لا  أحد هو هو  . و في هذه الحالة يتم في الكائن فقد صفة الشخص المتعين .

     يتضح مما سبق أن الغير ، يغلق كل طرق الوجود الأصلي أمام الكائن، و يمحو كل التمايزات و كل الاختلافات بينه و بين الأنا ، فهو ، بهذا المعنى الوجودي الذي يقدمه مارتن هايدجر ، وجود دال على اختفاء و ذوبان الذات في حياة الجماعة.

      و من نفس منطلق الفلسفة الوجودية يرى جان بول سارتر ، أن الغير ، من جهة أولى، ليس بمعطى تقدمه لنا تجربتنا في الوجود، بل هو نظام تمثلات الذات التي تكونه شيئا فشيئا كموضوع عيني بواسطة أحداث تجربتها، كما أنه أيضا ، و من جهة ثانية مقابلة للذات ، هو نظام مترابط من التجارب المستقلة عن الذات ، حيث تكون هذه الأخيرة موضوعا ، هي الأخرى ، من بين الموضوعات . يفهم من هذا أن الغير هو سلب جذري لتجارب الذات و نفي لها من حيث هو مركز للعالم.

      يترتب عن هذا التحديد المزدوج المعنى لمفهوم وجود الغير، الذي يقدمه لنا سارتر، ما يلي :

     -  الغير هو " أنا آخر " الذي هو ليس بأناي و لست أنا إياه .

     - السلب ، أو العدم ، هو بنية مكونة لوجود الغير ، أي أنه عنصر فصل معطى بين الغير و بين الأنا ، لا يستمد أصوله كنفي أو كسلب أو كعدم من الأنا كذات و لا من الغير و لا من العلاقة المتبادلة بينهما بل يستمدها من نفسه باعتباره أساس كل علاقة ممكنة بينهما . السلب هو غياب أولي لهاته العلاقة .   

      - وجود الغير نابع أساسا من أطروحة فلسفية وجودية تعطي الأسبقية المنطقية و الزمانية للوجود على الماهية . فوجود الكائن سابق على ماهيته . و ماهية الإنسان هي حريته، حيث تعتبر شرط الوجود في العالم و مع الغير. هذه الأخيرة ( أي الحرية ) ليست معطى مباشرا بل هي محكومة بوضعيات استيلاب و تشييء .

       أما الفيلسوفين الفرنسيين جيل دولوز و فليكس غاتاري ، فإنهما يطرحان مسألة الغير من منظور مغاير للأسس الفلسفية التي انبنت عليها الذاتية و الوعي . فالغير لا يعتبر ، في نظرهما " أنا آخر " كما رأينا مع جان بول سارتر ، بل هو عالم ممكن ، منفتح أمامنا كي نكتشفه و نجربه .

        ينطلق هذان الفيلسوفان من طرح تساؤل افتراضي حول مفهوم الغير ، كما تصورته الفلسفات الذاتية ، يتعلق بمرتبته بالنسبة " لأنا ما " ، ليفترضا ، من جهة أولى ، كإجابة عن هذا التساؤل ، أن هذا المفهوم يعد تاليا ، لأنه ينطبق على آخر خاص بالنسبة إلى الأنا التي تمثله في صورة موضوع .

        فانطلاقا من هذا التصور للذاتية ، الذي يغلب عليه طابع الحضور و التطابق ، تصبح المفاهيم التالية : الذات ، الغير ، الموضوع ، الشخص ، مفاهيم تحيلنا إلى تعدد الذوات . و هذا يطرح ، في نظر هذين الفيلسوفين ، مشكلات فلسفية لا تحل إلا بتبني  تصور بنيوي يستلزم منطق العلاقات الذي يحول الذوات إلى أغيار . هذا التصور الجديد هو تجاوز للفلسفة الذاتية المنبني على فلسفة المغايرة و الاختلاف الذي ساهم في وضعه جان بول سارتر، و ذلك من خلال مفهوم السلب أو العدم يقول في ذلك دولوز : " يعتبر إسهام سارتر إسهاما رائدا للبنيوية لأنه أول من تصور الغير كبنية خاصة أو محددة غير قالبة للاختزال في الموضوع و في الذات "

       فانطلاقا من هذه النظرة البنيوية لمفهوم الغير ، حدد كل من دولوز و غاتاري ، الغير كبنية ذات مكونات ثلاثة : عالم ممكن ، وجه قائم الوجود ، و كلام و لغة واقعية .و تتجلى قيمة هذه الأطروحة الفلسفية في مراهنتها على الفهم البنيوي للغير باعتباره عالما ممكنا .

      و تجدر الإشارة ، في هذا الإطار ، أنه سبق لجيل دولوز أن تقدم بهذه الأطروحة  لنيل الدكتوراه في تحليله لرواية ميشال تورنييه  Vendredi ou les limbes du pacifique   التي تحكي عن روبنسون كروزو الذي ظل في جزيرة لوحده مدة طويلة ، بعد أن غرقت سفينته و نجا وحده ، فالتقى بالفتى بعد معاناة الوحدة و العزلةVendredi   ذلك العالم الممكن . يقول تورنييه على لسان بطل الرواية : " لقد توصلت الآن إلى قناعة مفادها أن الأرض التي عليها تطأ قدماي تحتاج ، كي لا تهتز ، إلى آخرين غيري ليعمروها . إن الحصن الأكثر أمانا ضد الوهم البصري و ضد الاستيهامات ، وضد حلم اليقظة و الهذيان و اضطراب السمع ... هو أخونا و جارنا و صديقنا أو عدونا ، مهما كان هذا الغير "

السبت، 9 نوفمبر 2013

الغير : تأطير إشكالي للمفهوم


الغير

تأطير إشكالي للمفهوم

        ستكون الإجابة بالنفي لو طرحنا السؤال التالي: هل يستطيع الشخص أن يعيش بمعزل عن الآخرين في هذا العالم ؟ ذلك أن الآخر يكون دائما حاضرا و موجودا جنبا إلى جنب مع الذات لتأسيس الوجود الإنساني . فقد يكفينا النظر إلى مختلف المواقف و المشاعر المختلفة و المتناقضة كالحب و الصداقة و الكراهية و العنف لنحكم أن الغير، هو دائم الحضور ،  يساهم معنا  بشكل كبير في تشكيل هذه المواقف و تلك المشاعر. بل أكثر من ذلك،يمكن القول أن الغير ، هو ّ أنا آخر " له أفكاره المختلفة عن أفكارنا، يقف في وضعية مقابلة لنا ، وضعية المواجهة ، التي قد تتخذ صفة الصداقة أو صفة العداوة التي يغذيها الصراع .

     يفيدنا الرجوع إلى الدلالة اللغوية في رفع اللبس عن معنى الغير. فهو يشير في معناه إلى المغايرة و الاختلاف. ففي اللغة العربية يتضمن الغير معاني تفيد الغيرة و المبادلة و التغير ، و يقابله في الفرنسية لفظ Autrui أو  Autre  للدلالة على الغيرية L autruite  حيث يكون العالم الإنساني مجرد مستوى من مستوياته .

    كما يفيدنا الرجوع إلى دلالته الفلسفية في تعميق معناه و جعله  يكتسب، إلى جانب الغيرية و التعدد و الاختلاف، صفة الغموض.   

     و هكذا ، فالتجارب الإنسانية العديدة توضح لنا بالملموس أن الغير يؤسس المجتمع و يبني المعتقدات و يشكل الطقوس الملازمة لها على أساس أنها نابعة منه بحيث تكتسب صفة الغرابة و الغموض ، انطلاقا من الحكم عليهاإما بالاستحسان أو بالاستهجان.

     و بناء عليه، يتحول الغير ، فلسفيا ،  من كائن مألوف لدينا إلى كائن ذو بنية غامضة له مجاله الذي يتصدع فيه وعينا ، بحيث يصبح مشكلة حقيقية تهدد وجودنا كذوات حرة و مستقلة ، و يتحول بالتالي ، إلى بؤرة لمفارقات منطقية و وجودية تدفعنا إلى طرح مجموع تساؤلات حول إمكانية معرفته معرفة حقيقية و حول إمكانية خلق علاقات تواصلية معه و ما قد يترتب عنها من رهانات أخلاقية.

    و لتأطير هذا المفهوم فلسفيا ، يمكن القول ، أن تاريخ الفلسفة لم يعرف أي بلورة له قبل الفلسفة الهيجلية. فديكارت في كتابه " تأملات ميتافيزيقية " قد رصد الغير ك " شخص آخر " La personne de l autre  ، ذلك الشخص التي ترصده أعيننا عبر نافذة مطلة على شارع عام ، دون أن يسعى إلى ترقيته إلى مصاف الذات المفكرة ، و ذلك باعتباره يشكل مشكلة جديدة و خاصة ، تجعل منه ذات أخرى لها وجود حقيقي يعادل وجود الذات المفكرة . فالأنا المنعزل و الوحداني غير المرتبط بالآخرين ( الأنا وحدي ) ، الذي صاغه ديكارت في رحلة الشك و بناء الذات المفكرة و العارفة ،  قد أعلن، مواجهة ميتافيزيقية بين " الأنا المفكر " و بين " الشخص الآخر " La personne de l autre  . هذه المواجهة نجدها قد أغفلت  ، في نظر مشال فوكو ، عنصرا آخر مركزيا  ( الغير ) و أقصته من دائرة انشغالها الفكري . فبفعلها ذاك  ، يقول فوكو ، تكون قد أبعدت إشكاليات أخرى مركزية كإشكالية المجتمع و التاريخ و الحضارة .

     لقد تشكل الغير إذن ، كمفهوم فلسفي ، مع هيجل ، الذي لم يعتبر ، في كتابه الهام : " فينومينولوجيا الروح " وجود الغير وجودا عرضيا ، كما فعل ذلك ديكارت ، بل اعتبره وجودا مكونا لوجود الأنا .هذا التشكل جعل من اللحظة الهيجلية  لحظة تأسيس فلسفي لطبيعة العلاقة بين الأنا و الآخر . حيث لا يحصل الوعي بالذات انطلاقا من الوعي بنفسها كذات ، بل يحصل عبر تعرف هذه الأخيرة على نفسها في موضوع غريب عنها ( الرغبة في الآخر ) . فالغير ، بناء على ما تقدم ، لا يتجلى للذات إلا من خلال فكرة  الصراع الجدلي للذوات ، أي عندما يتم الاعتراف بوجوده كذات مغايرة تدخل في علاقة صراع من أجل إثبات الذات .

     قد يشكل الغير بعدا أساسيا في حياتنا رغم انغلاق الذات في عالمها الداخلي . فالعلاقة مع الغير هي علاقة اشتراك مع الذوات ، تكون دالة على وضعية الإنسان في هذا العالم و تجربته الحية . هذه العلاقة تدعونا إلى رفع الغرابة عن ذات الغير و بالتالي احترام الإنسانية في شخصه و مبادلة نظراته و تصرفاته الغريبة بتصرف صعب : تصرف القريب و البعيد ، تصرف الشبيه لذواتنا و المختلف عنها في نفس الآن .  

    و في الأخير ، إذا كان وجود الغير وجودا حقيقيا يتأتى بفعل صراع الذوات، كما رأينا ذلك مع هيجل، فهل بإمكاننا بناء معرفة يقينية عنه ؟ و كيف يظهر هذا الغير في تجربتنا داخل العالم كإدارك معبر عن تجربة إنسانية و جسدية مختلفة منزاحة عن المركز ؟ هل عالم الأنا عالم داخلي و مغلق لا يستطيع الغير اقتحامه أم هو عالم منفتح يقبل غيرية الآخر، ذلك الآخر المختلف عنا في ثقافته و أنماط عيشه و سلوكه و توجهاته الفكرية و القيمية ؟

     هذا ما سنحاول مقاربته في المحاور التالية :

-          وجود الغير

-          معرفة الغير

-          العلاقة مع الغير

الجمعة، 1 نوفمبر 2013

الشخص بين الضرورة و الحتمية


الشخص بين الضرورة و الحتمية

تأطير إشكالي

     يولد الشخص مزودا بفطرة و رغبات ، و ينمو و يكبر داخل مجتمع له معاييره و عاداته و طقوسه و رموزه الثقافية . فمن منظور التحليل النفسي ، و كما سبق الذكر ، يعتبر الشخص محكوما بإكراهات بيولوجية و ثقافية تتجلى في هيمنة اللاشعور الذي يمثل الرغبات المكبوتة .

    إذا كانت التصورات الفلسفية السابقة التي تناولت الشخص على مستوى هويته و مستوى قيمته ، تعتبره ذاتا معرفية و أخلاقية تنبع من إرادة مشكلة لصورة مثالية له، منطلقة مما يجب أن يكون ، فهل يمكن اعتبار هذه الصورة متحققة على أرض الواقع ؟ إذا كان الأمر كذلك ، فما مدى حرية الشخص في تركيب و تحقيق تلك الصورة ؟ أليست هناك ضرورات و حتميات نفسية و اجتماعية و ثقافية و تاريخية تفرض على الشخص تصرفات لا دخل له فيها ؟

   كإجابة عن تساؤلات هذه الإشكالية التي تحصر الشخص في كونه فاعلا و مريدا و حرا و في نفس الوقت خاضعا لضرورات و حتميات تكبل له تلك الإرادة و تلك الحرية ،  ينتقد الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا ( 1632 – 1677 ) التصورات العامية التي تعتبر أن الإنسان حر في اختياراته ، يتصرف وفق مشيئته . فلا توجد حرية إنسانية تجعل من الشخص كائنا أسمى من الطبيعة . فأن يكون الإنسان حر معناه أن يمتثل للضرورة التي تفرضها عليه طبيعته. فسلوك الإنسان يكون محكوما بالرغبات و الشهوات . فكل شيء جزئي مهما تعددت استعداداته هو بالضرورة مجبر من طرف علة خارجية على أن يكون و على أن يتصرف على نحو معين . يصدق هذا الكلام على الإرادة و الوعي الإنسانيين .

    أما فيلسوف الشخصانية ، إيمانويل مونييه ( 1905 – 1945 ) ، فهو يرى أن الشخص ، حتى و إن كان يعيش وسط جماعة ، فإنه يحافظ على استقلاليته و تميزه ، بل أكثر من ذلك ، يجب على المجتمع أن يساعده على ذلك و ذلك بوضع نظام شرعي قانوني . فحرية الفرد ، حسب مونييه ، تتم انطلاقا من تطوير قدراته و ميولاته بشكل فردي و بإرادة شخصية و بمساعدة المجتمع .

   أما فيلسوف الوجودية جان بول سارتر ( 1905 – 1980 ) فإنه يعتبر أن ماهية الشخص هي حريته . و الشخص لا يعتبر مشروعا يتحدد دائما به ، إلا إذا كان هذا المشروع من اختياره . فالشخص بهذا المعنى ، هو دائم التجاوز لوضعيته الأصلية بواسطة الأنشطة التي يمارسها .

   يتميز الشخص ، حسب ، سارتر ، بالتعالي عن وضعيته ، فهو بواسطة الفعل و الحركة و الخلق يستطيع أن يختار ماهيته و بالتالي مشروعه ، و يتحمل ، بالتالي مسؤولية الأفعال التي تصدر عنه كشخص يبني مصيره بيده ، فليس الإنسان شيئا آخر إلا ما هو صانع بنفسه .

   أما سيغموند فرويد فإنه يعتبر أن الشخص محكوم ، بيولوجيا ، بواسطة نظام الهو ، ذلك الخزان من الغرائز البيولوجية و الرغبات المكبوتة . و معنى هذا أن اللاوعي هو الموجه الرسمي للوعي و أن الأنا لا يعتبر سيد نفسه . فوراء حياة الشعور حياة لاشعورية تختزن كل الرغبات المكبوتة منذ عهد الطفولة المبكرة . فهذه الدوافع اللاشعورية تتحكم فيه غريزتان أساسيتان : غريزة اللبيدو و هي قوى بيولوجية تسعى إلى تحقيق اللذة الجنسية . و غريزة الموت و هي تلك الميول العدوانية الرامية إلى الكراهية و تدير الذات .

  خلاصة تركيبة

  نستخلص من خلال تحليل مفهوم الشخص ، سواء على مستوى هويته الذاتية أو على مستوى قيمته أو على مستوى خضوعه أم عدم خضوعه للضرورات و للحتميات ن الاستخلاصات التالية :

-           صعوبة تحديد هذا المفهوم الفلسفي ، النابعة من كونه مفهوما مركبا يفترض مقاربات عديدة حقوقية و و أخلاقية و سياسية و علمية إلى جانب المقاربة الفلسفية ، لتحديده .

-          هوية الشخص تشكل مفارقة فلسفية كبيرة ، لكون ارتباطها من جهة ، بالشعور و بالذاكرة ، و من جهة أخرى ارتباطها بالإرادة التواقة إلى التحرر و التغيير .

-          الشخص كائن له قيمة يستمدها من كفاءته العقلية و كفاءته الأخلاقية اللذان يتحدان معا ليشكلا ذلك الكائن العاقل  و الأخلاقي الذي يسهم مع غيره من الأشخاص في بناء الذات و المجتمع و التاريخ و الحضارة الإنسانية .

الأحد، 20 أكتوبر 2013

الشخص بوصفه قيمة


 

ا                                                                لشخص بوصفه قيمة

تأطير إشكالي

   القيمة هي خاصية تقديرية ذات أساس معياري أخلاقي و ذاتي ، يفترض إن وجدت في الشيء جعلته إما مرغوبا فيه أو غير مرغوب فيه . و هي بهذا المعنى تتجسد في الأحكام التقديرية الذاتية المتضمنة لمعاني الاستحسان أو لمعاني الاستهجان . كما أنها تعني كل ما يمكن أن نضفيه على الأشياء أو الأشخاص من أحكام تحدد مكانتها بالنسبة لنا ، انطلاقا من مقارنتها بنموذج أسمى .

   فبناء على هذا المعنى للقيمة ، يمكن أن نؤطر هذا المحور من موضوع الشخص ، انطلاقا من اعتبار هذا الأخير يتأرجح وجوده القيمي بين كونه ، من جهة أولى ، يشكل واقعة مادية  نابعة من تصور أداتي يعتمد قيمة الشخص من حيث كونه وسيلة لتكوين معرفة موضوعية عنه ، و من جهة ثانية يشكل كينونة نفسية متميزة نابعة من تصور تأويلي تفهمي ، يعتمد تلك القيمة من حيث اعتبار الشخص غاية في حد ذاته .

   فهذا التصور الأخير يجعل من الشخص ذاتا حقوقية لديها ما يكفي من التبصر الأخلاقي و المسؤولية عن كل ما يصدر عنها من أقوال و أفعال . لأن أساس الوحدة الكلية للشخص هو ذلك البناء الإرادي الذي يكون مؤطرا بقيم المجتمع و نظمه المعيارية التي يرتكز عليها. هذا الإقرار، حتى و إن كان ينفي كل قيمة مطلقة محسوبة على الشخص تريد أن تتجاوز حقوق الغير، فإنه لا يستبعد استقلالية الشخص عن الآخرين ، تلك الاستقلالية التي تكون مستمدة منهم، انطلاقا من مشاركة الشخص معهم .   

    فبين هذين التصورين تكمن إشكالية الشخص بوصفه قيمة . فهل تكمن قيمة الشخص في كونه غاية أو في كونه وسيلة ؟

يجيبنا عن هذه الإشكالية الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ( 1724 – 1804 ) خاصة في كتابه " أسس ميتافيزيقا الأخلاق " حيث يقدم لنا نظرة فلسفية طموحة حول قيمة الشخص يتجاوز من خلالها أطروحة ديكارت . فقيمة الشخص ، بحسبه ، لا تتحدد في فعل التفكير و الوعي بالذات ، ذلك الفعل الذي حاول ديكارت أن يجعل الإنسان به كائنا ساميا فوق جميع الكائنات . فما يجعل الشخص ساميا ، حسب كانط ، هو ما يتمتع به من كرامة و حرية ، حيث لا يعتبر الوعي الفكري سوى مدخل لهما . فاعتبار الشخص كذات لعقل أخلاقي عملي سوف لن يجعل منه وسيلة لتحقيق غايات الآخرين أو غاياته الخاصة ، بل سيجعل منه ذاتا تتجاوز كل سعر ، أي سيجعل منه غاية في حد ذاته .

      فالكرامة ، كقيمة داخلية مطلقة غير مشروطة بضرورات معينة ، تعمل على تحرر الذات من قوانين الطبيعة ، و قد استمدها كانط من محاولته صياغة مبادئ أخلاقية كونية ، التي تضم أوامر قطعية هي ، في الأساس ، أوامر أخلاقية . فالخير بالفعل هو خير بالقصد . و الشخص ، بناء على هذا التصور الكانطي ، هو غاية في ذاته و ليس وسيلة .

     أما الفيلسوف الألماني هيجل ( 1770 – 1830 )  فإنه يعتبر في كتابه " العقل في التاريخ " أن الشخص يستمد قيمته من خلال الامتثال لشعبه ، عبر تمثيله له ، باحتلال مراتب معينة . هذه الأخيرة تكون نتيجة الاختيارات الحرة للشخص .

      فالشخص ، من خلال هذا المعنى ، يشكل عقلا مجردا متميزا عن طبيعته المادية ، إنه وجود غير مباشر ، وعي و حرية و انفتاح على الواقع و على الآخرين ، و ذلك من خلال الدخول في علاقة جدلية أساسها تبادل التأثير و التأثر .   

      بينما يرى الفيلسوف الفرنسي جورج غوسدورف ( 1912 – 2000 ) في كتابه " مقالة في الوجود الأخلاقي " أن قيمة الشخص تكمن في استقلاليته التي يعتبرها تشكل نقطة وصول في مسار طويل في التعلم الذي يخضع له الشخص . هذه الاستقلالية لا يمكن أن تتحقق إلا بواسطة تجليها في أخلاق ملموسة تحدد الجهد المبذول لأجل الوصول إلى الكمال الشخصي . فالشخص الأخلاقي لا يدرك إلا بالمشاركة القابلة لكل وجود نسبي و المتخلية عن كل استكفاء وهمي يدعي القدرة على العيش ماديا و معنويا في معزل عن الآخرين. فهذا هو السبيل الوحيد ، في نظر جورج غوسدورف، الذي يضمن للشخص الانفتاح بذاته عن الكون و استقبال الغير .

      و من زاوية تركيبية لحقول دلالية متعددة فلسفية و اجتماعية و قانونية و سياسية، لصياغة تصور تركيبي موحد حول قيمة الشخص ، يرى الفيلسوف الأمريكي جون راولز ( 1921 – 2002 ) في كتابه الهام " نظرية العدالة " ضرورة انفتاح الشخص على الآخرين و الالتزام بمبادئ الأخلاق و الإيمان بالتعاون و حب الخير و العدالة الاجتماعية .  

      أما قيمة الشخص ، حسب الفيلسوف الفرنسي الشخصاني أمانويل مونيي ( 1905 – 1950 ) فإنها تتحدد باعتباره كائنا مريدا و واعيا يتجاوز بإرادته و وعيه شروط وجوده ، و ليس باعتباره موضوعا خارجيا أو كائنا متطابقا مع ذاته . فالشخص ،عبر آلية التشخصن ، يكتسب سمات شخصيته بحيث يغنيها بتجربته في الوجود ، لأنه ليس معطى جاهزا بل هو عملية اكتساب و مراكمة مستمرة لسماته الخاصة .
      نفس السياق الذي إليه غيمانويل مونييه ، يذهب إليه الفيلسوف المغربي محمد عزيز لحبابي (   ) في كتابه " من الكائن إلى الشخص " . فالشخص هو ذلك الكائن المتميز المعروف بهدفيته ، و المتميز بخصوصيته الفردية و سماته العقلية و الوجدانية و الجسمية الخاصة به وحده ، بحيث لا نستطيع أن نحدده موضوعيا إلى ما يماثله أو يشبهه لأنه شخص متجدد يحيا في المستقبل يشعر دائما بتوتر داخلي و بقوة تدفعه إلى إبداع الشخصية التي يرمي لأن يصبحها

السبت، 19 أكتوبر 2013

الشخص و الهوية


الشخص و الهوية

تقديم الإشكالية

        عندما يتكلم أي شخص، فإنه يستعمل ضميره المتكلم ( أنا ). و هذا يعني أنه و" أناه" يشكلان شيئا واحدا ، أي يشكلان هوية موحدة ، التي تبقى لها استمرارية عبر الزمن ، بحيث يصبح الشخص دائما هو نفس الشخص ، أي هو هو ، بالرغم من التغيرات التي قد تطرأ على مظاهره الخارجية.

        فانطلاقا من هذا المعنى ، سنعتبر أن هذا الشخص هو ذلك الكائن الإنساني الذي يشكل مع أناه وحدة صورية مستقلة عن باقي الشخوص الأخرى ، لها أصالتها و فرادتها النابعتان من تطابق خصائصها مع بعضها البعض ، في مختلف لحظات وجوده.

        لقد درجت الفلسفات الكلاسيكية في العصور الحديثة انطلاقا من ديكارت و ليبنيز و لوك و كانط و هيجل ، على حصر الذات في هذا المعنى الفلسفي الذي يجعل من الحضور و التطابق هو أساس هوية الشخص .

        لكن مع ظهور التحليل النفسي ، لم تعد تلك الوحدة الصورية متماسكة العناصر . لأن السائد هو عنصر التوتر الذي يشوب البنية النفسية للكائن الإنساني ، بدل عنصر الانسجام ، و عامل الصراع و التشظي بدل عامل التماسك بين العناصر . فقد نزع التحليل النفسي عن " الأنا " مركزيتها المطلقة و حاول تقويض تطابقها ، و قدم بذلك تصورا علميا بديلا عن فلسفة الحضور و التطابق ، و ذلك من خلال إحلال تصور جديد يعطي للشخصية دينامية متحركة يكون أساسها الصراع و ليس الثبات .

        فانطلاقا من هذا الإطار العام ، يمكن القول ، أننا أمام تصورين لهوية الشخص ، الأول فلسفي ، يعطي للحضور و للتطابق و للوحدة قيمة أساسية في فهم هذه الهوية ، و الآخر علمي ، يرى على أن التطابق لا يقدم صورة حقيقية عن هذه الهوية الشخصية ، لأنه يخفي عنصر الصراع و التوتر الذي يشوب دائما وحدتها ، مستبعدا كل الجوانب التي تجعل من الشخصية وحدة دينامية عسيرة و لا متناهية التحقق . و هذا هو مبعث إشكالية محور " هوية الشخص " التي يمكن صياغتها وفق التساؤلات التالية :

        ما الشخص ؟ و ما هي هويته ؟ و هل تقوم هذه الهوية على الوحدة و التطابق ، أم على التعدد و التغير ؟

        يرى الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال ، كإجابة عن تساؤلات هذه الإشكالية ، أنه يصعب علينا تحديد هوية الشخص . و مرد ذلك هو أن هذا الشخص الموجود وراء هويته يلبس أقنعة ، فوجوده الذي ننعته بأنه حقيقي و حضوره أمام الناس الذي يفرض به احترامه عليهم ، هو وجود يتقاطع مع الوهم . و السبب ، في  نظر باسكال ، هو أن الناس تحب في الآخرين أجسامهم و أنفسهم ، و هي صفات ( جمال ، جودة الحكم ، قوة الذاكرة ... ) تكون قابلة للزوال. فمن يحبني لا يحبني كذات جوهرية بل يحب فقط صفات معينة أتمتع بها سواء كانت جسمية أو معنوية.

        أما الفيلسوف الفرنسي جول لا شولييه  ، فإنه يعتبر أن الأساس الذي تثبت عليه هوية الشخص هي تلك الوحدة النفسية التي تكون منسجمة العناصر في الزمان و في المكان ، و المتشكلة عبر مراحل حياة هذا الشخص . فرغم ما قد يظهر علي هذه المراحل من مظاهر التغير و التبدل ، فأنها تبقى هوية ثابتة تحكمها آليات ربط نفسية تقوم بمهمة السهر على الحفاظ على وحدة ذلك الشخص . و قد اختزل لاشولييه هذه الآليات في اثنتين و هما : الطبع و الذاكرة .

       فالطبع، هو آلية نفسية ملحقة بالمزاج الشخصي الذي يتطبع به الشخص ليصبح ملازما له و لصيقا به ، فرغم تغير الأعوام و السنين ، يبقى الشخص هو هو . و سبب هذه الهوية الثابتة ليس ، في نظر لاشولييه ، هو ذلك العنصر الثابت فينا أو تلك الأنا الحقيقية الثابتة في دواخلنا ، فلو كان الأمر كذلك لما تبخرت الأنا المتخيلة في النوم عند الاستيقاظ ، أو لما كانت تلك الهوة العميقة بين أنا الأمس و أنا البارحة عند فاقدي الذاكرة ، أو لما حصل تناوب في ذات الشخص بين أنا أول و أنا آخر عند بعض المرضى النفسانيين ، لكن سبب هذه الهوية الثابتة هو تلك الديمومة المرتبطة بهذا الطبع أو هذا المزاج الشخصي ، الذي لا يبقى مستمرا و لا دائما إلا بفضل الآلية الثانية التي هي آلية التذكر . فذكرياتنا تشكل سلسلة مترابطة الأطراف ، و حالتنا النفسية الحالية تتولد من حالتنا النفسية السابقة ، و هذه من تلك ، و بهذه الطريقة يتشكل وعينا التذكري ، و يتحد مع مزاجنا الشخصي ، ليشكلا معا هويتنا الشخصية .

     الهوية الشخصية ، بناء على ما تقدم ، ليست معطى أوليا يقدمه لنا شعورنا ، بل هي مجرد صدى لإدراكاتنا الماضية في إدراكاتنا الحاضرة ، سواء كان هذا الصدى مباشرا أو غير مباشر ، متواصلا أو متقطع . فهويتنا الشخصية هي ، في النهاية ، متشكلة من مجموعة من الظواهر يتذكر بعضها بعضا .   

      أما الهوية عند ديكارت ، فإنها تتحدد انطلاقا من المذهب العقلاني ، الذي يفيد أن العقل هو نور فطري يمثل هو وحده جوهر الذات ، فبدونه لا يمكن للشخص أن يعي وجوده و يبلغ الحقيقة . إذن ، فبناء على هذا التصور الفلسفي العقلاني ، يعتبر ديكارت أن الشخص كائن مفكر ، مريد ، متخيل ، ناف و مثبت ، له إحساس ، لكنه ، في النهاية ، هو كائن يبني معارفه و وجود باقي أشياء هذا العالم المحيط به ، معتمدا على فعل الشك . فّإذا كانت الإرادة و التخيل و الإثبات و النفي و غيرها هي خصائص نابعة من الطبيعة الذاتية للشخص ،فإنها لا تتحقق إلا إذا كانت مرتبطة ارتباطا عضويا بمسألة الوعي بالذات ، و هذا الأخير يكون مرتبطا بفعل الشك . تقوم الأنا المفكرة بفعل الشك لإثبات فعل وجودها أولا و إثبات فعل وجود العالم الخارجي المحيط بها ثانيا . فلا هوية ثابتة ، في نظر ديكارت ، بدون وعي بالأشياء يكون أساسه الوضوح و التميز .

      أما الفيلسوف الإنجليزي جون لوك ، فإنه ينطلق من خلفية فلسفية أساسها المذهب التجريبي الذي لا يرى أن العقل هو جوهر الذات ، لأنه يكون مجرد صفحة بيضاء يستمد من الواقع الخارجي التجريبي أفكاره و معطياته بواسطة التجربة و الحواس . فلا وجود لمبادئ فطرية فيه ، كما يدعي ديكارت ،  فكل ما ينقش عليه يكون مصدره الانطباعات الحسية التي تأتي بها الحواس من العالم الخارجي.

     فبناء على التصور التجريبي يمكن الاهتداء إلى ما يكون الهوية الشخصية في نظر لوك . فالشخص كائن مفكر و وسيلته لبلوغ المعرفة اليقينية هو الشعور غير المنفصل عن الفكر، الذي يكون لديه عن أفعاله الخاصة. فلا معرفة دون مصاحبة دائمة لإحساساتنا و إدراكاتنا . 

     أما الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور ، فإنه يرى أن أساس هوية الشخص ، عند حصول النسيان أو عند الهرم ، هي أرادته الثابتة . فهوية الشخص لا تتوقف على مادة أو صورة الجسم لأنها معرضتان للتلف و التغير في جميع أجزاءهما ما عدا تعبيرات نظرات الوجه . كما أنها لا تفقد تلك الإرادة بسبب الاختفاء المستمر للتذكر . فالهوية المستمدة من التفكير لا تكون هوية حقيقية لأنها مجرد وظيفة بسيطة يقوم بها الدماغ . أما أرادة الحياة المحكومة بالشقاء و التعاسة المختفية وراء الذات العارفة فهي نواة الوجود .

      فالشخص بناء على ما تقدم، لا يخضع حياته لقوانين بل يخضع لإرادة تتجاوزه و تتجلى في رغباته . 

     أما سيغموند فرويد فإنه ينطلق من وجهة نظر تحليلية نفسية للذات الإنسانية ، معتبرا أن هوية الشخص ليست معطى جاهزا بل هو نابع من تصور دينامي للشخصية ككل . هذه الأخيرة هي نتاج صراع بين ثلاث مكونات الشخصية ، يتعلق الأمر ب " الهو " كخزان للمكبوتات و الغرائز و الدوافع اللاشعورية ، و "الأنا الأعلى "  كمجوعة قواعد أخلاقية و قيمية ز معايير يتمثلها الفرد، و  "العالم الخارجي "  كواقع حقيقي يفرض النسق التربوي السائد في المجتمع و جميع القواعد الاجتماعية المؤطرة له.

      ف"الأنا "  يبذل أقصى جهد لديه للتوفيق بين مطالب هذه المكونات المتناقضة ،حيث تبقى مجهوداته هذه ، في أغلب الأحيان ، غير مثمرة . فحين تشتد معاناته يتولد لديه مشاعر القلق عند تلبية الرغبات اللاشعورية المكبوتة للهو ، و يتملكه الإحساس بالدونية و الشعور بالذنب عند مجاراته له و معاندة أوامر الأنا الأعلى . و هذا يدعوه ، للخروج من هذه المأزق ، إلى أن يلجأ إلى نوع من التمويه الدبلوماسي و نوع من الرياء و النفاق على أوامر اللاشعور، مصطنعا الجدية و متظاهرا بأنه متحكم بمجرايات الأمور و ذلك باصطناع تبريرات عديدة للتخفيف من حدة هذا الصراع الدائر بين الهو و الأنا الأعلى . و هذا الصراع بين الأنا و بين هؤلاء السادة الأشداء ، من أجل الحفاظ على تماسكه ، هو الذي يضمن للشخص استقراره النفسي .