كتبهاعبد الجبار الغراز ، في 12 نوفمبر 2009 الساعة: 16:27 م
تعيش المجتمعات العربية, تخلفا حضاريا جد مركب, جعلها في
وضع بين الأمم و الحضارات الأخرى لا تحسد عليه. تخبطت فيه منذ قرون عديدة. وقد ظهر
هذا التخلف بصور و أشكال مختلفة , بحسب طبيعة و خصوصية كل فترة تاريخية من فترات
هذه الحقبة الطويلة المظلمة .كان أبرزها دخول هذه المجتمعات, منذ الاستقلال حتى
الآن, في مسلسل " تحديث « للبنيات العتيقة, السياسية, والاقتصادية و الثقافية و
الاجتماعية التي تتسم بها, حاولت فيه تطبيق نماذج حضارية غربية شملت مختلف مظاهر
الحياة العصرية ( إدارة, عسكر, تعليم… ) بشكل تعسفي جعل, في النهاية, التعايش ما
بين "العصري" و "التقليدي" العتيق يتسم بالمفارقة, و جعل, بالتالي, المشهد الحضاري
العربي الآني يبدو قاتما .
فمنذ أن استفاق العرب من " كومتهم العميقة " التي
سببتها ضربات " الغزو المغولي, انتهجوا طرقا و سياسات و استراتيجيات مختلفة بغية
التقليص من هذه المسافات و التباعدات الحضارية بينهم وبين المجتمعات المتحضرة .
فمنهم من فتح شرفات الوطن لتهب نسمات الغرب بنكهة ليبرالية و رأسمالية , و منهم من
أوصد كل المنافذ و سد جميع الثغرات و اكتفى بمغازلة الحاضر على إيقاعات نوستالجية
اشتراكية , و منهم من توسد " عقائديات " خالدة و افترش أمجاد و بطولات الأجداد , و
راح في نوم " دوغماتي " عميق لم يستفيق بعد منه .
كل هذه الأصناف , تمثلت لها
صورة الغرب , على أنه ذلك "الآخر المزعج " الذي تغلغل في النسيج الثقافي و فجره
تفجيرا , و استباح المعايير والنظم الأخلاقية والمقدسات المصونة,بعيدا عن كل
التصورات الواقعية التي ستخرجها من مأزق تنمية غير محسوبة النتائج و العواقب , لا
تقود إلى التحديث الحقيقي المستدام .
وقد ازدادت حدة مفعولات هذه "الإستيهامات
" الرافضة , لا شعوريا , للغرب و عصرنته , مع بداية هذه الألفية الثالثة , نتيجة ما
عرفته الحضارة الغربية الرأسمالية من طفرات و فجوات رقمية استجابة للتطورات التي
شهدتها الثورات العلمية في مجال الاتصالات و التكنولوجيات الرقمية .
فإذا كان
مفهوم" الحضارة " , كما عرفه الأنثروبولوجيون , يعني الإنتاج المادي و الروحي لدى
شعب من الشعوب , و العمل على توريث هذه المكتسبات الثقافية للأجيال اللاحقة , فإن
هذا التعريف يسمح بطرح التساؤلات التالية :
- هل يمكن الحديث عن حضارة ما و
إغفال ذلك الإنسان الذي قام ببنائها؟
- كيف يمكن, إذن, فهم بناء حضارة دون فهم
بناء الإنسان ؟
- وهل يمكن فهم الإنسان دون فهم دقيق لعالم الطفولة ؟
- ألا
تشكل الخصائص و السمات النفسية , التي يكتسبها الأطفال , في المراحل الأولى و
المتوسطة و المتأخرة من طفولتهم , بنيات تحتية و قاعدة مرجعية لوجودهم الفكري و
الروحي و الأخلاقي الإنساني يصعب , مستقبلا , تغيير مواقفها و اتجاهاتها التي تستند
عليها ؟
- وهل السلوك الإنساني هو ترجمة, إجرائيا و عمليا, لتلك التصورات
الذهنية التي تتشكل, مند الطفولة إلى الرشد, من ثقافة المجتمع ؟
فبناء على هذه
التساؤلات , يمكن تحليل وضعية أطفال العالم العربي , الذين يتعرضون لتنشئة اجتماعية
, تستند , الآن , على وسائل جد متطورة فرضتها العولمة , أثرت في عقولهم و أنظمة
إدراكهم , و أدت إلى تذويب الخصوصيات الثقافية , باسم" التنوع الثقافي ".
لقد
بات هذا الإجراء الممنهج من قبل العولمة , تهديدا للمقومات الحضارية التي تستند
عليها كل حضارة ما , تروم التجديد و التجدد , و بالتالي نسفا لتلك التي يسميها
"كلود لفي ستروس " , ب"القاعدة الثقافية " التي تتأسس عليها هوياتهم و مرجعياتهم
الثقافية و الروحية و الحضارية ؟
فإذا كانت العولمة,هي تعميم لنموذج ثقافي و
جعله " عالميا " عبر نقله من مجال "الخصوصية " إلى مجال "الكونية ", وإذا كانت ,
أيضا , تشكل تعبيرا عن مرحلة " ما بعد الحداثة " كمرحلة تعيشها الدول الغربية , على
مستويات عدة , في انسجام تاريخي مع شروط وجودها , كما يقول" عبد الله العروي ",
فإنه لا يمكن أن تبدو لنا كعرب , إلا " تسويقا " لنموذجها الثقافي .
لا يقتضي
منا, و الحالة هذه, لكي نخرج من وضعية التخلف المركبة, الاستهانة و الاستخفاف
بالطفولة . فطابعها البنائي المتجه صوب تنمية مختلف القدرات و المهارات في الشخصية
, يعزز الفعل التكويني للثقافة .هذا الأخير الذي لا يمكن بتاتا , رده إلى مجرد
مكتسب معرفي , كما دأبت المقررات الدراسية في العالم العربي على ترسيخه في الفعل
الديداكتيكي و البيداغوجي التربوي , بل يجب اعتباره نتاجا لتكثيف ثقافي ينحت
الهويات في جسم الطفولة و يِؤصلها . فالإنسان هو صانع الحضارة و العكس أيضا صحيح.
عبد الجبار الغراز :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق