الجمعة، 21 أكتوبر 2016

قراءة في كتاب ابراهيم ياسين " البنيات البلاغية للخطاب الصوفي . أبي حيان التوحيدي نموذجا "

أهداني مشكوراً أخي وزميلي د. إبراهيم ياسين، الباحث المغربي المتخصص في قضايا اللغة العربية والبلاغة والتصوف الإسلامي، كتابه الموسوم بـ: "البنيات البلاغية للخطاب الصوفي، أبو حيان التوحيدي نموذجاً (ت 414 هـ / 1023 م)" الذي صدر عن دار "عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع"، إربد ـ الأردن، في طبعته الأولى، 2016.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب النظرية والتطبيقية والمنهجية، فقد فكرت أن أقدّم قراءة فيه، وأستعرض خطوطه العامة لفتح شهية القارئ العربي المهتم، ودفعه إلى معرفة مضامينه، وما يطرحه من قضايا وإشكاليات.
قسّم الباحث كتابه، الذي يقع في حوالي 386 صفحة، من الحجم المتوسط، قياس 17×24، إلى مقدمة وفصلين (الأول نظري والثاني تطبيقي)، وخاتمة.
المقدمة: نحو تبنّي النظرة التكاملية والمنهج الآلي في التعامل مع التراث العربي الإسلامي.
أراد د. إبراهيم ياسين أن تكون مقدمة كتابه تلخيصاً يقدّم فيه نظرة عامة لما جاء في فصلي كتابه ومباحثهما وكذلك خاتمته. لكن قبل ذلك، ارتأى أن يضع توطئة مقتضبة تضمّنت قضايا وافتراضات مفادها أنّ التصوف الإسلامي يمثل نموذجاً حيّاً للتكامل في تراثنا العربي الإسلامي، لارتباطه بمجالات متعددة كالدين والسياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع والأدب، حيث شكّل (الأدب)، في نظره، أغنى تلك المجالات، بصورة جعلت من النص الصوفي نصاً بليغاً اكتسب خصائص رمزية إشارية لاقترانه بالشعر وبالرؤيا.
وقد انصبّ جهد هذا الكتاب حول استجلاء بلاغة النص الصوفي استجلاء أريد له أن يكون تطبيقياً، وذلك عبر إبراز خصائصه الأسلوبية والبلاغية. وهذه مهمة اعتبرها صاحب الكتاب رائدة في هذا المجال لتبنّيها نظرة تكاملية أدمجت في بوتقة واحدة الرؤية والتحليل من جهة، والمنهج كطريقة ملائمة للتعامل مع التراث العربي الإسلامي من جهة أخرى.
ولتحقيق المراد، سعى صاحب الكتاب إلى الكشف عن آليات الخطاب الصوفي وتحليلها تحليلاً بلاغياً، وذلك عبر تحليل فكر أبي حيان التوحيدي. وهذا الأخير استوفى في رأيه شرط مجال التداولية والتكاملية، فاستحق أن يعتمد في هذه الدراسة كنموذج لذلك الأديب الموسوعي الذي "تكاملت فيه المعارف العربية الإسلامية على مستوى الوعي والامتلاك" (ص 1) من تصوف وفلسفة وكلام وفقه وعلم أصول ونحو وبلاغة وأدب.
الفصل الأول: التكامل المعرفي عند أبي حيان التوحيدي
تضمّن هذا الفصل أربعة مباحث وهي:
المبحث الأول: مدخل نظري عام
وقد صاغه د. إبراهيم ياسين في شكل تأطير نظري لخصائص التراث العربي الإسلامي في أبعادها الأخلاقية والمنطقية والعقلية، أتاح له الفرصة لمناقشة الإشكاليات المركزية التالية:
- إشكالية تكاملية التراث العربي الإسلامي، المندرجة ضمن مجاله التداولي الذي يبرز على مستوى تكامل علومه الدينية والعلمية والأخلاقية مع بعضها بعضاً شكلاً ومضموناً، تبعاً لخصوصيات الواقع العربي الإسلامي الوسيطي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.
- إشكالية الآلية، سواء على مستوى التحديد الدقيق لمفهوم الآلية أو على مستوى التحليل الذي انبنت عليه أو على مستوى خصائصها وأنواعها: فالتفاعل بين ما هو فكري وما هو لغوي، والذي أنتج معارف التراث العربي الإسلامي، يستلزم تبنّي آليات لغوية وبلاغية ومنطقية جدّ خاصة.
- إشكالية المنهج الداعية إلى الربط بين الرؤية التكاملية والمنهج الآلي عند معالجة قضايا التراث العربي الإسلامي. وفي هذا الصدد، قدّم الكاتب قراءة متأنية لنماذج دراسات وأبحاث وتحقيقات للفكر الصوفي لدى أبي حيان التوحيدي، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر حسن السندوبي في تحقيقه لكتاب أبي حيان التوحيدي "المقابسات" (ص 19)، وعبد الرزاق محيي الدين في تناوله لسيرة وآثار أبي حيان التوحيدي (ص 21)، وزكريا إبراهيم في قراءته الفلسفية لأدب أبي حيان التوحيدي (ص 26).
وقد تناولت قراءة صاحب الكتاب منهجيات هؤلاء الباحثين، كما وقفت عند بعض إضافاتهم وسجلت بعض ثغراتهم، لتخلص في النهاية إلى أنّ أيّ محاولة للفصل بين الرؤية التكاملية والمنهج الآلي سيفضي لا محالة إلى الاختزالية وإلى سيادة النظرة التجزيئية لتراثنا العربي الإسلامي المنافية للمناحي التي تقود إلى مبدأ العلمية.
المبحث الثاني: "التكامل المعرفي بين التصوف والأدب"
عالج الكاتب د. إبراهيم ياسين، في هذا المبحث إشكالية العلاقة بين التصوف والأدب، خاصة الشق المرتبط بالشعر، وذلك على مستويين اثنين:
- مستوى الرؤية: حيث وقف عند جملة مفاهيم كمفهوم "الإشارة" الذي يعتبر آليّة صوفية من حيث خصائصها ووظائفها النفسية واللغوية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية، ومفهوم "بلاغة الكلام" ومفهوم "بلاغة السكوت"، ناهيك عن تحليل مستويات الكلام بين الإبداعي والإيديولوجي.
- مستوى توظيف اللغة والخيال والبلاغة: كسلاح إيديولوجي لبناء وإثبات الذات والشخصية الفردية. وفي هذا الصدد حاول صاحب الكاتب إثارة إشكالية كبرى، ألا وهي إشكالية العلاقة بين اللغة والبلاغة وبين الأخلاق عند أبي حيان التوحيدي، في إطار تصور هذا الأخير التكاملي لقضاياهما كالسجع والتكلف واللفظ والمعنى والطبع والصنعة (ص 70).
المبحث الثالث: "التكامل المعرفي بين التصوف والكلام"
قبل الشروع في تبيان التكامل بين التصوف وعلم الكلام حاول الكاتب أن يوضح أنّ البعد الأخلاقي في الإسلام هو عامل من عوامل هذا التكامل في تراثنا العربي الإسلامي، وذلك انطلاقاً من تحليله لتأثيرات هذا البعد على هويّة التصوف كما هي واضحة في أحكام ونظرات أبي حيان التوحيدي، وفي التلمذة التي خضع لها على يد متصوفة كالخلدي والحصري، وفي تمرّسه بالمصطلح الصوفي على مستوى الفهم والتوظيف، وفي موقفه الواضح من التوحيد الصوفي ومن الاستدلال العقلي وإبراز منحاه الرابط كممارسة تكاملية ما بين العلم والعمل. إلى جانب التطرّق إلى التكامل الحاصل في ما بين علوم ذلك العصر كالتصوف والفقه وعلم الأصول. ولا أدلّ على ذلك من موقفه الرافض لإسقاط التكاليف الشرعية، وتركيزه على مفهوم "الغربة" ومختلف تجلياتها الصوفية المتماهية مع مفاهيم أخرى كالذات والآخر واللغة والدنيا والدين (ص 120).
وبعد هذا التمهيد يعود الكاتب ليبحث في موقف أبي حيان التوحيدي من علم الكلام ومن المتكلمين على مستوى أخلاقياتهم ومنهجهم الاعتزالي ومفاهيمهم التي وظفوها ليخلص في نهاية التحليل إلى أنّ أبا حيان التوحيدي ليس معتزلي المذهب، على الرغم من استعمالاته لمفاهيمهم ومناهجهم وتجاوزه الملحوظ لعتبة الاستيعاب والتأثر بمذهبهم والارتقاء بفكره إلى مستوى مناقشة قضاياهم الكلامية (ص 145).
المبحث الرابع: "التكامل المعرفي بين التصوف والفلسفة"
تناول الكاتب في هذا المبحث الأخير من الفصل الأول معيارية أبي حيان التوحيدي الأخلاقية في الحكم على الفلسفة والفلاسفة وفي مفهوم التصوّف لديه ومختلف ارتباطاته بالفلسفة التي أجملها الكاتب في أربعة: العلم، والعمل، والأخلاق، والتوحيد. وقد قادته دراسة المنحى الفلسفي لدى أبي حيان التوحيدي إلى الإقرار لهذا الأخير بتمكنه من الفعل الفلسفي نظراً لتتلمذه على كبار فلاسفة عصره، فأصبح أحسن أديب متفلسف لا يطمح إلى أن يشيد لنفسه نسقاً فلسفياً. لقد كان همّه أن يكون أديباً متصوّفاً يجيد ببراعة إيصال المصطلح الفلسفي إلى متلقيه مع الدفع بالتجربة الروحية الصوفية إلى الأمام، دون إغفال الفلسفة النقدية للعقل وللغة ومناقشة قضايا فلسفية كالتسليم والتنقير والإذن واللاإذن، وموقفه من الفلسفة التلفيقية المتمثلة في فكر إخوان الصفا (ص 178).
الفصل الثاني: بلاغة الخطاب الصوفي عند أبي حيان التوحيدي
يُعتبر هذا الفصل تطبيقياً، استطاع الكاتب د. إبراهيم ياسين عبر مباحثه الأربعة وعبر تحليل وصفي مدعم بجداول وبيانات وإحصاءات لكتاب "الإشارات الإلهية" لأبي حيان التوحيدي أن يوضح كيف قدّم هذا الأخير، وباقتدار، عروضه الفكرية ذات المنحى التكاملي عبر بلاغة كلٍّ من البيان والمعاني والبديع والتفنن الأسلوبي، وما ارتبط بها من توظيفات لآليات متعددة كالمقابلة والتولد والتفسير والإضافة والتنويع والتكرار والمماثلة وغيرها من الآليات والأساليب اللغوية التي وسمت الكتابة عنده وطبعتها بطابع خاص، جعلت اللفظ المنتقى بعناية وتركيز وتفنن يكون في خدمة المعنى وليس العكس، وجعلت أيضاً آليتي التكرار والتنويع تندمجان في بوتقة أسلوبية واحدة تساعدان القارئ على المتابعة وطرد الرتابة والملل، وتقحمانه في أجواء نفسية محفزة على الدخول في أجواء النص المتنوعة والاستسلام بشكل طوعي وإرادي لإغراءاته (ص 207).
المبحث الأول: بلاغة المعاني:
بعد أن قدّم تعريفاً موجزاً لعلم المعاني على أنّه "علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال" (ص 209) تناول د. إبراهيم ياسين بالدراسة والبحث المدعومين بإحصاءات وأرقام وجداول الأساليب التالية: الكلام الإنشائي (التمني والاستفهام والأمر والنهي والنداء) والكلام الخبري (الابتدائي والطلبي والإنكاري) ومؤكداته، وآليات التعريف والتنكير والتقديم والتأخير والتقيد والقصر والوصل والفصل والذكر والحذف وصيغها الأصلية والفرعية، إذ فرّغها في جداول إحصائية شملت عددها ونسبها المئوية، موضحاً في جدول ضامٍ للمجموع النهائي الآليات أو الأساليب اللغوية الطاغية وطابعها الغالب عليها دون نسيان تحليل النتائج المتولدة عنها (ص 269).
المبحث الثاني: بلاغة البيان:
بعد أن ساق الكاتب تعريفين لعلم البيان الأول للسكاكي والثاني للقزويني (ص 271) يفيدان أنّ هذا العلم يعني إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة إمّا بالزيادة في وضوح الدلالة عليه أو بالنقصان للاحتراز والوقوف على ذلك عن الخطأ، تناول بالدراسة والوصف والتحليل المدعوم بالجداول الإحصائية، محاوره الأربعة التالية: التشبيه والمجاز والاستعارة والكناية، مستخلصاً في النهاية نتائج وملاحظات ومقارنات (ص 275).
المبحث الثالث: بلاغة البديع
والبديع، حسب الخطيب القزويني، "علم يُعرف به وجوه تحسين الكلام، بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة" (ص 277)، وهذه الوجوه ترجع إمّا إلى المعنى باعتباره محسنات معنوية كالمطابقة والمقابلة وآلية العكس والرجوع والجمع والتقسيم أو الجمع مع التقسيم والمذهب الكلامي والتفريق، أو إلى اللفظ باعتباره محسنات لفظية كالجناس والسجع والموازنة.
وقد حاول الكاتب د. إبراهيم ياسين تحليل بلاغة البديع من خلال قراءة الأرقام الدالة على هذين التحسينين المعنوي واللفظي، حيث خلص على مستوى التحسين المعنوي إلى أنّ الطباق مثل نسبة مهمة جدّاً، في حين احتلت آلية المذهب الكلامي نسبة هزيلة لاعتماد النص الصوفي على الذوق وعلى الوجدان الإيماني، وليس على العقل والإقناع (ص 284).
ومقارنة مع هذين التحسينين فقد احتل، في نظر الكاتب، التحسين اللفظي الصدارة لميل الأدباء العرب، خاصة في العصر العباسي، "إلى التنغيم في درجاته المختلفة إيقاعاً ووزناً وسجعاً، باعتبارها من وسائل حفظ الكلام من التلاشي، من جهة، والتأثير في المتلقي من جهة أخرى" (ص 296).
المبحث الرابع: بلاغة التفنن الأسلوبي
في هذا المبحث سعى الكاتب إلى دراسة وتحليل آليات لفظية، اعتبرها الكاتب مفاتيح الكتابة لدى أبي حيان التوحيدي، خاصّة في نصّيه "الإشارات الإلهية" و"المناجيات" كآلية الدمج والتكرار والتنويع والازدواج والاعتراض والتفسير والتوالد والإضافة والاقتباس والتضمين والاستشهاد والعطف والزيادة والالتفات والتصغير والتعجب وآلية المخاطبات والاحتفاظ والاستبدال والتحذير والإغراء والتفريغ والتبرير والتوسّل، بالإضافة إلى بعض الملامح الأسلوبية، التي كان يستعملها أبو حيان التوحيدي كصيغ أسلوبية لإثارة انتباه القارئ، وبعض المصطلحات الصوفية المستعملة من أجل التخاطب مع الأنداد من المتصوفة (ص 375).
وقد اعتمد الكاتب الطرق الإحصائية وتفريغ المعطيات الرقمية ضمن جداول أفضت به إلى استخلاص أنّ نصّ أبي حيان التوحيدي الصوفي هو نصٌّ تغلب عليه الحوارية والخطابية لاستعماله الكثيف لآليات الدمج والتكرار والتنويع والازدواج، ولاعتماده أسلوباً يطغى عليه التفسير والتولد والاعتراض (ص 362).
الخاتمة: ملاحظات واستنتاجات
بعد أن أثار د. إبراهيم ياسين بعض الملاحظات المنهجية مثل صعوبة التعامل مع نصوص أبي حيان التوحيدي لبلاغتها الشديدة، واضطراره إلى الاستشهاد بها في سياقات مختلفة نظراً لمناقشة أبي حيان التوحيدي لأكثر من قضية في سياق واحد، أوجز في هذه الخاتمة مجمل ما انتهى إليه بحثه من خلاصات، يمكن صياغة مضمونها على الشكل الآتي:
- خضوع التراث العربي الإسلامي لمعايير مقتضيات المجال التداولي العربي الإسلامي في أبعادها العقدية والأخلاقية والحوارية والتكاملية، واعتبرت النظرة التكاملية والمنهج الآلي أنسب طريقة في التعامل معه.
- استيفاء أبي حيان التوحيدي لشروط هذا المجال التداولي المتجلية في الحوارية على مستوى الفكر والموسوعية على مستوى المعارف العلمية والأخلاقية الدينية على مستوى المواقف.
- امتلاك الخطاب الصوفي لدى أبي حيان التوحيدي لخصائص بلاغية وآليات أسلوبية مع توظيف مكثف للمصطلح الصوفي (ص 364).
وبعد استيفاء أغراض هذه القراءة في كتاب د. إبراهيم ياسين، لا يفوتني أن أنوّه بهذا الجهد المعرفي والنظري والتطبيقي لما قام به هذا الباحث المغربي الشاب في سبيل إثراء المكتبات العربية بهذا البحث القيّم في البنيات البلاغية للخطاب الصوفي. وأملي كبير في أن يحذو حذوه جيل واسع من الباحثين الشباب في استجلاء ما غمض من تراثنا  العربي الإسلامي 
 : منشور ب" مؤسسة مؤمنون بلا حدود " بتاريخ 17 أكتوبر 2016 الرابط 
http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%86%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%BA%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D9%81%D9%8A-%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A5%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D9%85-%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D9%86-4419 .

الاثنين، 4 يوليو 2016

الحاجة إلى ثقافة عربية متسامحة


عبد الجبار الغراز
        نود أن نشير ، منذ البداية ، أننا لا نسعى ، عبر هذا المقال ، إلى تبخيس ثقافتنا العربية الإسلامية أو التنقيص من شأنها ، و لا إلى التعبير عن رؤية تشاؤمية عدمية همها جلد الذات ، بل نسعى إلى التعبير عن فكرة مفادها أننا في حاجة ماسة إلى ثقافة متسامحة نكرسها ، كعرب و كمسلمين ، في وجداننا الجمعي ، تكون نابعة من فلسفة تنويرية شبيهة بتلك التي بلورها في أوروبا  فلاسفة عصر الأنوار، و كرستها ، في أوطانها ، فيما بعد ، شعوب و حكومات العالم .
       فكيف يمكن تحقيق هذه الحاجة على أرض واقع عربي تنخر جسمه الثقافي أصوليات متصاعدة و صراعات طائفية و مذهبية ، و يسود فيه ، و بشكل صارخ ،  التعصب بدل التسامح ، و العنف و العنف المضاد بدل السلم و المسالمة ؟
      للإجابة عن هذا التساؤل الإشكالي ، وجب القول أن هناك بقايا وظيفية مترسبة علقت منذ قرون في وعينا تعود في أصولها  لبنيات ثقافية و اجتماعية و فكرية و نفسية متجذرة ، ارتبطت بالنزعة الأبوية الذكورية ، و بالعصبية القبلية ، و بغلبة الجماعة على الفرد ، و طبعت االعائلة و القبيلة و السلطة بطابع انقسامي يقصي من دائرة وجوده الآخر الغريب ، ذلك الكائن الدخيل على ثقافتنا .  
      انقسامية صيرتنا كائنات آدمية مدمرة من الداخل ، مفتقرة لقيم تعايش تتغذى على ما هو مشترك فينا، و تنتعش و تستمر في الوجود  و تحيى على ما هو مغاير فينا أو مختلف عنا.  
       انقسامية كانت وراء هذا التشرذم و هذا التجزيء الذي أذكى نيران الصراع الديني و الطائفي و الإيديولوجي ، و مزق نسيجنا الثقافي .  
        انقساميية جعلتنا أمة تبدو للأمم و للثقافات الأخرى و كأنها بدون عمق تاريخي و حضاري .. أمة عاجزة عن فعل أي شيء من أجل الخروج من ظلمات التكفير و العنف و العنف المضاد.
        صحيح أن كل أمم  العالم قد عاشت التعصب في تاريخها السحيق، مثلما عشناه نحن ، و لا زلنا نكتوي بنيرانه الملتهبة،(  سقراط  اتهم بإفساد عقول الشباب ، فحوكم و أعدم بتناوله السم ، و جان دارك ، عذراء أورليان ، اتهمت زمن محاكم التفتيش بالهرطقة ،فحوكمت و أعدمت حرقا،  نفس المصير لاقه من بعدها و جوردانو برونو لتبنيه نظرية كوبرنيكوس حول دوران الأرض ، و ابن رشد، هو الآخر ، اتهم بالزندقة فأحرقت كتبه .. و القائمة في هذا الباب طويلة .. ) ، لكن هذه الأمم لم تظل مكتوفة الأيدي ، بل تخلصت من هذا التعصب المقيت ، و ذلك من خلال تفكيك دوغمائيته و أخضاع أنظمته المتجذرة في لاوعيها الجمعي لمحك التفكير النقدي و العقلاني السليم المعتمد على المساءلة و المكاشفة و الحوار الهادئ الرزين ، و هي بفعلها ذاك ، استطاعت الخروج من هذه الدائرة اللاحضارية و نقل قيمها السلبية من مستوى اللاوعي إلى مستوى الوعي .
     أما نحن، فقد بقينا سجناء قيمنا السلبية و غلونا في الاعتقاد بالأشياء بشكل مطلق، في عالم متغير باستمرار يرى الحقائق دائما نسبية تدفع إلى الإيمان الراسخ بالتعدد و الاختلاف و المغايرة .. إيمان يجعل من التسامح  موقفا إيجابيا من الآخر .. ذلك الدخيل أو الغريب عن ثقافتنا .
     كما بقينا ، أيضا ، منذ اندحار ثقافتنا العربية الإسلامية مع الغزو المغولي و التتري رهن إشارة " دوغمائيات عقيمة " و " لامعقوليات خفية " معتقدين أنها من مخلفات سلفنا الصالح ، و هو منها براء ،  منغلقين على أنفسنا ننتظر الذي يأتي ..
    و لم يأت سوى الخراب و الدمار و هذا الانقسام الطامس لهويتنا الحضارية .
      ينبغي أن نعلم أن الثقافة ليست وعاء حاملا لقيم الأجداد و معتقداتهم و فلسفاتهم ، بل هي منظومة منتجة للمعايير الموجهة للسلوك الإيجابي عن طريق ما يسمى بالتنشئة الاجتماعية و التربية و التعليم العقلاني السليم و الرشيد . و معنى هذا أن سيادة التعصب و العنف في مجتمعاتنا يوضح ، بالملموس ، أننا قد فشلنا كمنظومة قيم اجتماعية و دينية و أخلاقية في تحقيق توازن نفسي و اجتماعي لهذا الكائن الإنساني الذي يسكن دواخلنا الذي نسميه بالإنسان العربي.
     كما ينبغي أن نعلم أن العنف طاقة غريزية كامنة ، يستوي فيها الحيوان مع الكائن الإنساني ، تستيقظ عند حالات دفاعية أو هجومية. يمارسه الحيوان على ضحيته لحفظ بقاءه ، أما الإنسان فإنه يمارسه بسبب الخوف و القهر المسيطران عليه . العنف بهذا المعنى ، هو  صنيعة من صنائع المنظومات الثقافية التي تعيش أزمة خيارات ، أزمة تقديم بدائل جديدة في مشروعها الثقافي .
     و الخروج من متاهة العنف يستلزم تأسيس مجتمع متسامح  يقوم على التعدد و التنوع و التواصل و الحوار و إعمال العقل ، و على العلاقة الإيجابية البناءة مع الآخر القائمة على غض الطرف عن أخطاءه ، كما يستلزم ، أيضا ،  تبني مشروع ثقافي تنويري مسالم ، نتوخى منه طرح أسئلة أنوارية على أنفسنا، شبيهة بتلك التي تولدت بفعل التفكير النقدي الكانطي ، لكشف أوهام  عقلنا العربي السياسي و الأخلاقي المتماهي بالمطلق. فبفضل أدوات النقد التشريحية سنستطيع ، و لا شك ، اقتحام طابوهاتنا و استنبات حداثة فكرية سيؤسسها مثقفون عرب  يماثلون في عبقريتهم عبقريات كانط و فولتير و ديدرو و مونتيسكيو و لوك و ميكيافللي و هيردر و غوته و شيللر و ليسينغ و هيجل .
      لنتعلم من جان لوك حين رفع في رسالته في التسامح  شعار : " حريتي تنتهي عند ابتداء حرية الآخرين ، و فولتير ، حين عبر عن استعداده بالتضحية بحياته من أجل الدفاع عن حرية الرأي المخالف لرأيه، و مارتن لوثر ، حين حارب استخدام الإكراه في شؤون العقيدة و الإيمان .و إدغار موران ، حفيد هذه السلالة الأنوارية، حين اعتبر التسامح  ضرورة من ضرورات الديمقراطية  و مبدأ أساسيا لها إلى جانب مبدأ المساواة و العدل و مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث ، و حكيمنا ابن رشد لما اعتبر أن " الحق ( الشريعة ) لا يضاد الحق ( العقل )  بل يوافقه و يشهد له " و لما تلمس العذر للآخر المتمثل في الفلسفة اليونانية حينما قال :  " فما كان موافقا للحق قبلنا به و سررنا به و شكرناهم عليه و ما كان غير موافق للحق نبهنا عليه و عذرناهم "
     ألا يعتبر تلمس العذر، هنا ،  للآخر قمة التسامح !!!
     إذن ، لقد بات من الضروري التفكير بجدية في العمل ، على المستوى الديني  ، تقريب المسافات و تذويب الخلافات بين المذاهب الفقهية ، التي يعمل اختلافها على إذكاء روح التعصب المدمر ، و محاولة عقلنتها عبر إخضاع مسلماتها للمساءلة. فخلاص النفوس لا يكون أبدا من شأن المخلوق ، بل يكون من شأن الخالق سبحانه و تعالى ، و لا أحد قد فوض لفعل ذلك  سوى الأنبياء و الرسل ، و إلا فقد اعتبر ،  " مزدريا الجلالة الإلهية " كما قال فولتير .



الجمعة، 6 مايو 2016

لماذا تفشل النخب السياسية العربية المعارضة في مناهضتها للاستبداد؟

لماذا تفشل النخب السياسية العربية المعارضة في مناهضتها للاستبداد؟
عبد الجبار الغراز
          ما الذي يجعل نخبنا السياسية العربية بمختلف مشاربها  تفشل في مواجهة أنظمة الاستبداد ، فتزيغ عن طريقها الثوري الذي رسمته لنفسها منذ اندلاع ما سمي بثورات الربيع الديمقراطي ، و بالتالي تفقد ، جزئيا أو كليا ، مصداقيتها الشعبية فيشوب وحدة صفها التشتت و التشرذم و الانقسام إلى ملل و نحل و مذاهب متناحرة ؟

       لا شك أن التفكير في عوامل هذا الفشل يجعلنا نقول بأن هناك شروط ذاتية و موضوعية لم يتم استيعابها بشكل واف من طرف هذه النخب المعارضة ، تجعلها تعي ذاتها بشكل جيد كتنظيمات تطرح نفسها كبديل يحمل مشروعا مجتمعيا يسعى إلى إحداث تغييرات جذرية في المجتمعات العربية . و عليه ،  فعدم توفر شرط الوعي بالذات هذا لا يجعل من تلك النخب المعارضة ، في أعين الأنظمة العربية الاستبدادية ، خصما نديا قويا، كما  لا يجعلها ، في أعين شعوبها ، ممثلا حقيقيا لهذه الأخيرة أجدر بالثقة ، في الدفاع عن الحقوق المهضومة .

     فكيف يتحقق  ، إذن ، شرط الوعي بالذات لدى نخبنا السياسية المعارضة لأنظمة الاستبداد ؟

   إجابة عن هذا التساؤل يقتضي منا الأمر أن نقارب هذا الموضوع بحسب المنظور الفلسفي الهيجلي  الذي يفيد أن الوجود الإنساني يتأسس وفق جدلية النفي والإثبات ، و أنه لا يمكن أن يتحقق شرط الوعي بالذات إلا إذا أخذ هذا الوجود البشري شكل صراع متبادل بين ذات و آخرها ، لانتزاع الاعتراف بالوجود، مع إلغاء رغبة المنهزم في السيادة ( العبد ) و تثبيت رغبة المنتصر ( السيد ) .

      نفهم من هذه المقولة ، أنه لا يكون الجدل حقيقيا إذا كان نتاجا للمماثلة و التطابق بين الذوات ، بل ينبغي أن يكون نتاج حركية ديناميكية تطبع الأشياء و الموجودات لتنتقل من صيغة الإثبات إلى صيغة النفي ( و العكس أيضا صحيح ) . فالجدل بهذا المعنى هو نتاج لأفعال المغايرة و الاختلاف و ليس نتاجا لأفعال المماثلة و المطابقة.

     فالراصد لأشكال الصراع ، قديمه و حديثه ، بين نخبنا السياسية العربية المعارضة و أنظمة الاستبداد سيرى أن هذين القطبين المتصارعين يعتبران وجهين لعملة سيادية واحدة أصيبت بالخصاء و بالعقم السياسيين ، لكونهما
 قد قدما و لا زالا يقدمان في هذا الإطار، نموذجا لعلاقة تقابلية غير مثمرة بين كائن ممسوخ و كائن عقيم. فالأول يتمثل في الأنظمة العربية الاستبدادية ، و الثاني يتمثل في المعارضات العربية . فالممسوخ  اعتبر كذلك لكونه يعيش خارج التاريخ بسبب فعله الاستبدادي، و العقيم  اعتبر كذلك لكونه عاجز عن إنتاج الفعل التاريخي الأصيل المتولد عن جدلية " عبد / سيد  " حقيقية كما ساقها لنا هيجل .

     بعد هذا الإجراء التحليلي لهذه الجدلية ، يمكن القول أن السيادة الحقيقية الفاعلة و المثمرة التي ينبغي على نخبنا السياسية العربية المعارضة  أن تتماهى بها  حتى لا تكون عقيمة هي تلك السيادة التي تجعل من الانتفاضات ضد الاستبداد ترقى إلى مستوى الثورات التاريخية الكبرى . فهذه الأخيرة قد استمدت مشروعيتها من الأسس الديمقراطية، التي جعلت من الإنسان، منذ بداية العصور الحديثة، قيمة القيم.

       الإنسان العربي الفاعل في تاريخه ، بناء على هذا الشرط ، يعتبر مغيبا قد تم تعطيل فاعليته بسبب ما يعيشه من غبن مقص لذاتيته ، و قلة كرامة ماسحة به الأرض ، و جهل مركب سالب لإرادته التواقة إلى التغيير، و فقر مادي و فكري يجعله يحس باغتراب عن كل فعل تاريخي منسوب إليه . 

      ف"العبد " ، الذي يقبع في ركن قصي و عميق في لاشعورنا الجمعي العربي ، و الذي قد يصبح في يوم من أيامنا غير المشرقة ، " سيدا " ، بقدرة انتفاضة أو ثورة منقوصة الأركان ، لا يستطيع ، بالتأكيد ، أن يمارس الفعل التاريخي الحقيقي الذي يقوده إلى إنتاج مجتمع التقدم و الرخاء و الرفاه ، لأنه كائن لم يستوعب بعد شروط وجوده كإنسان لكي يستطيع تجاوز وضعية العبودية المخزية و ينتقل ، بالتالي ، إلى وضعية السيادة الحقيقية المشرفة .

      و عليه ، ف" السيد العربي " ، الذي تتعايش معه ، قسرا ،  شعوبنا العربية ، في هذه الألفية الثالثة ، هو، في حقيقة أمره ، مجرد عبد لأدوات سياسية سالبة لإرادته يعيش معها حالة اغتراب لأنها ليست من ابتكاراته و إبداعاته .. إنه، في حقيقة أمره، عبد مخصي سياسيا، و قد لبس في الظاهر جبة الأسياد.

     أما " العبيد "  الذين أصبحوا، بانتفاضتهم عليه،" أسيادا " ، فهم كينونة " جديدة "  لكنها تحمل في طياتها بذرة الاستبداد، و سترتد بفعل ذلك ، إن آجلا أو عاجلا، إلى أصلها، لكن هذه المرة،  في شكل صور أكثر رداءة.. 
           يمكن ، في الختام ، طرح تساؤلات أخرى :

     كيف يمكن تكسير طوق دائرة هذه الجدلية العقيمة ؟ و هل من سبيل إلى نهضة عربية حقيقة قوامها العلم و المعرفة ؟ و بأي معنى يمكن فهم أن الإنسان العربي هو كائن يعيش على الهوامش.. فاقد للأهلية الفكرية و السياسية القادرتين على جعله سيد نفسه ؟ و ما هي شروط تحرره من هذه الوضعية القاتلة ؟

    هذه جملة تساؤلات نطرحها لكي نفتح بها باب الاجتهاد ، على مصراعيه ، لمعرفة ممكنات فعلنا الثوري الحقيقي وحدود اشتغاله ، عمليا و نظريا ، و الخيارات  التي تتيحها هذه المرحلة الصعبة التي تجتازها أمتنا العربية حتى لا نسقط ، كمعارضات ، في مطب عمل أقبح مما تقوم به الأنظمة الاستبدادية ، عند تسلم زمام الأمور.