الأربعاء، 26 فبراير 2014

التجربة و التجريب

التجربة و التجريب
       تأطير إشكالي :  
       في هذا السياق المحوري الأول من موضوع النظرية و التجربة ، الذي سنتناول فيه الفرق بين التجربة و التجريب و الحدود الفاصلة بينهما ، يمكن القول أنه إذا اعتبرنا التجربة ، في معناها العادي المرتبط بالحس المشترك ،  هي تلك الخبرات التي راكمها الإنسان في حياته ،  في ارتباطه المباشر بواقعه المعيش ، و التي على أساسها أصبح إنسانا محنكا ، فإننا سنعتبرها في معناها العلمي الدقيق كمجموعة خطوات منهجية نظرية و تطبيقية سيتأسس عليها التجريب العلمي الذي يتوخاه العالم انطلاقا من ملاحظته للظاهرة المراد دراستها علميا و صياغته لفرضيات تولدت مباشرة عن تلك الملاحظة .
       انطلاقا من هذا التحديد ، سيكون التجريب العلمي ، هو  تلك الوسيلة العملية التي ستمكن العالم من التحقق من مختلف الاجوبة الممكنة للأسئلة الافتراضية التي انطلق منها . و هذا ما يجعلنا أمام إشكالية فلسفية حقيقية تكمن في  بنية تلك التجربة و طبيعتها : فهل ينبغي الاكتفاء بطبيعتها المنغلقة التي ترى في المنهج التجريبي، السبيل الأنجع لبلورة نظرية علمية ، أم ينبغي تجاوز بعده الاختباري، والنظر في  مستويات أخرى أرقى ، تكون مكملة لهذا الواقع ، و تجعل من التجريب العلمي انفتاحا على واقع افتراضي أساسه الخيال ؟
   مواقف فلسفية للإجابة عن هذه الإشكالية  :
للإجابة عن هذه الإشكالية المطروحة ، يرى كلود برنار ( 1813- 1878 ) أن السبيل الأنجع لدراسة أية ظاهرة طبيعية ، يكمن في اتباع خطوات المنهج التجريبي ، الذي صاغه فرانسيس بيكون ، و الذي يعتمد بالأساس على :
-           الملاحظة القصدية و الموجهة المبتعدة عن العفوية ، كمعاينة للظاهرة و المتوخية للموضوعية و الدقة  باستخدامها لكل الأدوات و التقنيات المساعدة  ، دون  إغفال للتفاصيل و الجزئيات الملاحظة .  
-          الفرضية كمجموعة أفكار ينبغي أن تكون من وحي الطبيعة و منبثقة من الملاحظة و ذات تفسير علمي يعتمد على العقل و المنطق ، و ذات قابلية للتحقق التجريبي . فالفرضية بهذا المعنى ، هي مقدمات أو منطلقات يقترحها العالم ، من أجل فهم مؤقت للظاهرة الملحوظة ريثما يتحقق ، عن طريق التجربة ،  من أهمية مضامينها و نجاعتها في تفسير الظاهرة المدروسة .
-          التجربة كإعادة بناء الظاهرة ،  مختبريا  . و الغرض منها هو التحقق من صحة أو عدم صحة الفرضية ، و ذلك من خلال  ضبط معايير و مقاييس الانجاز و كذا تتبع سيرورتها انطلاقا من خضوعها للمراقبة داخل المختبر و تكرار إنجازها ضمانا للنتائج الحسنة .
-          القانون كعلاقة ثابتة قائمة بين ظاهرتين أو أكثر ، يتوخى التعميم كخاصية تنطبق على كل الظواهر المتشابهة ، كما يتوخى ، أيضا ، التنبؤ بحدوث الظاهرة مستقبلا إذا توفرت نفس الظروف ، و يتوخى أيضا  اللغة الرمزية، باعتباره  صياغة لمجموعة علاقات رياضية . 
إذا كان كلود برنار يقيم وزنا لعنصر التجربة ضمن منهجه التجريبي الذي سقناه قبل قليل ، فإن ألكسندر كويري ( 1892 – 1964 )  سينطلق من التمييز بين التجريب و التجربة . هذه الأخيرةExperience   سيعتبرها عائقا إبستمولوجيا يحول دون قيام نظرية علمية ، لأفتقادها إلى الدقة و الموضوعية و لاعتمادها على الحس العام القائم على الملاحظة العامية . أما التجريب Experimentation ، فسيعتبره  مساءلة منهجية  للطبيعة ، التي تفترض لغة يطرح بها أسئلته ، و قاموسا علميا يتيح للعالم إمكانية تأويل أجوبة تلك الأسئلة المطروحة . فالتجربة في معناها العامي لا تستطيع أن تملي قرار استعمال تلك اللغة الرمزية المعبرة عن موقف ذهني للعلم متميز بلحظتين مترابطتين :
-           أولا : إضفاء الصفة الهندسية على المكان عبر اختفاء كل اعتبار ينطلق من الكوسموس في الاستدلال العلمي .
-          ثانيا : استبدال المكان الفيزيائي الملموس بالمكان الهندسي المجرد .
أما العالم الرياضي الفرنسي  روني توم( 1923 ... ) فإنه يرى أن التجريب إذا اراد وحده إتاحة التحليل السببي للظاهرة المدروسة ، فإنه سوف يكون عاجزا عن اكتشاف العلاقات السببية بين الظواهر ، ما لم ينتبه إلى دور التفكير في عملية بناء المعرفة العلمية. و مفاد هذا التصور الجديد الذي يقدمه لنا روني توم ، يكمن في ضرورة  تصور التفكير على أنه ذو طبيعة انفتاحية تنفلت من رتابة المناهج المكبلة لقدراته على التصور و الابداع عبر ما يتيحه الذهن من خيال . التجربة العلمية ، بناء هذا المعنى الجديد ، لا ينبغي حصرها في ما هو واقعي تجريبي اختباري بل ينبغي لها أن تنفتح على ما هو خيالي افتراضي . و لهذا السبب نجد أن كل النظريات الرياضية و الفيزيائية ، في نظر روني توم ،  أصبحت اليوم تبني صرحها بواسطة العمليات الذهنية دون أن تحتاج إلى الواقع الحقيقي . فالواقع العلمي أصبح يبنى بواسطة تجربة عقلية خيالية تكمل الواقعي بالخيالي .
خلاصة تركيبية :

كخلاصة تركيبية لمحور  " التجربة و التجريب " يمكن القول أن العلم ، في فترتنا المعاصرة ، أصبح فيه التجريب منفتحا على الواقع الافتراضي و الخيالي ، و لم يعد معتمدا فقط  على الواقع التجريبي الملموس . فبناء كل نظرية علمية يقتضي تدشين حوار متفاعل بين التجريب المختبري المعتمد على الواقعي و بين التجربة الذهنية المعتمدة على الفكري و الذهني و الخيالي. 

الأحد، 9 فبراير 2014

النظرية و التجربة


 

النظرية و التجربة

        حين نفتح الباب الأول من مجزوءة المعرفة ( النظرية و التجربة ) نكون أمام منعطف كبير عاشته أوروبا ، و عاشه ، من بعدها العالم بأسره . منعطف دشنه الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون ( 1561 – 1626 ) . الذي قاد ثورة علمية ، ضد المنطق الأرسطي المعتمد على القياس ، الذي ظل لقرون طوال يفيد أنه بواسطة العقل النظري وحد يمكن أن نصل إلى المعرفة الحقة . ثورة  أبرزت أن الطريقة الصحيحة للوصول إلى العلم هي الاستقراء كمنهج جديد الذي سيتم استخراج القاعدة العامة ( القانون العلمي و النظرية العلمية ) من أساسيات الواقع التجريبي الحسي اعتمادا على الملاحظة و التجربة .

      هذا المنهج الاستقرائي البيكوني  لم يأت من فراغ ، بل كان ثمرة مجهودات كبيرة لرواد عصر النهضة الأوروبية على مستويات عدة : مستوى علمي مع أفكار كل من جاليليو و نيوتن ،  و مستوى الإصلاحات التي طالت المؤسسة الدينية ، و مستوى الثورة الصناعية و مستوى الكشوفات الجغرافية الكبرى التي تعرفت من خلالها أوروبا على حضارات العالم القديم . لقد كان  فرانسيس بيكون ، باختصار ،  حلقة وصل بين الماضي القديم و حاضر أوروبا القرن 17 .  

       في كتابه الهام  Novum Organum ، " نوفوم أوجانون " " الوسيلة الجديدة " قسم فرنسيس بيكون  الفلاسفة المشتغلين في مجال المعرفة العلمية إلى ثلاث فئات . فئة الاختباريين ، حيث شبههم  بالنمل الذي يكتفي بجمع المؤن و مراكمتها لاستهلاكها فيما بعد ، لأنهم يهتمون بالواقع و بالتجربة ، و فئة العقلانيين ، حيث شبههم بالعناكب التي تبني بيوتها من المادة المستخلصة من طبيعتها ، لأنهم يهتمون بالتنظير فقط ، و فئة العقلانيين التجريبيين  ، حيث جعلهم أشبه بالنحل الذي يحول ، عبر تقنيته الخاصة به ، الرحيق المستقى من الطبيعة إلى عسل  ، لأنهم متموضعون  في الوسط بين فئة الأولى و الفئة الثانية .

     هذا التشبيه البليغ ، سنجعله كمنطلق لتحديد مفهومين مركزيين : مفهوم " النظرية " و مفهوم  " التجربة  "  

     تفيد الدلالة اللغوية لهذين المفهومين ، أن النظرية في اللغة العربية تعني الملاحظة و الرؤية بالعين المجردة لأنها لفظة مشتقة من النظر ، كما أنها تعني ، حسب ابن منظور ، الكيفية التي نرتب الأشياء على الصورة التي تجعل المغيوب معلوما . أما لفظة  theorie  الفرنسية فأنها تعبير، عن نسق من الأفكار المبنية بشكل متدرج عبر الانتقال من المقدمات إلى النتائج و من البسيط إلى المركب . كما أنها تحمل معنى التأمل العقلي المحض استنادا إلى الكلمة اليونانية throria  التي اشتقت منها .

     أما لفظة " التجربة " فهي تعني كل الخبرات و المعارف المحصل عليها انطلاقا من الواقع بشكل مباشر . و تعني أيضا ، في المجال العلمي ، مجموع الترتيبات التي يتخذها العالم في مختبره أثناء ملاحظته ظاهرة ما من الظواهر بعد أن يصوغ الفرضيات ، بحيث تكون التجربة تحققا من تلك الفرضيات بقصد بناء معرفة يقينية  حولها .

     اما على مستوى التحديد الفلسفي لهذين المفهومين ، فيمكن القول أن النظرية هي  نسق فرضي استنباطي يصف الوقائع و يتجاوز ذلك ليقوم بتفسيرها ، أما التجربة فهي تمثيل لواقعة حسية معطاة من الواقع التجريبي .

     يضعنا هذان التحديدان ،  اللغوي و الفلسفي ،  أمام إشكالية فلسفية نابعة من مفارقات متصلة بطبيعة كل من النظرية و التجربة  ، فهل سنعتبر النظرية تمثيلا محضا لكل ما هو مجرد ومرتبط بالذهن و بالمفاهيم المتولدة عن الصورة الذهنية الخالصة ؟ و هل سنعتبر ، في الجهة المقابلة للنظرية ، أن التجربة هي مجالا للملموس الخاضع للانطباعات الحسية التي تأتينا عن طريق  الواقع التجريبي ؟ أم ينبغي خلق حوار فاعل بين النظري و التجريبي ، لا يهمش دور كل من النظرية و التجربة ، بحيث لا يختزل النظرية في مجرد نسق عقلي رياضي ، و لا يختزل التجربة في كونها مجرد تعبير آلي عن واقع يقدم نفسه للباحث أو للعالم بسهولة انطلاقا من المحسوس للوصول إلى المعقول ؟ هل تطرح العلاقة بين النظرية و التجربة مشكلات إبستمولوجية حقيقية ينبغي التصدي لها بروح علمية تتوخى الدقة و الموضوعية ؟ ما الفرق بين التجربة و التجريب ؟ و ما الحدود الفاصلة بين العقلاني و التجريبي ؟ و ما المعايير التي بموجبها يمكن تحديد صلاحية نظرية علمية من النظريات ؟