الثلاثاء، 16 يونيو 2020

الهوية الثقافية.. هل تقضي العولمة على الخصوصية الثقافية للمجتمعات؟

الهوية الثقافية.. هل تقضي العولمة على الخصوصية الثقافية للمجتمعات؟

قد يفيد القول بديناميكية الهوية الثقافية، جعل هذه الأخيرة مجرد وحدة ظاهرها التماسك والقوة وباطنها الانشطار والتفكك. فكيف تُحْمى كل هوية ثقافية من التفكك والانشطار؟ يجيبنا الباحث علي وطفة، من خلال إبرازه أن للأسر دور كبير يتجلى في زرع الحب والحنان في نفوس الأطفال. وهذا، في نظره يكفي لكي يجعل الهويات متماسكة تماسكا قويا. لكن المستطلع لعملية الانبناء التي تعرفها بعض الهويات، من جملتهم الهويات العربية والإسلامية، سوف يرى أن هذه الأخيرة أصبحت مهددة بالنسف بسبب اجتياح العولمة. فالمفكر علي حرب له رأيه في هذا الصدد؛ إذ يعتبر أن خطر العولمة يكمن في التوظيف الإيديولوجي لعناصر استاتيكية مرتبطة بالموروث الثقافي من أجل تعميق الهوة بين الإنسان وكيانه الروحي والحضاري.
نجد موقف علي حرب جد معقول: فالعولمة، كما سبق أن ذكرنا في إحدى مقالاتنا السابقة التمايز الثقافي والمشترك الإنساني تقيم الكمائن للمجتمعات التي لها عمق تاريخي، والاحتراس منها يعتبر من الأولويات. ذلك أن ما نشاهده ونتلمسه ونعايشه الآن من تفسخ للمنظومات القيمية والتربوية وإحلال قيم ثقافية مستوردة بدلها، تبثها الفضائيات العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي، لشاهد على ذلك. ومناقشة الهوية الثقافية في علاقتها بالموروث الثقافي، يجرنا حتما إلى تناول إبدال آخر للهوية، يتعلق الأمر بمفهوم الهوية القومية. إن رصد هذا الأخير رصدا علميا دقيقا لا يتحقق، في رأي نديم البيطار، إلا بشرح تمايزين يتخللانه:
الأبعاد المحلية للهوية القومية، تجعل من الهوية القومية مجرد سمات مادية وروحية لدى جماعة ثقافية ما، تنفرد وتتميز بها عن باقي جماعات آخري، مما قد يضفي عليها الطابع التجزيئي
الأول ميتافيزيقي لأنه يفصل الجوهر عن وقائعه التاريخية؛ إذ يرى في الشخصية الثقافية جوهرا أو تركيبة نفسية عقليه ثابتة ينبغي الانطلاق منها بصرف النظر عن الأوضاع التي أنتجتها، الاجتماعية، الاقتصادية، التاريخية، والفكرية. والثاني سوسيولوجي، لأنه يرى في الهوية القومية طرق تفكير وشعور وسلوك متماثلة ومهيمنة نسبياً، وتتغير مع حركة التاريخ وتحولاتها الجذرية.
الهوية القومية، بهذا المعنى الذي شرحه نديم البيطار، هي هوية نسبية وتاريخية يحققها شعب ما عنن طريق تفاعل أو علاقته الجدلية مع التاريخ، وليست موروثة من جوهر ثابت متأصل فيه. إنها، بحسبه، ليست ردا فطريا وغريزيا، بل هي نتيجة استجابات نعانيها عن طريق النشأة الاجتماعية. وبالفعل، فقد ابتعد الفكر الاجتماعي الحديث، في العقود القليلة الماضية عن المفهوم الميتافيزيقي للهوية القومية، بعد ان اعتبر أن خصوصيات أي شعب هي نتائج عوامل التاريخ الديناميكية، من احتكاك ثقافي، وحروب، وهجرة، واختراعات، وأزمات، وصراعات اجتماعية، وسياسية وتصورات إيديولوجية وغيرها من العوامل المتحولة عبر التاريخ، والتي جعلت من الهويات كيانات متحولة ومتغيرة.
نستخلص من موقف البيطار هذا، أن الأبعاد المحلية للهوية القومية، تجعل من الهوية القومية مجرد سمات مادية وروحية لدى جماعة ثقافية ما، تنفرد وتتميز بها عن باقي جماعات آخري، مما قد يضفي عليها الطابع التجزيئي. لكن الذي يجعلها هوية ذات أبعاد إنسانية وكونية هو طابعها التركيبي الذي تتحدد في إطاره القيم والمبادئ الإنسانية الكونية المتعارف عليها. فداخل هذا الإطار يتوحد المحلي والقومي مع كل مشترك إنساني.
أصبح للناس بسبب إبحارهم في العالم الأزرق عالم الإنترنت، هويات إنسانية، تولدت عنها لغة عالمية مشتركة تسعى إلى نقل ثقافات الشعوب، لكنها تبقى هويات إنسانية افتراضية
 
كما قد نفهم من تصوره هذا، أن الهويات القومية لا تنبني إلا على قاعدة التعدد والكثرة. وهذا إبدال آخر للهوية الثقافية الذي يؤشر على وجود هوية ثقافية عالمية موحدة تنتسب إلى الإنسان، والإنسان ينتسب إليها، ويدل على أن الهوية الإنسانية متماهية مع وضعها وغيريتها البشريتين. فمن هذا المنتهى تبتدئ فكرة الحضارة العالمية، التي لا تثمر ولا تزهر إلا من حيث اعتبارها تشكيلة لتحالفات ثقافية محتفظة بنسبها الخصوصية غير القابلة للذوبان في كيان ثقافي معين.
يمثل التفوق الثقافي إبدالا آخر من إبدالات الهوية الثقافية. ويظهر ذلك جليا وواضحا من خلال استراتيجيات العولمة على المدى المتوسط والبعيد: فالعولمة من خلال وسائل الإعلام والإشهار والماركتينغ، تكرس عودة ذلك الإنسان الطبيعي الذي لا يعرف حدودا ولا قيما اخلاقية ولا ضوابط ونوازع إنسانية.. إنسان لا هوية له إلا ما استمده من لحظات عيش استهلاكية محضة. وهذا الوضع البشري الذي خلقته العولمة يجعل من التفوق الثقافي التي تمثلها المركزية الغربية إشكالية دائمة وقائمة، تقف بالمرصاد لكل محاولة للتحرر الثقافي. مركزية انبنت على تمركز الذات الغربية، التي سعى عدد من الإثنولوجين الغرب تفكيك خطابها، وأولهم لفي ستروس.
صحيح أنه قد أصبح للناس في هذا الكوكب، بسبب إبحارهم في العالم الأزرق عالم الإنترنت، هويات إنسانية، تولدت عنها لغة عالمية مشتركة تسعى إلى نقل ثقافات الشعوب، لكنها تبقى هويات إنسانية افتراضية. وهذا يضعنا أمام إبدال آخر، جد عويص للهوية الثقافية. فهل تسير العولمة بهذا العالم في اتجاه القضاء على الاختلاف والمغايرة: كما أشار إلى ذلك الفيلسوف جان بودريار؟ هذا موضوع آخر، ارتأينا أن نرجئ الخوض فيه في مقال لاحق.

كيف تتشكل الهوية الثقافية؟

كيف تتشكل الهوية الثقافية؟

سأنطلق في شرح بعض إبدالات الهوية الثقافية بطرح الاسئلة التالية:
* ما العلاقة بين الهوية الثقافية والموروث الثقافي؟
* وهل نجاعة وإجرائية مفهوم الهوية الثقافية قادرتان على خلخلة يقينيات ورواسب الموروث الثقافي، التي قد ألفها الإنسان وارتاح لها؟
* وهل يصح الحديث عن هوية ثقافية مهتمة بالأسس الفكرية والثقافية البانية لميكانيزمات التفكير العقلاني السليم، ومبتعدة عن انتهاج أساليب الاختزال والانتقاء، التي تقود إلى تبني نماذج هوياتية غير مدروسة؟
يكمن الجواب على هذه الاسئلة في مناقشة إبدالات الهوية الثقافية. لكن هذه المناقشة سوف لن تفي بالمطلوب إلا إذا انطلقت من زاويتي نظر منهجية وموضوعية. فالزاوية الأولى نوضح من خلالها أن مفهوم الهوية الثقافية يعتبر من القضايا الشائكة التي تستلزم منن كل باحث، إعادة النظر في المعطيات الثقافية والفكرية ومختلف الأفعال وردود الأفعال المتفاعلة، سلبا أو إيجابا معها؛ بعد أن أصبح، بفضل شيوع وسائل التواصل الاجتماعي، واسع التداول والانتشار (خاصة على الساحة العربية والإسلامية). الشيء الذي بات معه التفكير في نحته من جديد؛ بشكل يجعله مفهوما واضح المعالم لا تشوبه الشوائب.
أما الزاوية الثانية فنرصد عبرها هذا المفهوم معتبرين إياه مفهوما متصف بالديناميكية وبالمرونة، لكونه يسعى إلى اختراق الحدود الثقافية، دون المساس بمقومات التأصيل الثقافي؛ وله، إلى جانب ذلك، قدرة إبستمولوجية، في حقل العلوم الإنسانية، على استيعاب مضامين المتغيرات والتحديات الجديدة على الساحة العالمية، وأثر هذه الاخيرة البادي على مختلف مظاهر حياتنا الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية.
الهوية الثقافية هي كيان خاضع لسيرورة متحركة في جميع الاتجاهات لكسب روابط وعلاقات جديدة تغنيها عن التقوقع وملازمة ثقافتها المحلية
يزخر وجودنا الإنساني بتعدد الهويات والثقافات. وهذا الغنى الثقافي الهوياتي نابع من تعدد آخر حاصل على مستوى الرؤية الفلسفية للعالم. ذلك أن الثقافة داخل كل مجتمع تبني كتلة من المسلمات والافتراضات يختارها المجتمع لأفراده وجماعاته على أنها وقائع سوسيوثقافية، ولدت مجموعة أفكار ومعتقدات تأسست وشكلت مقاصد ذلك المجتمع لحل إشكالية علاقة الإنسان بوجوده الاجتماعي؛ حيث يضع الفرد نفسه، بشكل واع وإرادي، ضمن أحد عناصر هذا المركب الاجتماعي.
فإذا سلمنا بهذا الاعتبار واضفنا إليه اعتبار آخر يرى أن الموروث الثقافي هو ثمرة كل مجهود إنسانيي على المستويين المادي والروحي المتصل اتصالا جدليا بالتاريخ والحضارة، جاز لنا طرح الأفكار والمواقف والتصورات التالية:
 أولا: أن الهوية الثقافية تشكل، حسب الباحث علي وطفة، منظومة معايير محددة لمستوى معين من ثقافة الأفراد والجماعات داخل المجتمع، فبها تُعْرَف وتُعَرَّف.
 ثانيا: تتسم بالغنى على المستويين الدلالي والمرجعي، في ارتباطها بالموروث الثقافي.
 ثالثا: مفهوم بنيوي بالغ التركيب يتأسس ويبنى في كل وقت وحين؛ في إطار علاقاتت تاريخية واجتماعية وثقافية. ولهذا فلا ينبغي، انطلاقا من طبيعته التركيبية هاته، اعتباره معطى جاهزا وناجزا، يقدم نفسه للباحثين والدارسين بسهولة ويسر.
رابعا: مفهوم يحيل إلى المشترك الثقافي والمجتمعي الموحد للأمة؛ ليشمل كلل الأنماط السلوكية والقيمية وكل المؤهلات الفردية والجماعية والمسلكيات المكتسبة، بفعل انخراط الناس في تجارب حياتية مليئة بكل ما استجد من معطيات المحيط العالمي المتغير باستمرار.
وعليه، وانسجاما مع هذه النقط الأربع، سالفة الذكر، يمكن بناء تصور جديد لكل هوية ثقافية، انطلاقا من رصد ذلك التفاعل الجدلي بينها وبين الموروث الثقافي المنفتح على كل معطى جديد. فالتفاعل الثقافي لا يكون حقيقيا إلا إذا كان مثمرا. ولا يكون كذلك إلا إذا سعى إلى تأسيس فعلل حضاري متماه وجوبا مع أفعال حضارية أخرى، مماثلة كانت أو مختلفة.. أفعال حضارية تتأسس جراءها، مع مرور الزمن والأحقاب، بنيات ثقافية إنسانية ذات جذع مشترك واحد. الهوية الثقافية، بناء على ما تقدم شرحه وتفسيره، هي كيان خاضع لسيرورة متحركة في جميع الاتجاهات لكسب روابط وعلاقات جديدة تغنيها عن التقوقع وملازمة ثقافتها المحلية.. هوية غير ساكنة، تجعل من التغيير قدرها الذي لا مفر منه، الذي سيؤدي بها حتما إلى أن تشهد في بنيتها الداخلية تحولات عميقة.

وهذه السيرورة هي ما يضمن لها، في نظر عدد من علماء الانثروبولوجيا، نوعا من الاستمرارية والانبناء المتجدد في الزمان وفي المكان، كسمة طبيعية تجعلها هوية ثقافية ديناميكية. إنها، بهذا المعنى، حركة مستمرة، عرف التاريخ بسببها منعطفات حاسمة من دورة الحضارة. أو بتعبير مالك ابن نبي، هي نظرية في السلوك أكثر من أنها نظرية في المعرفة؛ بحيث يكون التماثل أو الاختلاف في سلوك الأفراد والجماعات من نتاجاتها وليس من نتاجات التعليم. أو إنها حالة نفسية واجتماعية مميزة للحضارة ومحركة لقوى وقدرات الفرد والمجتمع، أو مجموعة قواعد أخلاقية وقيم اجتماعية مؤثرة في البنيات اللاشعورية للمجتمع.

الهوية العربية الإسلامية وسبل الانفتاح على الممكنات

الهوية العربية الإسلامية وسبل الانفتاح على الممكنات

حتى تستطيع هويتنا أن تخلق مجتمعا عربيا إسلاميا جديدا، تكون له القدرة على تنظيم العلاقات ما بين هوياته المختلفة، لتجاوز مثبطات نهوضه واستقلاله الذاتي، وحتى تستطيع تخطي ألغام كل من مفهوم الخصوصية ومفهوم الكونية وتجنب انحرافاتهما الإيديولوجية، يجب أن تتماهى مع القوانين الكونية النابعة من القيم الإنسانية الأصيلة.
لكن هذا التماهي لا يعني الذوبان الكلي في ثقافة الآخر السائدة، بل يعني التفاعل الإيجابي والبناء، دون المساس بالمقومات الحضارية والتراثية لدى الشعوب المعبرة عن هوياتهم. فلا وجود لهوية خارج التاريخ، سواء تعلق الأمر بهوياتنا العربية الإسلامية أو بالهويات الأخرى المتفاعلة معها سلبا أو إيجابا.

وهذا ما يمكن فهمه من خلال التعريف للهوية الذي يسوقه لنا الباحث عفيف البوني نقلا عن المفكر نديم البيطار من كتابه "حدود الهوية القومية"، ومفاده أن هوية كل أمة تكون مرتبطة بتاريخها الذي يشكلها. وهي بهذا المعنى شبيهة بأرض الوطن، الذي لا يمكن لأحد التفريط فيه أو التنازل عنه. فالولاء للوطن شيء مكتسب يتربى عليه الإنسان ويكون نتيجة حتمية للولاء للهوية. فالأوطان تعرف وتتمايز بهوياتها التي صنعها الفاعلون في تاريخهم الاجتماعي والسياسي.
لا يكتمل المعنى العلمي لمفهوم الخصوصية، في رأي المسيري، إلا إذا شكل إطارا تنظيميا داعيا إلى الانفتاح على كل حضارات العالم، يغرف منها، وليس فقط الانفتاح على الحضارة الغربية وحدها
 
المواطنة العالمية.. حدود الخصوصي والكوني
يكشف مفهوم الخصوصية، حسب المفكر عبد الوهاب المسيري، عن ثوابت إيديولوجية تساهم في تكريس نزعة ثقافية مركزية تجعل من أسلوب التفاضل بين ثقافات شعوب العالم غايتها الأولى، وتدفع، بالتالي، في اتجاه توسيع الهوة ما بين تلك الثقافات، انطلاقا من المعايير التقليدية التي تأسست عليها بعض المفاهيم التي ارتبطت بسياقات زمانية ومكانية معينة وبظروف تاريخية عاشتها أوروبا مع مستعمراتها، كمفهوم التقدم ومفهوم التأخر.
إن مواصلة طرح مفهوم الخصوصية بهذا المعنى الذي يضيق المساحة على الكوني والمشترك الإنساني يفقد هذا الأخير إجرائيته وقيمته العلميتين الكفيلتين بجعله إطارا مرجعيا أساسيا مساهما مع مفهوم الكونية في مد جسور التواصل الحضاري بين ثقافات العالم. وبهذا المعنى، لا يكتمل المعنى العلمي لمفهوم الخصوصية، في رأي المسيري، إلا إذا شكل إطارا تنظيميا داعيا إلى الانفتاح على كل حضارات العالم، يغرف منها، وليس فقط الانفتاح على الحضارة الغربية وحدها. فالانفتاح بهذا المعنى لا يكون مذيبا للخصوصيات بل معززا ومقويا القدرة على الاندماج للتماهي مع هذا التنوع اللامتناهي والغنى الثقافي الذي يطبع حضارات العالم. 
كما يكشف مفهوم الكونية، حسب إدغار موران، عن أسس قيمية مستقاة من عصر الأنوار. أسس حولتها العولمة إلى ثوابت إيديولوجية صيرت العالم أشبه ما يكون بسفينة فضائية تتجه نحو كوارث غير متحكم فيها. الشيء الذي تطلب من الحضارة الأوروبية المعاصرة، في نظره، إنتاج ترياق يكون بمثابة مضاد حيوي واق نابع من ثقافة الحوار والانسجام، ومن حضارة عالمية منمية لخصال الحياة المشتركة؛ تضع حدا للسباق نحو الهيمنة. ثقافة تنهل من النزعة الإنسية العالمية.

موضوع الهوية شائك ومعقد ينبغي تناوله وتدقيقه علميا لإزالة الشوائب التي علقت به جراء التوظيفات والاستعمالات الإيديولوجية التي حولته إلى مفهوم فضفاض وضبابي
ذلك أن الثقافة هي مرآة عاكسة لهويات أمم العالم، إذ لا أساس هوياتي دون ثقافة تشكل قاعدة تنظيمية لها؛ تتأسس عليها تلك الأحكام والمعايير والضوابط السلوكية والقيم الإنسانية الكونية المتماهية مع القيم المحلية.
نفهم من رأي إدغار موران أنه ينبغي البحث في مستويات نظر أخرى مغايرة للمألوف وما درجت عليه أوروبا على الخصوص والغرب على العموم، و طبعت به ثقافات العالم المختلفة عنها. مستويات نظر قد تكشف عنها العلوم الإنسانية مستقبلا، عندما تزداد حدة مفارقات عصر العولمة ويطالب الضمير العالمي بضرورة سن قوانين جديدة عادلة ومنصفة بقصد إخراج مواطنة عالمية، مبنية على حقوق سياسية ومدنية كونية، إلى حيز الوجود. مواطنة عالمية تجعل من كل إنسان (أي إنسان) مواطنا يعيش في عالم خال من الحروب، بكل راحة و اطمئنان.
 
خاتمة
خلاصة القول إن موضوع الهوية شائك ومعقد ينبغي تناوله وتدقيقه علميا لإزالة الشوائب التي علقت به جراء التوظيفات والاستعمالات الإيديولوجية التي حولته إلى مفهوم فضفاض وضبابي. إن البحث فيه وفي كل ما هو ثقافي وقيمي بغاية التشبث والتعلق بأهداب هوية ثابتة ومغازلة أطيافها السرمدية قد أخذ من الباحثين، لمدة عقود طويلة، كامل جهدهم الفكري والمنهجي بدون طائل، ولم يخلف لمجتمعاتنا العربية الإسلامية سوى الدمار والخراب. 
لذا، فقد بات من المؤكد على كل باحث متخصص في مجال الثقافة والهوية الحضارية التفطن إلى تداعيات وتحديات الألفية الثالثة والانكباب على الإجابة عن أسئلة الهوية ومكوناتها وأصولها وأسسها وثوابتها ومتغيراتها ومختلف تعبيراتها وتجلياتها وتمثلاتها العميقة، وكذا حدود التعايش أو الصراع بين مختلف مرجعياتها التاريخية. 

سؤال الهوية.. نحو نسق قيمي إنساني

سؤال الهوية.. نحو نسق قيمي إنساني

يعتبر التنوع الثقافي نتاجا حتميا لمبدأ الحق في الاختلاف ومظهرا من مظاهره. ولهذا فقد تطلب الأمر، بناء عليه، التفكير بجدية في رسم آفاق جديدة للكونية وللخصوصية، درءا لكل ميز بين الثقافات، أو كل مزايدات أيديولوجية، من شأنها التطاول على الخصوصيات؛ وتعزيزا وتقوية لروابط التواصل و لتفاعل بين حضارات العالم المعاصر . 
 
والحديث عن الكونية والخصوصية هو إثارة لموضوع الهويات وطبيعتها وأنواعها. لكن هل يصح الحديث عن الكوني دون وضع ضوابط وقواعد ورسم حدود بين الخصوصي والكوني، بين المحلي والعالمي؟ وعلى أي أساس يمكن إرساء الهويات، هل على أساس الثبات أم على أساس التغير؟ وبأي معنى يمكن فهم هوية عربية إسلامية "متحولة" و"واعدة"؟ وإلى أي حد يمكن طرح هذه الأخيرة كبديل عن هذه "الهويات" التي تناسلت بكثرة في المشهد الثقافي والسياسي العربي، منذ مطلع الألفية الثالثة، وأصبحت تُعْتَمَدُ كمرجعيات للثقافة العربية الإسلامية المعاصرة؟
 
سؤال الهوية.. نحو بناء نسق قيمي عربي إسلامي
نعتقد أن الإجابة عن هذه الأسئلة يتطلب طرح سؤالي الكونية والخصوصية، كما يستلزم بالضرورة طرح أسئلة أخرى مرتبطة بالهوية كتعدد، وبالغيرية كاختلاف، في أبعادهما الأنطلوجية والسيكلوجية والاجتماعية والثقافية والتاريخية الحضارية. ذلك أن الوعي بالذات الفردية والجماعية، لا يعتبر فقط جزءا من هويتهما الثقافية، بل هو مرتبط ارتباطا عضويا بالهوية الإنسانية.
 
وإقرارنا بهذا التوصيف يجعلنا نفكر، من جهتنا كعرب وكمسلمين، في مآلات الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة التي أصبحت تعيش، في أيامنا هذه، تحديات حضارية جد صعبة تجعلها في مفترق الطرق: فإما أن تسلك طريق النجاة الذي يضمن لها الاستمرارية والتفاعلية مع الوضعيات الجديدة الصعبة التي يفرضها عليها محيطها، أو تبقى أسيرة الصراعات التي تعصف بكيانها وهويتها التاريخية، وتصبح لقمة سائغة في يد "لوفتيان عولمي متوحش" لا حدود لرغباته، وطريق النجاة هذا هو مسلك حتمي يدفعها إلى معرفة كيفية تدبير اختلافها  تعددها الثقافي ومحاولة تعزيز وتدعيم السلوك الديمقراطي وترسيخ قيم المواطنة الحقة وقيم الاعتراف بالآخر المختلف. لهذا، فسؤال الهوية أصبح يشكل مطلبا أساسيا للثقافة العربية المعاصرة المراهنة على التنمية الحضارية، إنه سؤال الخصوصية و سؤال الكونية في ارتباطهما العضوي الدائم والأبدي. 
  
تعتبر الهويات مرجعا للأفكار والتمثلات والأحكام والمعتقدات، التي تمنح الأفراد والجماعات الشعور بالرضا والتوازن وعدم الضياع المؤدي إلى الإحساس بالاغتراب
    
لقد بات من المعلوم أن ظهور الألفية الثالثة قد صاحبه خطاب فوكوياما المكرس لمنطق نهاية التاريخ. ذلك الخطاب الذي ضيق -باسم الكونية- الخناق على كل خصوصية ثقافية؛ مما جعل من الكوني فخا منصوبا يستهدف كل تراث عالمي عميق ويصادر قيمه الإيجابية، لتحل قيم استهلاكية محلها. وسؤال الهوية هذا الذي نبحث فيه، هو مسلك ضروري لكل من يريد أن يتلمس الطريق نحو بناء نسق قيمي إنساني، فهو إن كان لا يقف عند حدود إجابات فلاسفة عصر الأنوار له فإنه -حسب إدغار موران- لا يخرج عن سؤال الأنسنة ليطالب بتحقيق ما هو أرقى وأعظم: إنسانية الإنسان، وذلك عبر تفعيل نوع من المصالحة بين الكوني والخصوصي، في ظل ثقافة إنسانية عالمية مُوَحَّدَةٌ منتجة للتنوع. ذلك أن الكوني يشكل اللحمة الموحدة لثقافات وهويات العالم، كما يعتبر مدبرا لمختلفها ومشتركها في زمن العولمة واقتصاد السوق .
 
وعليه، يمكن من جانب ثقافتنا العربية الإسلامية -التي تكالبت عليها ويلات ومصائب العولمة الاقتصادية- التفكير في بناء تصور جديد للإنسان العربي المسلم من أجل إرساء هوية عربية إسلامية متحولة، ومنفتحة على قيم الإنسان الكونية، ومتفاعلة مع إستراتيجيات هذه الأخيرة الموضوعة في المشترك الإنساني. فمواصلة نفس النهج المتبع منذ زمان والإبقاء على نفس التصورات القديمة، التي جعلت من الهوية العربية الإسلامية معطى ثابتا لا يتغير مع تغير الزمان والمكان، هو إجراء عقيم لم يعد يجدي أي نفع.
  
مأزق الهوية العربية الإسلامية
تعتبر الهويات مرجعا للأفكار والتمثلات والأحكام والمعتقدات التي تمنح الأفراد والجماعات الشعور بالرضا والتوازن وعدم الضياع المؤدي إلى الإحساس بالاغتراب، لكنها لا تغدو بنيات متحولة إلا إذا غادرت أرض التجانس واستطاعت تأسيس كينونتها على كل ما هو مختلف منفتح على عالم الممكنات، متجاوزة به الإطار الضيق الذي تتحدد به الهويات الثابتة. 
  
صراع الهويات، يجعل من كل خصوصية مرتعا لاستعلاء تتغذى عليه نزعات الإقصاء والتعصب وإرادات القوة والتحلل القيمي
إذا بنينا وفق هذا التصور الذات العربية الإسلامية، باعتبارها وحدة كلية، فإنه يستحيل النظر إليها، بأي شكل من الأشكال كمعطى ميتافيزيقي، بل كبناء منفتح على كل الممكنات ومحيل بالتالي على التعدد والكثرة. بناء معبر عن هوية متسمة بطابع تركيب يتحدد داخليا وخارجيا بمستويات أو بالأحرى بمجالات فرعية نفسية، اجتماعية وثقافية.
 
فوفق هذه الرؤية، يصح القول أن الذات العربية الإسلامية ستتماهى مع الكوني، بما هو تعبير عن كلية عالمية، لتشكل معه انبعاثا لأنسنة عربية إسلامية معبرة عن هذا القاسم المشترك بين كل البشر، ومعبرة أيضا عن الإنسان العربي المسلم في تعدديته ووحدته الشاملة للكل الإنساني، ودالة على مطمح عربي إسلامي قادر على تدبير الاختلاف والتعدد في الأمة، لاقتسام الخيرات وتحقيق كل عدالة منصفة قادرة على تحويل هوية ديناميكية ومتحولة مفترضة ساكنة في الأعماق، إلى فعل خلاق ومبتكر مولد للانسجام بين عناصرها.
 
وقياسا على هذا الافتراض، يمكن القول -وبكل أسف- إن الذات العربية الإسلامية في أيامنا هذه ليست بخير. فقد محت الأزمات تلو الأزمات وجودها كاختلاف، فبدت للقاصي والداني ذاتا بكينونة مذابة في نمط "وجود مشترك" يتحكم فيه غيرها، و هذا ما أفقدها تميزها وفرادتها وخصوصيتها وعمق لديها الإحساس بالدونية والاغتراب، فالعلاقة التي تجمعها بالغرب علاقة تفاضلية تطبعها الغرابة ويغمرها صراع الهويات وإقصاء البعض للبعض .
 
يبدو صراع الهويات هذا -الذي يملأ مشهدنا الثقافي والسياسي- مثيرا للشفقة وللحزن الشديد، لأنه صراع فارغ لا معنى له، يجعل من كل خصوصية مرتعا لاستعلاء تتغذى عليه نزعات الإقصاء والتعصب وإرادات القوة والتحلل القيمي، استعلاء يزيد في تضييق الآفاق الرحبة الواعدة بالعطاء الإنساني الذي لا ينضب.
 
إن اتجاه الذات العربية الإسلامية صوب آخرها الغرب يجب أن تحكمه أساسيات ومعقوليات ضابطة لتلك القصدية المفترضة المتبادلة بين كلا الطرفين. فالتفاعل لا يمكن إلا أن يكون عقيما غير منتج لأي تواصل حقيقي، إذا لم يسع إلى خلق مجال "بين-ذاتي" ينتعش فيه كل تواصل ممكن.

النخب السياسية.. لماذا تفشل في مناهضة الاستبداد؟

النخب السياسية.. لماذا تفشل في مناهضة الاستبداد؟

ما الذي يجعل نخبنا السياسيةََ العربية بمختلف مشاربها تفشل في مواجهة أنظمة الاستبداد، فتزيغ عن طريقها الثوري الذي رسمته لنفسها منذ اندلاع ما سمي بثورات الربيع الديمقراطي، وبالتالي تفقد -جزئيا أو كليا- مصداقيتها الشعبية فيشوب وحدة صفها التشتت والتشرذم والانقسام إلى ملل ونحل ومذاهب متناحرة؟ 
لا شك أن التفكير في عوامل هذا الفشل يجعلنا نقول بأن هناك شروطا ذاتية وموضوعية لم يتم استيعابها بشكل واف من طرف هذه النخب المعارضة، تجعلها تعي ذاتها بشكل جيد كتنظيمات تطرح نفسها كبديل يحمل مشروعا مجتمعيا يسعى إلى إحداث تغييرات جذرية في المجتمعات العربية. وعليه، فعدم توفر شرط الوعي بالذات هذا لا يجعل من تلك النخب المعارضة -في أعين الأنظمة العربية الاستبدادية- خصما نديا قويا، كما لا يجعلها -في أعين شعوبها- ممثلا حقيقيا لهذه الأخيرة أجدر بالثقة في الدفاع عن الحقوق المهضومة. 
 

فكيف يتحقق إذن شرط الوعي بالذات لدى نخبنا السياسية المعارضة لأنظمة الاستبداد؟ للإجابة عن هذا التساؤل يقتضي منا الأمر أن نقارب هذا الموضوع بحسب المنظور الفلسفي "الهيجلي"، الذي يفيد أن الوجود الإنساني يتأسس وفق جدلية "النفي والإثبات"، وأنه لا يمكن أن يتحقق شرط الوعي بالذات إلا إذا أخذ هذا الوجود البشري شكل صراع متبادل بين ذات وآخرها، لانتزاعِ الاعتراف بالوجود، مع إلغاء رغبة المنهزم في السيادة (العبد) وتثبيت رغبة المنتصر (السيد).
الإنسان العربي الفاعل في تاريخه، يعتبر مغيبا قد تم تعطيل فاعليته بسبب ما يعيشه من غبن مُقصٍ لذاتيته، وقلة كرامة ماسحة به الأرض، وجهل مركب سالبٍ لإرادته التواقة للتغيير
 
نفهم من هذه المقولة أنه لا يكون الجدل حقيقيا إذا كان نتاجا للمماثلة والتطابق بين الذوات، بل ينبغي أن يكون نتاج حركية ديناميكية تطبع الأشياء والموجودات لتنتقل من صيغة الإثبات إلى صيغة النفي (والعكس أيضا صحيح). فالجدل بهذا المعنى هو نتاج لأفعالِ المغايرةِ والاختلاف وليس نتاجا لأفعال المماثلة والمطابقة.
 
فالراصد لأشكال الصراع -قديمه وحديثه- بين نخبنا السياسية العربية المعارضة وأنظمة الاستبداد، سيرى أن هذين القطبين المتصارعين يُعتبران وجهين لعملة سيادية واحدة أصيبت بالعقم السياسي، لكونهما قد قدما ولا زالا يقدمان في هذا الإطار نموذجا لعلاقة تقابلية غير مثمرة بين كائن ممسوخ وكائن عقيم؛ فالأول يتمثل في الأنظمة العربية الاستبدادية، والثاني يتمثل في المعارضات العربية؛ فالممسوخ اعتبر كذلك لكونه يعيش خارج التاريخ بسبب فعله الاستبدادي، والعقيم اعتبر كذلك لكونه عاجز عن إنتاج الفعل التاريخي الأصيل المتولد عن جدلية "عبد/ سيد" حقيقية كما ساقها لنا هيجل. 
 
بعد هذا الإجراء التحليلي لهذه الجدلية، يمكن القول أن السيادة الحقيقية الفاعلة والمثمرة التي ينبغي على نخبنا السياسية العربية المعارضة أن تتماهى بها حتى لا تكون عقيمة هي تلك السيادة التي تجعل من الانتفاضات ضد الاستبداد ترقى إلى مستوى الثورات التاريخية الكبرى، فهذه الأخيرة قد استمدت مشروعيتها من الأسس الديمقراطية التي جعلت من الإنسان منذ بداية العصور الحديثة، قيمة القيم.

كيف يمكن تكسير طوق دائرة هذه الجدلية العقيمة؟ وهل من سبيل إلى نهضة عربية حقيقة قوامها العلم والمعرفة؟
 
الإنسان العربي الفاعل في تاريخه بناء على هذا الشرط، يعتبر مغيَّبا قد تم تعطيل فاعليته بسبب ما يعيشه من غبن مقصٍ لذاتيته، وقلةِ كرامةٍ ماسحة به الأرض، وجهل مركب سالب لإرادته التواقة إلى التغيير، وفقر مادي وفكري يجعله يحس باغتراب عن كل فعل تاريخي منسوب إليه. 
  

فـ"العبد" الذي يقبع في ركن قصي وعميق في لاشعورنا الجمعي العربي، والذي قد يصبح في يوم من أيامنا غير المشرقة "سيدا" بقدرة انتفاضة أو ثورة منقوصة الأركان، لا يستطيع بالتأكيد أن يمارس الفعل التاريخي الحقيقي الذي يقوده إلى إنتاج مجتمع التقدم والرخاء والرفاه، لأنه كائن لم يستوعب بعد شروط وجوده كإنسان لكي يستطيع تجاوز وضعية العبودية المخزية وينتقل، بالتالي، إلى وضعية السيادة الحقيقية المشرِّفة. 
وعليه، فـ"السيد العربي"، الذي تتعايش معه، قسرا، شعوبنا العربية في هذه الألفية الثالثة، هو في حقيقة أمره مجرد عبد لأدوات سياسية سالبة لإرادته، يعيش معها حالة اغتراب لأنها ليست من ابتكاراته وإبداعاته.. إنه في حقيقة أمره عبد "مخصي سياسيا"، وقد لبس في الظاهر جبّة الأسياد. أما "العبيد" الذين أصبحوا بانتفاضتهم عليه "أسيادا"، فهم كينونة "جديدة" لكنها تحمل في طياتها بذرة الاستبداد، وسترتد بفعل ذلك -إن آجلا أو عاجلا- إلى أصلها، لكن هذه المرة في شكل صور أكثر رداءة..، يمكن في الختام طرح تساؤلات أخرى :
 
كيف يمكن تكسير طوقِ دائرةِ هذه الجدلية العقيمة؟ وهل من سبيل إلى نهضةٍ عربية حقيقة قِوامها العلم والمعرفة؟ وبأي معنى يمكن فهم أن الإنسان العربي هو كائن يعيش على الهوامش.. فاقدا للأهلية الفكرية والسياسية القادرتين على جعله سيد نفسه؟ وما هي شروط تحرره من هذه الوضعية القاتلة؟
 
هذه جملة تساؤلات نطرحها لكي نفتح بها باب الاجتهاد على مصراعيه، لمعرفة ممكنات فعلنا الثوري الحقيقي وحدود اشتغاله، عمليا ونظريا، والخيارات التي تتيحها هذه المرحلة الصعبة التي تجتازها أمتنا العربية حتى لا نسقط، كمعارَضات، في مطبِّ عمل أقبح مما تقوم به الأنظمة الاستبدادية، عند تسلم زمام الأمور.
عن موقع مدونات الجزيرة 
الرابط 
https://www.aljazeera.net/blogs/2017/12/26/%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AE%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%AA%D9%81%D8%B4%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%86%D8%A7%D9%87%D8%B6%D8%A9

عولمة الثقافات والقدرات الروحية للإنسان المعاصر

عولمة الثقافات والقدرات الروحية للإنسان المعاصر

بعد أن استوفينا أغراض التصورات المعارضة للعولمة في المقال السابق، ننتقل الآن لنطرح أفكار كتاب أجمعوا على أن ظاهرة العولمة لها وجه مشرق ساعدت على رسم ملامحه وسائل الاتصال الحديثة .
 

لقد سرعت وسائل الاتصال الحديثة، حسب كل من ستيفن كولمان وكارين روس، من وتيرة التحول الاجتماعي. إذ استطاعت، في رأيهما، تغيير طريقة تفكير الناس تجاه قيمهم وأنماط سلوكهم. وهكذا، وفي زمن قياسي قصير، اكتسب الناس آليات حوار أخرجت معتقداتهم الراسخة من بواطن اللاوعي إلى أسطح الوعي، فغذا كل شيء نسبيا، بعد أن كان مطلقا وثابتا. وقد ساعد هذا التغيير الناس على بناء هوية ذاتية مستقلة فتحت المجال لهم على مصراعيه للانخراط والمشاركة السياسية الإيجابية الواسعة والدخول في حوارات سياسية كانت بالأمس القريب من المحظورات.
  

وسوف لن تفلح وسائل الاتصال الحديثة كل هذا الفلاح، في رأي هذين الكاتبين، لولا تضافر عاملين أساسيين: توفير المعلومة وتيسير التواصل بتكلفة جد رخصية، لتتسع بعدها رقعة استعمال الإنترنت، لما لهذا الأخير من دور في تقوية روابط التواصل ما بين الناس. إذ شكل دعامة كبيرة لكل نشاط اجتماعي وأسهم في إثراء حياة البشر الاجتماعية، ولم يعد أحد ينكر الآن العلاقة التي أصبحت تربط الإنترنت بالحياة الاجتماعية. اتسم الحوار التفاعلي الناشئ، الذي خلقته وسائل الاتصال الحديثة، بالحرية وبالوعي وبكونه يمتلكك القدرة على تحسين التواصل الاجتماعي. هذه الخصائص التي اجتمعت فيه جعلته حوارا مرسخا للسلوك الديمقراطي، عمل على أن يشمل أطرافا متعددة من جنسيات متعددة.
 
وغير بعيد عن هذا الموقف، يرى الكاتب والمؤرخ التونسي الحبيب الجنحاني، أن وسائل الاتصال الجماهيرية، بفضل الإنترنت، قد ساهمت في توحيد ثقافات الأمم، وصهرها، على اختلافها، في بوتقة واحدة، فتقربت بهذا الفعل المسافات وتواصلت تلك الثقافات فيما بينها في ظل نظام عالمي جديد أحادي القطب، تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية.
  

هل تعني الأحادية القطبية أن العالم يمشي في اتجاه الأمركة؟
يجيبنا الباحث عبد الخالق عبد الله عن هذا التساؤل بقوله بأن الاقتصاد المعولم لا يعني بتاتا أمركة العالم، على الرغم من استفراد أمريكا بقيادة العالم. ذلك أن العولمة، في تصوره، ليست فرضا لقيم وثقافة مجتمع ما على قيم الثقافات الأخرى. ولا طمسا للهويات وللخصوصيات الحضارية. فهذه الأخيرة، في رأيه، قائمة، وستظل كذلك خلال وما بعد العولمة. يتقاطع، إلى حد ما، رأي عالم الاجتماع الأمريكي جورج ريتزر مع رأي الكاتب عبد الخالق عبد الله، حينما يعتبر أن العالم، بسبب العولمة، يشهد انتقالا نوعيا من الثقيل إلى الناعم، ومن الصلب إلى المتدفق. ذلك أن العولمة تمثيل لتغير بالغ الأهمية طرأ على التاريخ الإنساني وسيرورة تتضمن سيولة متزايدة وتدفقات للبشر والأشياء والأماكن والمعلومات، في الاتجاهات جميعها.

  
تدفع وسائل الاتصال الحديثة الإعلام الرقمي، الذي يبقى له، رغم هذا وذاك، مبادرات ومساع حميدة تسعى إلى دمج الجماعات المهمشة التي لم تجد منبرا حرا للتعبير عن وجهات نظرها
 
نفس الموقف يتبناه الكاتب محمد محفوظ، الذي يعتبر أن العالم دخل عهدا جديدا يشهد انكماشه ويرفع من مستوى ترابطات الأمم والشعوب والثقافات، بفضل هذه الثورة العلمية الرقمية المبتكرة لوسائل اتصال ومعلومات جديدة مؤثرة في بنية المجتمع العالمي المعاصر. عهد يقرب أجزاء العالم أكثر مما يباعد بينها ويساهم في بلورة وعي عالمي جديد مؤثر في القناعات السياسية. فالعولمة حسب هذا الكاتب، نتاج هذا التضاعف المعرفي المهول الذي يسجله التاريخ كل عقد من الزمان.

 
ومن زاوية مناهضة للعنف يرى أمارتيا سن أن المبادرات المدنية تعتبر شيئا لا مندوحة عنه على المستويين الوطني والعالمي، لأنها تشكل ميزات رئيسية للمسارات المدنية نحو بناء سلام عالمي. وهي، بهذا المعنى ترتبط بما يسميه بـ"الحكم بالنقاش" كسلوك ومنهج ديمقراطيين موسعين ينبنيان بالحوار وحرية المعلومات والنقاش الحر ويتجاوزان الإطار الكلاسيكي الذي رسم لهما المحدد بالاقتراع والانتخابات.


وعلى العموم، تدفع وسائل الاتصال الحديثة الإعلام الرقمي، الذي يبقى له، رغم هذا وذاك، مبادرات ومساع حميدة تسعى إلى دمج الجماعات المهمشة التي لم تجد منبرا حرا للتعبير عن وجهات نظرها، عبر نهج أسلوب جديد للمشاركة يأخذ بعين الاعتبار الآراء المهمشة أو الآراء التي تعبر عن وجهة نظر مخالفة. فالتقليل من قيمة فئة وعدم احترام كيانها يكرس فيها الشعور بالظلم الذي له نتائج جد وخيمة على المدى المتوسط والبعيد. فالإرهاب، حسب جورج فردمان، " ليس عدوا وإنما هو نوع من الحروب يمكن للعدو تبنيه أو عدم تبنيه".

 
وكحل لهذا التقاطب لدى مؤيدي ومعارضي العولمة، نستشهد، في الختام، بموقف جميل تجاهه تداعيات العولمة، عبر عنه الباحث محمد محفوظ، بأسلوبه الهادئ والرزين. موقف يكشف عن القوة الحقيقية التي جاء بها الإسلام كدين تسامح وتعادلية ووسطية ومزاوجة عادلة ومنصفة بين الجوانب الروحية والجوانب المادية. يقول الكاتب محمد محفوظ: "إن عملية التزواج بين التركيب والتفكيك في الوعي البشري، والتي قادت إلى إدراك المشترك الإنساني المادي، هي التي أسفرت أيضا عن إدراك المشترك الإنساني المعنوي، وذلك انطلاقا من أنه إذا كان الوعي الإنساني بعناصر البيئة الطبيعية هو الذي صاغ وشكل التطورات الحضارية الكبرى في تاريخ البشرية، وذلك وفقا لمستوى تطور هذا الوعي، فإن البحث عن منشأ هذا الوعي وموجهه، هو الذي سيقود إلى إدراك المشترك الإنساني المعنوي، ولقد قادت عملية التركيب في الوعي الإنساني إلى إدراك أن كل هذا الكون ما هو إلا نتاج لعقل مطلق يمثله الله سبحانه وتعالى، فهو عقل شامل محيط غير محدود".


كما قادت عملية التفكيك في الوعي الإنساني إلى إدراك أن التطور الإنساني ما هو إلا نتاج محدود يمثله الإنسان، وذلك العقل المحدود يكتسب معارفه بالتراكم والتوارث والخبرة والخطأ، فهو عقل جزئي محدود غير شامل وغير محيط. ولقد كان المشترك الإنساني المناسب للقيام بدور الوسيط بين العقل المطلق الذي يمثله الله سبحانه وتعالى، والعقل المحدود الذي يمثله الإنسان، يتمثل في " قيمة الحرية في الاختيار، فالله خلق لنا عقولنا لكي نستخدمها، لكي نختار بها، والقدرة على الاختيار تحمل في جوهرها معنى الحرية، حيث تمثل الحرية قيمة المشترك الإنساني المعنوي القابل لتوصيف العلاقة بين الله والإنسان باعتبار أن الحرية هي الشرط اللازم لصحة إيمان العقل الإنساني المحدود بالعقل الإلهي المطلق، والشرط لشرعية مبدأي الثواب والعقاب الإلهيين. فلا مجال لحساب الإنسان إلا لو امتلك حرية الاختيار بين الخير والشر وبين الخطأ والصواب وبين الكفر والإيمان، وبالتالي فالمشترك الإنساني المعنوي ما هو إلا ناتج عن عملية التركيب التي تقود إلى العقل المطلق أو عملية التفكيك التي تقود إلى العقل المحدود، هو" الحرية الإنسانية " تلك القيمة التي لو تم كبتها ومحاصرتها وتقليصها، لفقد الإنسان الجوهر والمعنى الذي يمنحه التفوق على كافة كائنات الأرض".

نستطيع القول، بناء على هذا الموقف الروحاني الجميل، وتماهيا مع موقف التونسي الحبيبب الجنحاني أن ضحايا العولمة يمكن أن يصبحوا فاعلين أساسيين فوق مسرح النضال الاجتماعي والسياسي. فهناك قوى دولية نزيهة قادرة على تغيير الوجه القبيح للعولمة بوجه مشرق يتجلى في الديمقراطية واحترام الحريات وبناء مؤسسات قائمة على مبادئ إنسانية كونية. فعليها أن تناضل من أجل تحقيق هذا المبتغى عبر دعم العمل السياسي والنضال الاجتماعي العالمي وكبح جماح المضاربات المالية لاقتصاد السوق الذي يشل القدرات الروحية للإنسان المعاصر.