الأحد، 20 أكتوبر 2013

الشخص بوصفه قيمة


 

ا                                                                لشخص بوصفه قيمة

تأطير إشكالي

   القيمة هي خاصية تقديرية ذات أساس معياري أخلاقي و ذاتي ، يفترض إن وجدت في الشيء جعلته إما مرغوبا فيه أو غير مرغوب فيه . و هي بهذا المعنى تتجسد في الأحكام التقديرية الذاتية المتضمنة لمعاني الاستحسان أو لمعاني الاستهجان . كما أنها تعني كل ما يمكن أن نضفيه على الأشياء أو الأشخاص من أحكام تحدد مكانتها بالنسبة لنا ، انطلاقا من مقارنتها بنموذج أسمى .

   فبناء على هذا المعنى للقيمة ، يمكن أن نؤطر هذا المحور من موضوع الشخص ، انطلاقا من اعتبار هذا الأخير يتأرجح وجوده القيمي بين كونه ، من جهة أولى ، يشكل واقعة مادية  نابعة من تصور أداتي يعتمد قيمة الشخص من حيث كونه وسيلة لتكوين معرفة موضوعية عنه ، و من جهة ثانية يشكل كينونة نفسية متميزة نابعة من تصور تأويلي تفهمي ، يعتمد تلك القيمة من حيث اعتبار الشخص غاية في حد ذاته .

   فهذا التصور الأخير يجعل من الشخص ذاتا حقوقية لديها ما يكفي من التبصر الأخلاقي و المسؤولية عن كل ما يصدر عنها من أقوال و أفعال . لأن أساس الوحدة الكلية للشخص هو ذلك البناء الإرادي الذي يكون مؤطرا بقيم المجتمع و نظمه المعيارية التي يرتكز عليها. هذا الإقرار، حتى و إن كان ينفي كل قيمة مطلقة محسوبة على الشخص تريد أن تتجاوز حقوق الغير، فإنه لا يستبعد استقلالية الشخص عن الآخرين ، تلك الاستقلالية التي تكون مستمدة منهم، انطلاقا من مشاركة الشخص معهم .   

    فبين هذين التصورين تكمن إشكالية الشخص بوصفه قيمة . فهل تكمن قيمة الشخص في كونه غاية أو في كونه وسيلة ؟

يجيبنا عن هذه الإشكالية الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ( 1724 – 1804 ) خاصة في كتابه " أسس ميتافيزيقا الأخلاق " حيث يقدم لنا نظرة فلسفية طموحة حول قيمة الشخص يتجاوز من خلالها أطروحة ديكارت . فقيمة الشخص ، بحسبه ، لا تتحدد في فعل التفكير و الوعي بالذات ، ذلك الفعل الذي حاول ديكارت أن يجعل الإنسان به كائنا ساميا فوق جميع الكائنات . فما يجعل الشخص ساميا ، حسب كانط ، هو ما يتمتع به من كرامة و حرية ، حيث لا يعتبر الوعي الفكري سوى مدخل لهما . فاعتبار الشخص كذات لعقل أخلاقي عملي سوف لن يجعل منه وسيلة لتحقيق غايات الآخرين أو غاياته الخاصة ، بل سيجعل منه ذاتا تتجاوز كل سعر ، أي سيجعل منه غاية في حد ذاته .

      فالكرامة ، كقيمة داخلية مطلقة غير مشروطة بضرورات معينة ، تعمل على تحرر الذات من قوانين الطبيعة ، و قد استمدها كانط من محاولته صياغة مبادئ أخلاقية كونية ، التي تضم أوامر قطعية هي ، في الأساس ، أوامر أخلاقية . فالخير بالفعل هو خير بالقصد . و الشخص ، بناء على هذا التصور الكانطي ، هو غاية في ذاته و ليس وسيلة .

     أما الفيلسوف الألماني هيجل ( 1770 – 1830 )  فإنه يعتبر في كتابه " العقل في التاريخ " أن الشخص يستمد قيمته من خلال الامتثال لشعبه ، عبر تمثيله له ، باحتلال مراتب معينة . هذه الأخيرة تكون نتيجة الاختيارات الحرة للشخص .

      فالشخص ، من خلال هذا المعنى ، يشكل عقلا مجردا متميزا عن طبيعته المادية ، إنه وجود غير مباشر ، وعي و حرية و انفتاح على الواقع و على الآخرين ، و ذلك من خلال الدخول في علاقة جدلية أساسها تبادل التأثير و التأثر .   

      بينما يرى الفيلسوف الفرنسي جورج غوسدورف ( 1912 – 2000 ) في كتابه " مقالة في الوجود الأخلاقي " أن قيمة الشخص تكمن في استقلاليته التي يعتبرها تشكل نقطة وصول في مسار طويل في التعلم الذي يخضع له الشخص . هذه الاستقلالية لا يمكن أن تتحقق إلا بواسطة تجليها في أخلاق ملموسة تحدد الجهد المبذول لأجل الوصول إلى الكمال الشخصي . فالشخص الأخلاقي لا يدرك إلا بالمشاركة القابلة لكل وجود نسبي و المتخلية عن كل استكفاء وهمي يدعي القدرة على العيش ماديا و معنويا في معزل عن الآخرين. فهذا هو السبيل الوحيد ، في نظر جورج غوسدورف، الذي يضمن للشخص الانفتاح بذاته عن الكون و استقبال الغير .

      و من زاوية تركيبية لحقول دلالية متعددة فلسفية و اجتماعية و قانونية و سياسية، لصياغة تصور تركيبي موحد حول قيمة الشخص ، يرى الفيلسوف الأمريكي جون راولز ( 1921 – 2002 ) في كتابه الهام " نظرية العدالة " ضرورة انفتاح الشخص على الآخرين و الالتزام بمبادئ الأخلاق و الإيمان بالتعاون و حب الخير و العدالة الاجتماعية .  

      أما قيمة الشخص ، حسب الفيلسوف الفرنسي الشخصاني أمانويل مونيي ( 1905 – 1950 ) فإنها تتحدد باعتباره كائنا مريدا و واعيا يتجاوز بإرادته و وعيه شروط وجوده ، و ليس باعتباره موضوعا خارجيا أو كائنا متطابقا مع ذاته . فالشخص ،عبر آلية التشخصن ، يكتسب سمات شخصيته بحيث يغنيها بتجربته في الوجود ، لأنه ليس معطى جاهزا بل هو عملية اكتساب و مراكمة مستمرة لسماته الخاصة .
      نفس السياق الذي إليه غيمانويل مونييه ، يذهب إليه الفيلسوف المغربي محمد عزيز لحبابي (   ) في كتابه " من الكائن إلى الشخص " . فالشخص هو ذلك الكائن المتميز المعروف بهدفيته ، و المتميز بخصوصيته الفردية و سماته العقلية و الوجدانية و الجسمية الخاصة به وحده ، بحيث لا نستطيع أن نحدده موضوعيا إلى ما يماثله أو يشبهه لأنه شخص متجدد يحيا في المستقبل يشعر دائما بتوتر داخلي و بقوة تدفعه إلى إبداع الشخصية التي يرمي لأن يصبحها

السبت، 19 أكتوبر 2013

الشخص و الهوية


الشخص و الهوية

تقديم الإشكالية

        عندما يتكلم أي شخص، فإنه يستعمل ضميره المتكلم ( أنا ). و هذا يعني أنه و" أناه" يشكلان شيئا واحدا ، أي يشكلان هوية موحدة ، التي تبقى لها استمرارية عبر الزمن ، بحيث يصبح الشخص دائما هو نفس الشخص ، أي هو هو ، بالرغم من التغيرات التي قد تطرأ على مظاهره الخارجية.

        فانطلاقا من هذا المعنى ، سنعتبر أن هذا الشخص هو ذلك الكائن الإنساني الذي يشكل مع أناه وحدة صورية مستقلة عن باقي الشخوص الأخرى ، لها أصالتها و فرادتها النابعتان من تطابق خصائصها مع بعضها البعض ، في مختلف لحظات وجوده.

        لقد درجت الفلسفات الكلاسيكية في العصور الحديثة انطلاقا من ديكارت و ليبنيز و لوك و كانط و هيجل ، على حصر الذات في هذا المعنى الفلسفي الذي يجعل من الحضور و التطابق هو أساس هوية الشخص .

        لكن مع ظهور التحليل النفسي ، لم تعد تلك الوحدة الصورية متماسكة العناصر . لأن السائد هو عنصر التوتر الذي يشوب البنية النفسية للكائن الإنساني ، بدل عنصر الانسجام ، و عامل الصراع و التشظي بدل عامل التماسك بين العناصر . فقد نزع التحليل النفسي عن " الأنا " مركزيتها المطلقة و حاول تقويض تطابقها ، و قدم بذلك تصورا علميا بديلا عن فلسفة الحضور و التطابق ، و ذلك من خلال إحلال تصور جديد يعطي للشخصية دينامية متحركة يكون أساسها الصراع و ليس الثبات .

        فانطلاقا من هذا الإطار العام ، يمكن القول ، أننا أمام تصورين لهوية الشخص ، الأول فلسفي ، يعطي للحضور و للتطابق و للوحدة قيمة أساسية في فهم هذه الهوية ، و الآخر علمي ، يرى على أن التطابق لا يقدم صورة حقيقية عن هذه الهوية الشخصية ، لأنه يخفي عنصر الصراع و التوتر الذي يشوب دائما وحدتها ، مستبعدا كل الجوانب التي تجعل من الشخصية وحدة دينامية عسيرة و لا متناهية التحقق . و هذا هو مبعث إشكالية محور " هوية الشخص " التي يمكن صياغتها وفق التساؤلات التالية :

        ما الشخص ؟ و ما هي هويته ؟ و هل تقوم هذه الهوية على الوحدة و التطابق ، أم على التعدد و التغير ؟

        يرى الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال ، كإجابة عن تساؤلات هذه الإشكالية ، أنه يصعب علينا تحديد هوية الشخص . و مرد ذلك هو أن هذا الشخص الموجود وراء هويته يلبس أقنعة ، فوجوده الذي ننعته بأنه حقيقي و حضوره أمام الناس الذي يفرض به احترامه عليهم ، هو وجود يتقاطع مع الوهم . و السبب ، في  نظر باسكال ، هو أن الناس تحب في الآخرين أجسامهم و أنفسهم ، و هي صفات ( جمال ، جودة الحكم ، قوة الذاكرة ... ) تكون قابلة للزوال. فمن يحبني لا يحبني كذات جوهرية بل يحب فقط صفات معينة أتمتع بها سواء كانت جسمية أو معنوية.

        أما الفيلسوف الفرنسي جول لا شولييه  ، فإنه يعتبر أن الأساس الذي تثبت عليه هوية الشخص هي تلك الوحدة النفسية التي تكون منسجمة العناصر في الزمان و في المكان ، و المتشكلة عبر مراحل حياة هذا الشخص . فرغم ما قد يظهر علي هذه المراحل من مظاهر التغير و التبدل ، فأنها تبقى هوية ثابتة تحكمها آليات ربط نفسية تقوم بمهمة السهر على الحفاظ على وحدة ذلك الشخص . و قد اختزل لاشولييه هذه الآليات في اثنتين و هما : الطبع و الذاكرة .

       فالطبع، هو آلية نفسية ملحقة بالمزاج الشخصي الذي يتطبع به الشخص ليصبح ملازما له و لصيقا به ، فرغم تغير الأعوام و السنين ، يبقى الشخص هو هو . و سبب هذه الهوية الثابتة ليس ، في نظر لاشولييه ، هو ذلك العنصر الثابت فينا أو تلك الأنا الحقيقية الثابتة في دواخلنا ، فلو كان الأمر كذلك لما تبخرت الأنا المتخيلة في النوم عند الاستيقاظ ، أو لما كانت تلك الهوة العميقة بين أنا الأمس و أنا البارحة عند فاقدي الذاكرة ، أو لما حصل تناوب في ذات الشخص بين أنا أول و أنا آخر عند بعض المرضى النفسانيين ، لكن سبب هذه الهوية الثابتة هو تلك الديمومة المرتبطة بهذا الطبع أو هذا المزاج الشخصي ، الذي لا يبقى مستمرا و لا دائما إلا بفضل الآلية الثانية التي هي آلية التذكر . فذكرياتنا تشكل سلسلة مترابطة الأطراف ، و حالتنا النفسية الحالية تتولد من حالتنا النفسية السابقة ، و هذه من تلك ، و بهذه الطريقة يتشكل وعينا التذكري ، و يتحد مع مزاجنا الشخصي ، ليشكلا معا هويتنا الشخصية .

     الهوية الشخصية ، بناء على ما تقدم ، ليست معطى أوليا يقدمه لنا شعورنا ، بل هي مجرد صدى لإدراكاتنا الماضية في إدراكاتنا الحاضرة ، سواء كان هذا الصدى مباشرا أو غير مباشر ، متواصلا أو متقطع . فهويتنا الشخصية هي ، في النهاية ، متشكلة من مجموعة من الظواهر يتذكر بعضها بعضا .   

      أما الهوية عند ديكارت ، فإنها تتحدد انطلاقا من المذهب العقلاني ، الذي يفيد أن العقل هو نور فطري يمثل هو وحده جوهر الذات ، فبدونه لا يمكن للشخص أن يعي وجوده و يبلغ الحقيقة . إذن ، فبناء على هذا التصور الفلسفي العقلاني ، يعتبر ديكارت أن الشخص كائن مفكر ، مريد ، متخيل ، ناف و مثبت ، له إحساس ، لكنه ، في النهاية ، هو كائن يبني معارفه و وجود باقي أشياء هذا العالم المحيط به ، معتمدا على فعل الشك . فّإذا كانت الإرادة و التخيل و الإثبات و النفي و غيرها هي خصائص نابعة من الطبيعة الذاتية للشخص ،فإنها لا تتحقق إلا إذا كانت مرتبطة ارتباطا عضويا بمسألة الوعي بالذات ، و هذا الأخير يكون مرتبطا بفعل الشك . تقوم الأنا المفكرة بفعل الشك لإثبات فعل وجودها أولا و إثبات فعل وجود العالم الخارجي المحيط بها ثانيا . فلا هوية ثابتة ، في نظر ديكارت ، بدون وعي بالأشياء يكون أساسه الوضوح و التميز .

      أما الفيلسوف الإنجليزي جون لوك ، فإنه ينطلق من خلفية فلسفية أساسها المذهب التجريبي الذي لا يرى أن العقل هو جوهر الذات ، لأنه يكون مجرد صفحة بيضاء يستمد من الواقع الخارجي التجريبي أفكاره و معطياته بواسطة التجربة و الحواس . فلا وجود لمبادئ فطرية فيه ، كما يدعي ديكارت ،  فكل ما ينقش عليه يكون مصدره الانطباعات الحسية التي تأتي بها الحواس من العالم الخارجي.

     فبناء على التصور التجريبي يمكن الاهتداء إلى ما يكون الهوية الشخصية في نظر لوك . فالشخص كائن مفكر و وسيلته لبلوغ المعرفة اليقينية هو الشعور غير المنفصل عن الفكر، الذي يكون لديه عن أفعاله الخاصة. فلا معرفة دون مصاحبة دائمة لإحساساتنا و إدراكاتنا . 

     أما الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور ، فإنه يرى أن أساس هوية الشخص ، عند حصول النسيان أو عند الهرم ، هي أرادته الثابتة . فهوية الشخص لا تتوقف على مادة أو صورة الجسم لأنها معرضتان للتلف و التغير في جميع أجزاءهما ما عدا تعبيرات نظرات الوجه . كما أنها لا تفقد تلك الإرادة بسبب الاختفاء المستمر للتذكر . فالهوية المستمدة من التفكير لا تكون هوية حقيقية لأنها مجرد وظيفة بسيطة يقوم بها الدماغ . أما أرادة الحياة المحكومة بالشقاء و التعاسة المختفية وراء الذات العارفة فهي نواة الوجود .

      فالشخص بناء على ما تقدم، لا يخضع حياته لقوانين بل يخضع لإرادة تتجاوزه و تتجلى في رغباته . 

     أما سيغموند فرويد فإنه ينطلق من وجهة نظر تحليلية نفسية للذات الإنسانية ، معتبرا أن هوية الشخص ليست معطى جاهزا بل هو نابع من تصور دينامي للشخصية ككل . هذه الأخيرة هي نتاج صراع بين ثلاث مكونات الشخصية ، يتعلق الأمر ب " الهو " كخزان للمكبوتات و الغرائز و الدوافع اللاشعورية ، و "الأنا الأعلى "  كمجوعة قواعد أخلاقية و قيمية ز معايير يتمثلها الفرد، و  "العالم الخارجي "  كواقع حقيقي يفرض النسق التربوي السائد في المجتمع و جميع القواعد الاجتماعية المؤطرة له.

      ف"الأنا "  يبذل أقصى جهد لديه للتوفيق بين مطالب هذه المكونات المتناقضة ،حيث تبقى مجهوداته هذه ، في أغلب الأحيان ، غير مثمرة . فحين تشتد معاناته يتولد لديه مشاعر القلق عند تلبية الرغبات اللاشعورية المكبوتة للهو ، و يتملكه الإحساس بالدونية و الشعور بالذنب عند مجاراته له و معاندة أوامر الأنا الأعلى . و هذا يدعوه ، للخروج من هذه المأزق ، إلى أن يلجأ إلى نوع من التمويه الدبلوماسي و نوع من الرياء و النفاق على أوامر اللاشعور، مصطنعا الجدية و متظاهرا بأنه متحكم بمجرايات الأمور و ذلك باصطناع تبريرات عديدة للتخفيف من حدة هذا الصراع الدائر بين الهو و الأنا الأعلى . و هذا الصراع بين الأنا و بين هؤلاء السادة الأشداء ، من أجل الحفاظ على تماسكه ، هو الذي يضمن للشخص استقراره النفسي .

الخميس، 17 أكتوبر 2013

الشخص


 

الشخص

تأطير إشكالي

 

        يشير مفهوم الشخص ، على مستوى دلالته اللغوية ، حسب " لسان العرب " لابن منظور ، إلى معاني الظهور و البروز و التعين و التشخصن . كما يشير ، أيضا ، إلى القناع ، كما تحيل إلى ذلك لفظة Persona اللاتينية . هذا المعنى اللغوي المزدوج ، يكشف عن مفارقة واضحة مفادها أن لفظة " الشخص " ترتبط ، من جهة أولى، بالتشخيص المسرحي . فالشخص هو ذلك القناع الذي يستخدمه الممثل ليخفي ملامحه الحقيقية كشخص حقيقي لتختفي وراء " شخوص المسرحية " المفروض عليه تقمصها ، كما أنه ، من جهة أخرى ، هو ذلك الفرد الماثل أمامنا البارز بشخصيته ، أو أيضا ، ذلك الجوهر الكامن في دواخل الإنسان المتميز بوعيه ،و المتحمل  لمسؤولية كل ما يصدر عنه من أقوال و أفعال .

 

       هذه المفارقة التي يقدمها هذا المفهوم ، لغويا ، تدفعنا لكي نطرح التساؤل الإشكالي التالي: كيف يفيد الشخص شيئين متضادين في نفس الوقت : الظهور و التشخصن ، من جهة ، و التنكر و التواري خلف الأقنعة ، من جهة أخرى ? فما الشخص إذن ؟

 

       و للإجابة على هذا التساؤل ، ينبغي مقاربة مفهوم الشخص فلسفيا ، حتى نكون على بينة من خلفياته الفلسفية التي تؤطره .

     

        لقد اقتصر الشخص ، كمفهوم فلسفي ، على الكائن البشري ، دون ان يشمل باقي الكائنات الحية الاخرى . و ينبغي في هذا الإطار ، التمييز بين معنيين لمفهوم الشخص: معنى فلسفي ميتافيزيقي ، و معنى سيكلوجي . فالمعنى الأول يهتم بالذات الإنسانية باعتبارها وحدة صورية بغض النظر عن كل مضمون يشرحها.  و قد ظهرت بوادره مع أفلاطون في نظريته في خلود النفس و تطهيرها من الجسد بواسطة التفكير . كما ظهرت بوادره أيضا مع سقراط من خلال قولته المشهورة " أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك "

 

       لكن مفهوم الشخص لم يتبلور إلا مع فلاسفة العصور الحديثة. فديكارت قد اعتبر الشخص  "أنا مفكر " مرتكز على الذات الحرة المتمتعة باستقلاليتها  الفكرية الأصيلة . أما الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط  فقد اعتبره مبدأ مؤسسا لكل أخلاق يمتثل عبرها الشخص ، بشكل مطلق ، لنداء للواجب و لروح المسؤولية .

 

       أما المعنى الثاني لهذا المفهوم ، فهو سيكولوجي ، الذي انصب جهده على إبراز سمات و صفات" الأنا " محاولا  تمييزها عن سمات و صفات" أنا " أخرى.

 

       يتوفر مفهوم الشخص على هوية نابعة إما من فكره أو إحساسه أو نابعة من ما هو داخلي فيه كإراداته و حريته و كرامته. هذه الهوية هي محط نقاش فلسفي دار حول مقوماتها و أساسياتها ،الذي قد يفترض إما وجود أنا ماهوية ثابتة كما قد يفترض ذاتا تطبعها الدينامية أو يفترض رؤية تحليلية نفسية تنزع عن تلك الأنا مركزيتها و تقوض تطابقها مع نفسها.

 

       كما يتوفر مفهوم الشخص أيضا على قيمة يستمدها من كفاءته الفكرية ، كذات تتوفر على معارف ، أو يستمدها من ذاته الحقوقية المتشبعة بأخلاق المسؤولية و الواجب . فهذه القيمة المعطاة للشخص ، حتى و إن كانت مطلقة فهي لا تتجاوز وضعها إلى حقوق الغير.

 

      غير أن الشخص ، رغم توفره على هوية و على قيمة خاصتين به ، فهو ينتمي إلى جماعة بشرية و يتعايش معها وفق شروط موضوعية تحد من حريته تجعله يدرك أن وجوده يكون مشروطا بضرورات وحتميات ، فهل يعني هذا أن لا مكان للحرية في حياته ، ام يعني أن حريته تكون محدودة بالمشروع الذي يكون من إبداعه و من صنعه ؟ فما السبيل ، إذن ، إلى تجاوز تلك المحددات و تلك الشروط الموضوعية لتحقيق هوية حقيقية ليستعيد بها الشخص قيمته و يمارس حريته ؟

 

      للاجابة عن هذا التساؤل المركزي حول مفهوم الشخص ، يقتضي منا مقاربته :

-          أولا على مستوى هويته  .

-           و ثانيا على مستوى قيمته .

-          و ثالثا على مستوى حدوده ، أي على مستوى تأرجحه بين الضرورة و الحرية .

الثلاثاء، 15 أكتوبر 2013

مجزوءة الوضع البشري


                                             مجزوءة الوضع البشري

تقديم

     إذا أردنا أن نقدم تعريفا لمفهوم "الوضع البشري " ، ينبغي علينا أن
نعتبره مفهوما فلسفيا يحصر الذات البشرية و يحددها في مختلف مستويات الوجود و
 أبعاده المختلفة البيولوجية و النفسية و الاجتماعية و التاريخية .

    هذه الأبعاد جعلت الوجود البشري يتسم بالتعقيد مع استحالة فهم جوهره والتحكم فيه ، و بالتالي وضعت الإنسان أمام ازدواجية لا مفر من ترتيباتها ، وأشرطته بسلسة من الضرورات و الحتميات :  فقد جعلته يكون ،من جهة أولى ، الكائن الوحيد وسط هذه الكائنات ، الذي يستطيع اختيار نمط وجوده في هذا العالم بفضل ما يمتلكه من تفكير و وعي  ، و بفضل ما ينسجه من علاقات اجتماعية التي يقوم بتطويرها باستمرار ، و  جعلته يكون ، من جهة ثانية مقابلة ، ذاتا غير منعزلة تعيش مع الآخرين و خاضعة لللإكراهات و للظروف المحيطة بها .

     انطلاقا من هذا الوضع ، يتحدد الإنسان من خلال مستويين : ذاتي و آخر موضوعي .
     ففي المستوى الأول ، يبرز بوصفه شخصا أخلاقيا و حقوقيا له اختيارات ، تعتبر بمثابة مشروع ، يحاول ساعيا بواسطته مواجهة الظروف الخارجية المحيطة به ، إما بالرفض و إما بالقبول و إما بالتجاوز.
     أما في المستوى الثاني ، فإن اختياراته تتقلص ، بسبب دخوله القسري في
علاقات و تفاعلات مع الغير . فإما أن يرسيها على أسس متينة فتجعل منه هذه
الوضعية ، كائنا اجتماعيا و تاريخيا تضفي على المجتمع و على التاريخ معنى ما، و
إما أن يرسيها على أسس واهية فتجعل منه هذه الوضعية ، كائنا محكوم بإشراطاتها
و حتمياتها القاهرة الطامسة لذاته و حريته و إرادته و فاعليته في المجتمع و
التاريخ .  

     فالوجود البشري ، إذن ، و انطلاقا مما تقدم ، يعني في جوهره تقاطع مجموعة
من الشروط و الأبعاد :  منها ما هو فردي شخصي ، و منها ما هو علائقي يربط
الشخص  بالغير ، و منها ما هو زماني يجعل من الإنسان كائنا مرتبطا بتاريخه. 

     و هكذا ، و بناء عليه ، يظهر الكائن البشري كفرد، بمظهر الشخص ذو الوحدة السيكولوجية و الوجدانية و العقلية ، كما يظهر أيضا بمظهر ذلك الكائن الحر و المتمتع بالإرادة و بالكرامة ، المستقل بذاته ، و المتطور و النامي بشكل تدريجي و متصاعد ، و  المتميز عن باقي الكائنات الأخرى باكتسابه للوعي و للغة . لكنه ، في نفس الوقت ، يظهر أيضا ككائن مشروط بمحددات بيولوجية و اجتماعية لاواعية تكبل إرادته الميالة بطبعها إلى التحرر . فقد اقتضت  سيرورة تطوره كشخص أن تكون مشروطة بوجود الغير، و  مشروطة أيضا، كسيرورة نفسية طويلة الأمد ، بمحيطه السوسيو- ثقافي الذي ينتمي إليه. فلا وجود ، إذن ، و الحالة هذه ،  لشخص بدون أغيار يتقاسمون و يؤسسون معه الحياة الاجتماعية . فالشخص و الغير يشكلان معا جزء من هذا النظام الجماعي المبني على أسس اقتصادية و سياسية و ثقافية الذي يسمى بالمجتمع .

     فالوضع البشري ، الذي قمنا ، الآن ، بعرض أهم خصائصه فلسفيا ، يجعلنا أمام
تقابلات ،و مفارقات ، و بالتالي يضعنا أمام إشكاليتين فلسفيتين ، إشكالية الشخص و
إشكالية الغير .
    و هكذا سنتساءل في الأولى عن الشخص في مستوياته الثلاثة : هويته ، قيمته،و تأرجحه بين الحرية و بين الحتمية . بينما نتساءل في الثانية عن الغير في مستوى
وجوده و مستوى معرفته و مستوى العلاقات الممكنة التي يمكن أن ننسجها معه .

     فما الشخص  إذن؟ و ما الأساس الذي تقوم عليه هويته ؟ و بأي معنى يمكن
اعتباره ذو قيمة معرفية و أخلاقية ؟ و هل له القدرة على التحرر من إكراهات
الضرورة و الحتمية ؟ و هل يمكن تصوره معطى ثابتا أم يمكن تصوره ذاتا متطورة و
مبدعة ؟
    و ما الغير ؟ و هل يشكل وجوده بعدا أساسيا في حياتنا ؟ وهل يمكن إقامة
معرفة ممكنة عنه ؟ و ماهي طبيعة العلاقة معه ؟ هل يشوبها التكامل  أم الصراع 
مع الذات ؟  
هوامش : اعتمدنا في بناء هذا الدرس الفلسفي على المراجع االمدرسية التالية  :
مباهج الفلسفة . مسلك الآداب و العلوم الإنسانية الثانية باكالوريا . افريقيا الشرق  ص  : 9
منار الفلسفة . مسلك الآداب و العلوم الإنسانية الثانية باكالوريا . افريقيا الشرق ص  : 9
في رحاب الفلسفة . مسلك الآداب و العلوم الإنسانية الثانية باكالوريا . افريقيا الشرق ص ص :  8 -9