السبت، 19 أكتوبر 2013

الشخص و الهوية


الشخص و الهوية

تقديم الإشكالية

        عندما يتكلم أي شخص، فإنه يستعمل ضميره المتكلم ( أنا ). و هذا يعني أنه و" أناه" يشكلان شيئا واحدا ، أي يشكلان هوية موحدة ، التي تبقى لها استمرارية عبر الزمن ، بحيث يصبح الشخص دائما هو نفس الشخص ، أي هو هو ، بالرغم من التغيرات التي قد تطرأ على مظاهره الخارجية.

        فانطلاقا من هذا المعنى ، سنعتبر أن هذا الشخص هو ذلك الكائن الإنساني الذي يشكل مع أناه وحدة صورية مستقلة عن باقي الشخوص الأخرى ، لها أصالتها و فرادتها النابعتان من تطابق خصائصها مع بعضها البعض ، في مختلف لحظات وجوده.

        لقد درجت الفلسفات الكلاسيكية في العصور الحديثة انطلاقا من ديكارت و ليبنيز و لوك و كانط و هيجل ، على حصر الذات في هذا المعنى الفلسفي الذي يجعل من الحضور و التطابق هو أساس هوية الشخص .

        لكن مع ظهور التحليل النفسي ، لم تعد تلك الوحدة الصورية متماسكة العناصر . لأن السائد هو عنصر التوتر الذي يشوب البنية النفسية للكائن الإنساني ، بدل عنصر الانسجام ، و عامل الصراع و التشظي بدل عامل التماسك بين العناصر . فقد نزع التحليل النفسي عن " الأنا " مركزيتها المطلقة و حاول تقويض تطابقها ، و قدم بذلك تصورا علميا بديلا عن فلسفة الحضور و التطابق ، و ذلك من خلال إحلال تصور جديد يعطي للشخصية دينامية متحركة يكون أساسها الصراع و ليس الثبات .

        فانطلاقا من هذا الإطار العام ، يمكن القول ، أننا أمام تصورين لهوية الشخص ، الأول فلسفي ، يعطي للحضور و للتطابق و للوحدة قيمة أساسية في فهم هذه الهوية ، و الآخر علمي ، يرى على أن التطابق لا يقدم صورة حقيقية عن هذه الهوية الشخصية ، لأنه يخفي عنصر الصراع و التوتر الذي يشوب دائما وحدتها ، مستبعدا كل الجوانب التي تجعل من الشخصية وحدة دينامية عسيرة و لا متناهية التحقق . و هذا هو مبعث إشكالية محور " هوية الشخص " التي يمكن صياغتها وفق التساؤلات التالية :

        ما الشخص ؟ و ما هي هويته ؟ و هل تقوم هذه الهوية على الوحدة و التطابق ، أم على التعدد و التغير ؟

        يرى الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال ، كإجابة عن تساؤلات هذه الإشكالية ، أنه يصعب علينا تحديد هوية الشخص . و مرد ذلك هو أن هذا الشخص الموجود وراء هويته يلبس أقنعة ، فوجوده الذي ننعته بأنه حقيقي و حضوره أمام الناس الذي يفرض به احترامه عليهم ، هو وجود يتقاطع مع الوهم . و السبب ، في  نظر باسكال ، هو أن الناس تحب في الآخرين أجسامهم و أنفسهم ، و هي صفات ( جمال ، جودة الحكم ، قوة الذاكرة ... ) تكون قابلة للزوال. فمن يحبني لا يحبني كذات جوهرية بل يحب فقط صفات معينة أتمتع بها سواء كانت جسمية أو معنوية.

        أما الفيلسوف الفرنسي جول لا شولييه  ، فإنه يعتبر أن الأساس الذي تثبت عليه هوية الشخص هي تلك الوحدة النفسية التي تكون منسجمة العناصر في الزمان و في المكان ، و المتشكلة عبر مراحل حياة هذا الشخص . فرغم ما قد يظهر علي هذه المراحل من مظاهر التغير و التبدل ، فأنها تبقى هوية ثابتة تحكمها آليات ربط نفسية تقوم بمهمة السهر على الحفاظ على وحدة ذلك الشخص . و قد اختزل لاشولييه هذه الآليات في اثنتين و هما : الطبع و الذاكرة .

       فالطبع، هو آلية نفسية ملحقة بالمزاج الشخصي الذي يتطبع به الشخص ليصبح ملازما له و لصيقا به ، فرغم تغير الأعوام و السنين ، يبقى الشخص هو هو . و سبب هذه الهوية الثابتة ليس ، في نظر لاشولييه ، هو ذلك العنصر الثابت فينا أو تلك الأنا الحقيقية الثابتة في دواخلنا ، فلو كان الأمر كذلك لما تبخرت الأنا المتخيلة في النوم عند الاستيقاظ ، أو لما كانت تلك الهوة العميقة بين أنا الأمس و أنا البارحة عند فاقدي الذاكرة ، أو لما حصل تناوب في ذات الشخص بين أنا أول و أنا آخر عند بعض المرضى النفسانيين ، لكن سبب هذه الهوية الثابتة هو تلك الديمومة المرتبطة بهذا الطبع أو هذا المزاج الشخصي ، الذي لا يبقى مستمرا و لا دائما إلا بفضل الآلية الثانية التي هي آلية التذكر . فذكرياتنا تشكل سلسلة مترابطة الأطراف ، و حالتنا النفسية الحالية تتولد من حالتنا النفسية السابقة ، و هذه من تلك ، و بهذه الطريقة يتشكل وعينا التذكري ، و يتحد مع مزاجنا الشخصي ، ليشكلا معا هويتنا الشخصية .

     الهوية الشخصية ، بناء على ما تقدم ، ليست معطى أوليا يقدمه لنا شعورنا ، بل هي مجرد صدى لإدراكاتنا الماضية في إدراكاتنا الحاضرة ، سواء كان هذا الصدى مباشرا أو غير مباشر ، متواصلا أو متقطع . فهويتنا الشخصية هي ، في النهاية ، متشكلة من مجموعة من الظواهر يتذكر بعضها بعضا .   

      أما الهوية عند ديكارت ، فإنها تتحدد انطلاقا من المذهب العقلاني ، الذي يفيد أن العقل هو نور فطري يمثل هو وحده جوهر الذات ، فبدونه لا يمكن للشخص أن يعي وجوده و يبلغ الحقيقة . إذن ، فبناء على هذا التصور الفلسفي العقلاني ، يعتبر ديكارت أن الشخص كائن مفكر ، مريد ، متخيل ، ناف و مثبت ، له إحساس ، لكنه ، في النهاية ، هو كائن يبني معارفه و وجود باقي أشياء هذا العالم المحيط به ، معتمدا على فعل الشك . فّإذا كانت الإرادة و التخيل و الإثبات و النفي و غيرها هي خصائص نابعة من الطبيعة الذاتية للشخص ،فإنها لا تتحقق إلا إذا كانت مرتبطة ارتباطا عضويا بمسألة الوعي بالذات ، و هذا الأخير يكون مرتبطا بفعل الشك . تقوم الأنا المفكرة بفعل الشك لإثبات فعل وجودها أولا و إثبات فعل وجود العالم الخارجي المحيط بها ثانيا . فلا هوية ثابتة ، في نظر ديكارت ، بدون وعي بالأشياء يكون أساسه الوضوح و التميز .

      أما الفيلسوف الإنجليزي جون لوك ، فإنه ينطلق من خلفية فلسفية أساسها المذهب التجريبي الذي لا يرى أن العقل هو جوهر الذات ، لأنه يكون مجرد صفحة بيضاء يستمد من الواقع الخارجي التجريبي أفكاره و معطياته بواسطة التجربة و الحواس . فلا وجود لمبادئ فطرية فيه ، كما يدعي ديكارت ،  فكل ما ينقش عليه يكون مصدره الانطباعات الحسية التي تأتي بها الحواس من العالم الخارجي.

     فبناء على التصور التجريبي يمكن الاهتداء إلى ما يكون الهوية الشخصية في نظر لوك . فالشخص كائن مفكر و وسيلته لبلوغ المعرفة اليقينية هو الشعور غير المنفصل عن الفكر، الذي يكون لديه عن أفعاله الخاصة. فلا معرفة دون مصاحبة دائمة لإحساساتنا و إدراكاتنا . 

     أما الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور ، فإنه يرى أن أساس هوية الشخص ، عند حصول النسيان أو عند الهرم ، هي أرادته الثابتة . فهوية الشخص لا تتوقف على مادة أو صورة الجسم لأنها معرضتان للتلف و التغير في جميع أجزاءهما ما عدا تعبيرات نظرات الوجه . كما أنها لا تفقد تلك الإرادة بسبب الاختفاء المستمر للتذكر . فالهوية المستمدة من التفكير لا تكون هوية حقيقية لأنها مجرد وظيفة بسيطة يقوم بها الدماغ . أما أرادة الحياة المحكومة بالشقاء و التعاسة المختفية وراء الذات العارفة فهي نواة الوجود .

      فالشخص بناء على ما تقدم، لا يخضع حياته لقوانين بل يخضع لإرادة تتجاوزه و تتجلى في رغباته . 

     أما سيغموند فرويد فإنه ينطلق من وجهة نظر تحليلية نفسية للذات الإنسانية ، معتبرا أن هوية الشخص ليست معطى جاهزا بل هو نابع من تصور دينامي للشخصية ككل . هذه الأخيرة هي نتاج صراع بين ثلاث مكونات الشخصية ، يتعلق الأمر ب " الهو " كخزان للمكبوتات و الغرائز و الدوافع اللاشعورية ، و "الأنا الأعلى "  كمجوعة قواعد أخلاقية و قيمية ز معايير يتمثلها الفرد، و  "العالم الخارجي "  كواقع حقيقي يفرض النسق التربوي السائد في المجتمع و جميع القواعد الاجتماعية المؤطرة له.

      ف"الأنا "  يبذل أقصى جهد لديه للتوفيق بين مطالب هذه المكونات المتناقضة ،حيث تبقى مجهوداته هذه ، في أغلب الأحيان ، غير مثمرة . فحين تشتد معاناته يتولد لديه مشاعر القلق عند تلبية الرغبات اللاشعورية المكبوتة للهو ، و يتملكه الإحساس بالدونية و الشعور بالذنب عند مجاراته له و معاندة أوامر الأنا الأعلى . و هذا يدعوه ، للخروج من هذه المأزق ، إلى أن يلجأ إلى نوع من التمويه الدبلوماسي و نوع من الرياء و النفاق على أوامر اللاشعور، مصطنعا الجدية و متظاهرا بأنه متحكم بمجرايات الأمور و ذلك باصطناع تبريرات عديدة للتخفيف من حدة هذا الصراع الدائر بين الهو و الأنا الأعلى . و هذا الصراع بين الأنا و بين هؤلاء السادة الأشداء ، من أجل الحفاظ على تماسكه ، هو الذي يضمن للشخص استقراره النفسي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق