الشخص و الهوية
تقديم الإشكالية
عندما يتكلم أي شخص، فإنه يستعمل ضميره المتكلم ( أنا ). و هذا يعني أنه
و" أناه" يشكلان شيئا واحدا ، أي يشكلان هوية موحدة ، التي تبقى لها استمرارية
عبر الزمن ، بحيث يصبح الشخص دائما هو نفس الشخص ، أي هو هو ، بالرغم من التغيرات
التي قد تطرأ على مظاهره الخارجية.
فانطلاقا من هذا المعنى ، سنعتبر أن هذا الشخص هو ذلك الكائن الإنساني الذي
يشكل مع أناه وحدة صورية مستقلة عن باقي الشخوص الأخرى ، لها أصالتها و فرادتها
النابعتان من تطابق خصائصها مع بعضها البعض ، في مختلف لحظات وجوده.
لقد درجت الفلسفات الكلاسيكية في العصور الحديثة انطلاقا من ديكارت و
ليبنيز و لوك و كانط و هيجل ، على حصر الذات في هذا المعنى الفلسفي الذي يجعل من
الحضور و التطابق هو أساس هوية الشخص .
لكن مع ظهور التحليل النفسي ، لم
تعد تلك الوحدة الصورية متماسكة العناصر . لأن السائد هو عنصر التوتر الذي يشوب البنية
النفسية للكائن الإنساني ، بدل عنصر الانسجام ، و عامل الصراع و التشظي بدل عامل
التماسك بين العناصر . فقد نزع التحليل النفسي عن " الأنا " مركزيتها
المطلقة و حاول تقويض تطابقها ، و قدم بذلك تصورا علميا بديلا عن فلسفة الحضور و
التطابق ، و ذلك من خلال إحلال تصور جديد يعطي للشخصية دينامية متحركة يكون أساسها
الصراع و ليس الثبات .
فانطلاقا من هذا الإطار العام ، يمكن القول ، أننا أمام تصورين لهوية الشخص
، الأول فلسفي ، يعطي للحضور و للتطابق و للوحدة قيمة أساسية في فهم هذه الهوية ،
و الآخر علمي ، يرى على أن التطابق لا يقدم صورة حقيقية عن هذه الهوية الشخصية ،
لأنه يخفي عنصر الصراع و التوتر الذي يشوب دائما وحدتها ، مستبعدا كل الجوانب التي
تجعل من الشخصية وحدة دينامية عسيرة و لا متناهية التحقق . و هذا هو مبعث إشكالية
محور " هوية الشخص " التي يمكن صياغتها وفق التساؤلات التالية :
ما الشخص ؟ و ما هي هويته ؟ و هل تقوم هذه الهوية على الوحدة و التطابق ،
أم على التعدد و التغير ؟
يرى الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال ، كإجابة عن تساؤلات هذه الإشكالية ، أنه
يصعب علينا تحديد هوية الشخص . و مرد ذلك هو أن هذا الشخص الموجود وراء هويته يلبس
أقنعة ، فوجوده الذي ننعته بأنه حقيقي و حضوره أمام الناس الذي يفرض به احترامه
عليهم ، هو وجود يتقاطع مع الوهم . و السبب ، في نظر باسكال ، هو أن الناس تحب في الآخرين
أجسامهم و أنفسهم ، و هي صفات ( جمال ، جودة الحكم ، قوة الذاكرة ... ) تكون قابلة
للزوال. فمن يحبني لا يحبني كذات جوهرية بل يحب فقط صفات معينة أتمتع بها سواء
كانت جسمية أو معنوية.
أما الفيلسوف الفرنسي جول لا شولييه ، فإنه يعتبر أن الأساس الذي تثبت عليه هوية
الشخص هي تلك الوحدة النفسية التي تكون منسجمة العناصر في الزمان و في المكان ، و
المتشكلة عبر مراحل حياة هذا الشخص . فرغم ما قد يظهر علي هذه المراحل من مظاهر
التغير و التبدل ، فأنها تبقى هوية ثابتة تحكمها آليات ربط نفسية تقوم بمهمة السهر
على الحفاظ على وحدة ذلك الشخص . و قد اختزل لاشولييه هذه الآليات في اثنتين و هما
: الطبع و الذاكرة .
فالطبع، هو آلية نفسية ملحقة بالمزاج الشخصي الذي يتطبع به الشخص ليصبح
ملازما له و لصيقا به ، فرغم تغير الأعوام و السنين ، يبقى الشخص هو هو . و سبب
هذه الهوية الثابتة ليس ، في نظر لاشولييه ، هو ذلك العنصر الثابت فينا أو تلك
الأنا الحقيقية الثابتة في دواخلنا ، فلو كان الأمر كذلك لما تبخرت الأنا المتخيلة
في النوم عند الاستيقاظ ، أو لما كانت تلك الهوة العميقة بين أنا الأمس و أنا
البارحة عند فاقدي الذاكرة ، أو لما حصل تناوب في ذات الشخص بين أنا أول و أنا آخر
عند بعض المرضى النفسانيين ، لكن سبب هذه الهوية الثابتة هو تلك الديمومة المرتبطة
بهذا الطبع أو هذا المزاج الشخصي ، الذي لا يبقى مستمرا و لا دائما إلا بفضل
الآلية الثانية التي هي آلية التذكر . فذكرياتنا تشكل سلسلة مترابطة الأطراف ، و
حالتنا النفسية الحالية تتولد من حالتنا النفسية السابقة ، و هذه من تلك ، و بهذه
الطريقة يتشكل وعينا التذكري ، و يتحد مع مزاجنا الشخصي ، ليشكلا معا هويتنا
الشخصية .
الهوية الشخصية ، بناء على ما تقدم ، ليست معطى أوليا يقدمه لنا شعورنا ،
بل هي مجرد صدى لإدراكاتنا الماضية في إدراكاتنا الحاضرة ، سواء كان هذا الصدى
مباشرا أو غير مباشر ، متواصلا أو متقطع . فهويتنا الشخصية هي ، في النهاية ،
متشكلة من مجموعة من الظواهر يتذكر بعضها بعضا .
أما الهوية عند ديكارت ، فإنها تتحدد انطلاقا من المذهب العقلاني ، الذي
يفيد أن العقل هو نور فطري يمثل هو وحده جوهر الذات ، فبدونه لا يمكن للشخص أن يعي
وجوده و يبلغ الحقيقة . إذن ، فبناء على هذا التصور الفلسفي العقلاني ، يعتبر
ديكارت أن الشخص كائن مفكر ، مريد ، متخيل ، ناف و مثبت ، له إحساس ، لكنه ، في
النهاية ، هو كائن يبني معارفه و وجود باقي أشياء هذا العالم المحيط به ، معتمدا على
فعل الشك . فّإذا كانت الإرادة و التخيل و الإثبات و النفي و غيرها هي خصائص نابعة
من الطبيعة الذاتية للشخص ،فإنها لا تتحقق إلا إذا كانت مرتبطة ارتباطا عضويا
بمسألة الوعي بالذات ، و هذا الأخير يكون مرتبطا بفعل الشك . تقوم الأنا المفكرة
بفعل الشك لإثبات فعل وجودها أولا و إثبات فعل وجود العالم الخارجي المحيط بها
ثانيا . فلا هوية ثابتة ، في نظر ديكارت ، بدون وعي بالأشياء يكون أساسه الوضوح و
التميز .
أما الفيلسوف الإنجليزي جون لوك ، فإنه ينطلق من خلفية فلسفية أساسها
المذهب التجريبي الذي لا يرى أن العقل هو جوهر الذات ، لأنه يكون مجرد صفحة بيضاء
يستمد من الواقع الخارجي التجريبي أفكاره و معطياته بواسطة التجربة و الحواس . فلا
وجود لمبادئ فطرية فيه ، كما يدعي ديكارت ، فكل ما ينقش عليه يكون مصدره الانطباعات الحسية
التي تأتي بها الحواس من العالم الخارجي.
فبناء
على التصور التجريبي يمكن الاهتداء إلى ما يكون الهوية الشخصية في نظر لوك .
فالشخص كائن مفكر و وسيلته لبلوغ المعرفة اليقينية هو الشعور غير المنفصل عن
الفكر، الذي يكون لديه عن أفعاله الخاصة. فلا معرفة دون مصاحبة دائمة لإحساساتنا و
إدراكاتنا .
أما الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور ، فإنه يرى أن أساس هوية الشخص ، عند
حصول النسيان أو عند الهرم ، هي أرادته الثابتة . فهوية الشخص لا تتوقف على مادة
أو صورة الجسم لأنها معرضتان للتلف و التغير في جميع أجزاءهما ما عدا تعبيرات
نظرات الوجه . كما أنها لا تفقد تلك الإرادة بسبب الاختفاء المستمر للتذكر .
فالهوية المستمدة من التفكير لا تكون هوية حقيقية لأنها مجرد وظيفة بسيطة يقوم بها
الدماغ . أما أرادة الحياة المحكومة بالشقاء و التعاسة المختفية وراء الذات
العارفة فهي نواة الوجود .
فالشخص بناء على ما تقدم، لا يخضع حياته لقوانين بل يخضع لإرادة تتجاوزه و
تتجلى في رغباته .
أما
سيغموند فرويد فإنه ينطلق من وجهة نظر تحليلية نفسية للذات الإنسانية ، معتبرا أن
هوية الشخص ليست معطى جاهزا بل هو نابع من تصور دينامي للشخصية ككل . هذه الأخيرة
هي نتاج صراع بين ثلاث مكونات الشخصية ، يتعلق الأمر ب " الهو " كخزان
للمكبوتات و الغرائز و الدوافع اللاشعورية ، و "الأنا الأعلى " كمجوعة قواعد أخلاقية و قيمية ز معايير يتمثلها
الفرد، و "العالم الخارجي " كواقع حقيقي يفرض النسق التربوي السائد في
المجتمع و جميع القواعد الاجتماعية المؤطرة له.
ف"الأنا " يبذل أقصى جهد
لديه للتوفيق بين مطالب هذه المكونات المتناقضة ،حيث تبقى مجهوداته هذه ، في أغلب
الأحيان ، غير مثمرة . فحين تشتد معاناته يتولد لديه مشاعر القلق عند تلبية
الرغبات اللاشعورية المكبوتة للهو ، و يتملكه الإحساس بالدونية و الشعور بالذنب
عند مجاراته له و معاندة أوامر الأنا الأعلى . و هذا يدعوه ، للخروج من هذه المأزق
، إلى أن يلجأ إلى نوع من التمويه الدبلوماسي و نوع من الرياء و النفاق على أوامر
اللاشعور، مصطنعا الجدية و متظاهرا بأنه متحكم بمجرايات الأمور و ذلك باصطناع
تبريرات عديدة للتخفيف من حدة هذا الصراع الدائر بين الهو و الأنا الأعلى . و هذا
الصراع بين الأنا و بين هؤلاء السادة الأشداء ، من أجل الحفاظ على تماسكه ، هو
الذي يضمن للشخص استقراره النفسي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق