كتبهاعبد الجبار الغراز ، في 25 يونيو 2010 الساعة: 00:35 ص
" الإعاقة الفكرية " و آلية إنتاج المجتمع المدبلج
عبد الجبار الغراز
لا أقصد ب" الإعاقة الفكرية " ذلك المفهوم الذي يشير إلى
الخلل الذي يصيب أحد مكونات الجهاز العصبي فيترك أثرا بارزا يؤثر على سائر وظائف
عناصر البنية الدماغية للفرد ككل , فهذا المفهوم لديه أناسه من أهل الاختصاص سواء
في مجال الطب العقلي أو في مجال طب الأعصاب الذين قدموا مختلف الدراسات العلمية
القيمة لمعرفته أحسن معرفة , و لكن أقصد به نلك الفعالية و ذلك النشاط اللذان
يحاربان العقل و يساهمان , بشكل كبير , في طمس أو تدمير أطره الفكرية الخلاقة و
المبدعة الحاثة على إعمال التفكير النقدي . ومن أجل ذلك اقتضى التحديد
المفهومي النظر إلى " الإعاقة الفكرية " على أنها مفهوم يعبر عن سيرورة ديناميكية
متصاعدة في اتجاه مضاد , تماما , لاتجاه العقل و أطره الفكرية .
فإذ كان العقل البشري قد أنتج , عبر
فعالياته الذهنية, أسمى لغة تجريدية ( الرياضيات ) وأنتج , أيضا , طاقة تخييلية
حولت الخام إلى مصطنع , وأضافت الثقافي إلى الطبيعي و المكتسب إلى الفطري حيث أصبحت
تدخل في تركيبته وضمن أطره البنيوية الأساسية , و التي أثبت بفعلها نجاعته الفكرية
في ميادين لم تكن , في الماضي القريب , تحسب عليه , كالموسيقى و الشعر و الرقص و
العلاقات البين _ فردية … كما أكدت لنا نظرية " تعدد الذكاءات " ل"هوارد غاردنر " ,
فإن " الإعاقة الفكرية " قد أنتجت في المجتمع المغربي " ثقافة التضبيع " " ثقافة
التسطيح " و ثقافة التكلاخ " انطلاقا مما يقدمه إعلامنا المرئي هذه الأيام من أفلام
و مسلسلات مدبلجة .
وحتى نفهم جيدا ," الإعاقة الفكرية " و نضعها في إطارها
الصحيح , سنحددها تحديدا خاصا , يخدم فكرة هذا المقال المركزية التي يلخصها عنوانه
أعلاه . وهكذا سنعتبرها نتاجا لمنظومات فكرية قائمة الذات تعمل , عبر الاشتغال
على وسائل معينة , على شل قدرات العقل البشري الطبيعية الخلاقة , بشكل مباشر أو غير
مباشر. و من بين تلك المنظومات نجد الإعلام في شقه المرئي , الذي سنتطرق إليه
باعتباره خطابا يتجه إلى فئة الأطفال و فئة الشباب , مبرزين كيفية تسببه في خلق
إعاقة فكرية لديهما بالشكل الذي طرحنا أعلاه .
"الإعاقة الفكرية " إذن , هي قدرة
خارجية جبارة , سلطت على العقل واقتحمت بنيته الداخلية , بدون سابق إعلام , و عملت
, بشكل بطيء و تدريجي , على شل قدراته و أطره العليا , كالقدرة على التحليل و
التركيب و القياس و الاستنتاج و المقارنة و الحجاج و غيرها من القدرات , التي من
المفروض إبرازها و تنميتها لدى أطفالنا و شبابنا بدل طمسها .
فبناء على هذا التحديد يمكن فهم
الأهداف , التي يسطره الإعلام المغربي , عبر ما يقدمه جزءه المرئي من خطابات
مباشرة و غير مباشرة . و التي تتلخص في العمل على توحيد الأذواق و تنميط الشخصيات
وفق أسلوب استهلاكي واحد , بشكل يجعل التلفزيون , مثلا , يعمل , كما يقول بيار
بورديو , على إنتاج " صناعة ثقافية استهلاكية " و التحكم في شبكات نشرها , التي سعى
الخبراء و أهل الاختصاص في مجال الإشهار إلى التفكير في تطويرها لتغدو , في ظرف
زمني وجيز , قوة اقتصادية مجتاحة لكل الأقطار و عابرة , و بدون استئذان , لكل
الحدود .
فأمام البعد الكوني لهذه التحديات المفروضة من قبل عولمة
اقتصادية و أخرى ثقافية , أصبحنا نرى في مجتمعنا المغربي , كيف يتم شل قدرات
أطفالنا و شبابنا الفكرية و الإبداعية على مرئى و مسمع منا دون تحريك أي ساكن , لما
نجد أطفالنا " مسمرين " لساعات طوال أمام الشاشة الصغيرة و قد ابتلعتهم برامجها
السخيفة , أو نجد شبابنا يبحر في متاهات الإنترنيت , دون حسيب و لا رقيب , جاهلين
مخاطره و الزلات التي قد يقعون فيها كنتيجة لإبحار بدون شواطئ .
لقد تراجع , في المجتمع المغربي ,
بشكل ملحوظ و خطير دور البيت التربوي . ذلك الدور الذي سيجنب هؤلاء الأطفال و
هؤلاء الشباب مخاطر وسائل إعلام قد جرفتها تيارات اقتصاد سوق معولم , و لم تعد
تميز بين الغث و السمين أثناء تقديمها لبرامجها المسببة لإعاقة فكرية مزمنه . ذلك
الدور الذي يحث الأطفال على مراجعة الدروس و إنجاز الواجبات المنزلية . فالبيت
المغربي أصبح , و للأسف الشديد , مكانا للتلاقي الميكانيكي لأجساد بلا أرواح
. مكانا لاحتكاك كتلات مادية من شحم و لحم و عظم بلا تفاعلات حقيقية للعقول و
للمشاعر و للأحاسيس الدافئة . فلم يعد لدى الآباء و الأمهات القدرة على فهم ما
يجري و ما يدور في أدمغة و عقول أطفالهم فلذات أكبادهم , كما لم يعد لدى الأطفال
ذلك "الانصياع الطفولي" الذي يجعلهم متقبلين لانتقادات الوالدين . فالانتساب
للعائلة أصبح ,الآن , في خبر كان ! لقد حل محله انتساب
آخر : انتساب الأطفال للتلفزيون و الإنترنيت . فالأسلوب الإيحائي التنويمي
المغناطيسي الذي يسلكه الإعلام المرئي جعل الأطفال ينسلخون عن عالمهم الحقيقي
للدخول إلى عوالم افتراضية تبعدهم , وجدانيا و عاطفيا , عن أسرهم و تجعلهم يعيشون
في فراغ نفسي و روحي فظيعين . فطغيان الصورة الرقمية , أضعف ميكانيزماتهم الدفاعية
, و جعلهم , بالتالي , غير قادرين على الاستفادة و الاستمتاع بخيرات كل تواصل عائلي
حقيقي . أصبح البيت إذن , كما المدرسة , مكانا لتجسيد إعاقة فكرية ممنهجة ترسخ
التبعية و السلبية و الخضوع لسطوة الشاشة الصغيرة على كل العقول, في أبشع معانيها
.
والذي يصدق على البيت و الأسرة يمكن أن
يصدق أيضا على المدرسة . فلم يعد المدرس , مثلا , في فصله الدراسي , قادرا على
تطويق مشكل الفشل الدراسي أو مشكل استيعاب تلامذته لمضامين الدروس بسبب عدم
استساغتهم لها , ناهيك عن أنها تقدم لهم بوسائل جد عتيقة . لكن , في المقابل
, نراهم يستسيغون المادة الإعلامية " المسمومة " التي تعرضها عليهم وسائل
الإعلام المرئية , لأنها تقدم بوسائل جد متطورة زيادة على اعتمادها على الصوت و
الصورة و المؤثرات الأخرى التي تثير الحواس و تجذب العقل !
لا يمكن , في نظرنا , على كل حال , اعتبار ,
التلقين و الحفظ و الاستظهار … , تلك الأساليب العتيقة في التدريس , و المطبقة ,
لحد الساعة , في مدارسنا التعليمية , أسبابا جوهرية تحدد تأخر منظومتنا التعليمية
عن الركب و التطور الذي تعيشه أمم أخرى , بل ينبغي اعتبارها نتاجا حتميا للوضعية
المتأزمة التي تعيشها منظومتنا التعليمية . فالسبب الحقيقي لهذه الأزمة هو عدم
تكييف البرامج و المناهج و أساليب التلقي مع التطور الحاصل في المحيط القريب
للتلميذ : فالطفل المغربي , كباقي أطفال الألفية الثالثة , يتعامل في البيت مع أحدث
التقنيات التي تمدها له تكنولوجيا الإعلام , و يتفاعل , بشكل طبيعي , مع معطيات عصر
تطغى فيه الصورة و الصوت , بشكل صارخ , لكن نجده , في المقابل , لا يعثر
على ضالته حين تواجده في الفصل الدراسي بسبب النقص المهول في تلك التكنولوجيا الذي
تعاني منه مدارسنا . فالسبورة السوداء المتآكلة و الطباشير الملون و غير الملون و
المقاعد المصفوفة وفق تراتبية معينة ,و بيداغوجية " هل فهمتم ؟ " العقيمة , أصبحت ,
الآن , كائنات غريبة على محيط ينتمي لجيل مدرسة النجاح . ذلك الجيل الذي أريد له أن
يكون رائدا في كل شيء . جيل يشكل بديلا لطفولة منهكة أجهدها التركيز و أتعبها طول
الشرح الممل للدروس من طرف أستاذ تعوزه الوسائل في إيصال رسالته أحسن إيصال .
فأمام البعد الكوني لهذه التحديات , أصبحنا
نرى , أيضا , كيف يتم تسطيح وعي شبابنا , انطلاقا من السموم التي تنفثها وسائل
الإعلام , خاصة المرئية , عبر ما تقدمه لهم من أفلام و مسلسلات مدبلجة , و برامج
ترفيهية و مهرجانات تروج لثقافة التفاهة الخالية من أي مضمون ثقافي هادف يساهم في
تكوين و نحث الشخصيات القادرة على بناء المستقبل المشرق , بمباركة منا كآباء و
أمهات و مربين . ففي ظل الانعكاسات الخطيرة لاقتصاد السوق على مستقبل الثقافات
المحلية و الوطنية و المجتمعات العالمثالثية , بدأنا نرى و نعيش , عبر ما تقدفه
المسلسلات المدبلجة من سموم , كيف ينهار ما كان بالأمس القريب , ثابتا من الثوابت ,
و كيف يؤول مصير ما كان معتقدا راسخا . فقد أصبح مستقبل المجتمع المغربي وأجياله
القادمة منفتحا على كل الاحتمالات . فسيأتي يوم ستحل أسماء مثل رودريكو و ألفريدو و
بيدرو و ديابلو محل عبد الله و عمر و سعيد و فاطمة . حينها سيغدو المجتمع المغربي ,
جراء ذلك , مجتمعا مدبلجا بامتياز قد أتلفت نسخته الأصلية !!!
يستمر مسلسل " الإعاقة الفكرية " و
التضبيع و التسطيح و تمتد فصوله الدراماتيكية لتصل بأطفالنا إلى ضفاف نهر المراهقة
. و ما ادراك ما المراهقة !!!
تميل شخصية المراهق , شأنها شأن
شخصية الطفل , طبيعيا , إلى المعرفة , سواء كانت تلك المعرفة تتعلق بذاته أو بمحيطه
السوسيوثقافي أو بمختلف تجلياتهما وأبعادهما الأخرى الإنسانية و الكونية . وهذا
الأمر يقتضي منه استنفار جهد فكري و روحي كبيرين , لتعبئة مختلف موارده الطبيعية و
الثقافية قصد بناء شخصية قوية , و التي قد تجد ضالتها في النهل من مختلف العلوم و
الرؤى الفلسفية و الآداب و الفنون و غيرها .
فإذا كانت المراهقة هي تأكيد
للذات و ميل بالشخصية نحو الاستقلالية , كما تؤكد ذلك
أدبيات التحليل السيكولوجي و السوسيولوجي , و إنتاج لما يسميه " تالكوت بارسونز " ,
ب"الثقافة الفرعية " التي تنبني , سلوكيا و فكريا على فكر بديل رافض للمجتمع و قيمه
و نظمه السائدة و أنماطه السلوكية , فإن " الإعاقة الفكرية " تتجلى هنا في التوظيف
الإيديولوجي و الاستغلال العنيف لهذه الفترة العمرية من حياة الإنسان من طرف وسائل
الإعلام المرئية , عبر تحويلها إلى مجرد موضات ثقافية , لا أقل و لا أكثر .
ونحن نعيش أجواء العرس المونديالي
, فذلك مناسبة نتعرف بواسطتها أين يكمن الوجه الأكثر عنفا لوسائل الإعلام .
فالأعلام قد صرف المراهق المغربي عن قضاياه الجوهرية و أزماته الحقيقية التي يعيشها
في وسطه الاجتماعي و الاقتصادي الفقير , و جعله رهينة " ديمومة ارتباطية "
Interconnectivité مع مغريات عصره . هكذا تسعى الشبكة
العنكبوتية و القنوات التلفزية إلى خلق فضاء بديل للعالم الحقيقي تقدمه للمراهقين و
المراهقات , فضاء خال من الحروب و الأزمات و الويلات التي تعصف بالكيانات . فضاء
حيث يتم فيه فبركة عالم مليء بالمتع وبالرغبات و اللذات الحسية , اعتمادا على الخدع
الادراكية و إثارة للمشاعر و الانفعالات القوية التي من شأنها تشويه الصور المدركة
في العقول عن طريق اللجوء إلى الإشهار و أفلام الحركة و عالم النجومية . فصنع
الرغبات هذا, المنبئ , وهميا , بالرفاه و ببحبوحة العيش , يضعف لدى المراهق , كما
رأينا مع الطفل , أناه الدفاعية و قدرتها على تحليل وتركيب الرسائل المشفرة لخطاب
الصورة .إضعاف تلك الملكة الذهنية الخلاقة القادرة على خلق مسافة ممكنة و معقولة
بين ما يقدمه الإعلام المرئي من خطابات ملغومة , وبين الذات المستقبلة له قصد تفكيك
مختلف رموزها و تأويل ادعاءاتها ونواياها المبطنة .
لا وقت , إذن , لدى
المراهق و المراهقة للتفكير و استيعاب الأمور لاتخاد المواقف الصحيحة والحسم في
الأمور و القضايا الجوهرية و البناءة . فإمطاره في البيت بسيل من المسلسلات و
المقابلات في كرة القدم و الأفلام المدبلجة : المكسيكي و البرازيلي و الهندي و
التركي و الكوري … و إغراقه في الشارع و الفضاءات العمومية بمهرجانات تتلون بألوان
فصول السنة ( تيميتار , موازين , كناوة , العيطة … ) باسم الثقافة و الغنى الثقافي,
هو, لعمري, تكريس كبير لانفصام الشخصيات. فالإعاقة الفكرية , التي نحن بصدد تحليلها
و مناقشتها هي جوهر الشلل الذي بدأ يدب في جسمنا الثقافي المغربي المريض أصلا ,
دون أن نجد له الدواء الشافي , قبل فوات الأوان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق