الأحد، 28 أبريل 2013

كرنفالات فاتح ماي .. نحو تأسيس خطاب مناهض لعنف الشغل


كرنفالات فاتح ماي .. نحو تأسيس خطاب مناهض لعنف الشغل

 

   بقلم : عبد الجبار الغراز

        

      تتظاهر الشغيلة في كل أرجاء المعمور في اليوم الأول من شهر ماي من كل سنة  ، احتفالا بعيد الشغل . فهذا العيد الأممي  يشكل بالنسبة إليها فرصة للاحتفال  و الاعتزاز بمختلف الإنجازات الكبيرة التي تم تحقيقها ، و في نفس الوقت يشكل فرصة للتعبير عن مطالبها المشروعة و العادلة في تكريس العدالة الاجتماعية و المنصفة و تحقيق المساواة .  

     و نحن في هذه المناسبة السعيدة ، نقف وقفة المتأمل في كل ما يرمز إليه هذا العيد الأممي من دلالات و معان . و لعلها أهمها ينصب ، على المستوى الفلسفي ، على نقد مفاهيم تتاخم مفهوم الشغل كمفهوم مركزي ، يتعلق الأمر بمفهومي  "الاستلاب " و  " الحرية " . فبين هذين المفهومين تتشكل مسيرة نضالية كبيرة تجمع بين كل الأطياف من عمال و مثقفين و طلبة و هيئات نقابية و جمعيات حقوقية،  تحاول بعزم و طموح تجاوز تلك الوضعيات التي يفرزها واقع الشغل في كل أرجاء العالم ، مكرسة خطابا مضادا و مناهضا لخطاب الشغل ، الذي يتأرجح بين اعتباره  يشكل عامل  استيلاب و في  اعتباره ، في مقابل ذلك ، يشكل عامل تحرر .

 

      فكل التعريفات الفلسفية و الأنثروبولوجية التي حددت الإنسان قد عبرت عن جانبين إثنين ، الأول واع و الثاني  لاواع . فالجانب الأول فقد أظهرت فيه الإنسان على أنه كائن قد انسلخ عن مملكة الحيوان بفضل ما يتميز به من عقل و وعي . و هذا شأن الفلسفات الكلاسيكية ابتداء من أرسطو ( الإنسان حيوان ناطق ) و مرورا بالفلسفة الإسلامية مع ابن رشد و انتهاء بالفلسفة الحديثة مع ديكارت و هيوم و كانط و فيخته و هيجل . أما الجانب الثاني فقد أظهرت فيه الإنسان على أنه كائن  تتحكم فيه غرائز و رغبات و أهواء و تتجاذبه ميولات لاواعية و هذا شان  ماركس في نقده للإيديولوجيا كوعي زائف و نيتشه في نقده للوعي السطحي ، و مدرسة التحليل النفسي مع فرويد في تحليلها لبنية اللاشعور، والوجودية السارترية  في نقدها للعقل ،  و مدرسة فرانكفوت في نقدها للإنسان المعاصر . و كتوفيق بين النظريات الكلاسيكية و النظريات المعاصرة في فهم جوهر الإنسان ، يمكن القول مع الفيلسوف الألماني الماركسي  إرنست بلوك أن الإنسان لديه حاجات نابعة من رغباته المتعددة . و الحاجات هي بطبيعتها تعبير عن عوز و نقص ، فهي لا تتحقق إلا ارتبطت تلك الرغبات بالإرادة الواعية  التي ينبغي لها أن تتوفر لديها وسائل التنفيذ  " فلا وجود لإرادة غير مسبوقة برغبة قابلة للتنفيذ " .

   

       فبناء على هذا التأطير العام،  يمكن القول  أن الإنسان لا يتحدد في جوهره كإنسان إلا من خلال خاصية ملازمة له ، ألا وهي خاصية الشغل ،  تلك الخاصية التي جعلت منه كائنا فاعلا و مبدعا قام بتحويل الطبيعة ، كمادة خام ، إلى عناصر صناعية قابلة للاستعمالات لمتعددة .

  

       لقد عبرت ظاهرة الشغل عن مفارقة فلسفية تضمنت تقابلا جعل ، بالتالي ، من  الشغل ، من جهة أولى ، فاعلية إنسانية تقود الإنسان نحو الإبداع و الابتكار و بالتالي نحو التحرر ، و من جهة ثانية ، جعل منه أداة سيطرة و تبعية و عبودية . و هذا التقابل  يدفعنا إلى طرح  التساؤلات التالية :

 

       ما الشغل ؟  و لماذا يعتبر في نظر العديد من المفكرين و الفلاسفة ، فاعلية إنسانية و خاصية ماهوية مرتبطة فقط بالنوع الإنساني دون باقي أنواع الكائنات الأخرى ؟ و هل يمكن الحديث ، في إطار التقسيم الاجتماعي و التقني للعمل ، عن استيلاب  الإنسان جراء شعوره بنوع من الاغتراب و الغربة عن منتوج عمله المسلوب منه ؟ هل يمكن إدخال الشغل في خانة الإيجابيات أم في خانة السلبيات ؟ بمعنى آخر : هل الشغل هو أداة استعباد و سيطرة و تبعية ، أم هو عامل يسعى إلى تحرير الإنسان من تلك الطاقة السلبية الكامنة فيه ؟  و بأي معنى يمكن فهم أن الشغل يشكل عامل تحرر ،  يسترد بواسطته الإنسان ذاته و حريته  و كرامته المسلوبتين ؟

 

       يعتبرالشغل ظاهرة تتسم بالتعقد . و وجه تعقد هذه الظاهرة يتجلى في كونها ، في نفس الوقت ظاهرة فلسفية و سياسية و اقتصادية و سوسيولوجية  . فقد ارتبطت هذه الظاهرة أولا بالإنسان و ثانيا بالمجتمع البسيط في تركيبته العضوية، و ثالثا   بمستوى معين من تطور هذا المجتمع  التقني و الإنتاجي . و قد استطاع الإنسان بفضلها أن يصون كرامته و يحقق إنسانيته و آدميته . و لكن ، و في المقابل ، اعتبرت هذه الظاهرة عنصر استيلاب و أداة اغتراب تمحي وجود هذا الإنسان  و تطمس هويته .

 

        لقد اختلف عدد كبير من المفكرين و الفلاسفة حول الغايات و الدوافع الرئيسية التي جعلت الإنسان يعمل ، و بالتالي ينسلخ بفعل ذلك عن مملكة الحيوان التي كان ينتمي إليها منذ أزمان سحيقة . فالبعض منهم قد اعتبر أن الشغل هو استجابة عضوية لتجدد الطاقة لدى الكائن الإنساني حتى يضفي طابع الاستمرارية على حيويته و نشاطه. بينما اعتبره البعض الآخر ، استغلالا للجهد العضلي و الفكري من أجل الكسب أو ضمان لقمة العيش واستجابة لدوافع نفسية لانتزاع الاعتراف من المجتمع أو إثبات الذات . كما أن ،  البعض الآخر اعتبره نشاطا منظما و مهيكلا و ممأسسا غايته تحقيق الجودة و مراكمة الثروات و الزيادة في الإنتاج لتحقيق الرخاء الاقتصادي و الازدهار الاجتماعي و الاستقرار السياسي . فبفضله راكم الإنسان تجارب إنسانية ساعدته على سرعة التكيف مع المستجدات التي يفرضها محيطه . لكن و بالرغم من كل هذه الاختلافات في تحديد دوافع الشغل ، فقد أجمع الكل أن الشغل يشكل ، و بكل المقاييس ، الظاهرة الإنسانية بامتياز كبير.

 

       عادة ما يتم الحديث عن حيوانات تشتغل، كالنمل و النحل و العنكبوت مثلا ، لكن ، حسب ماركس، تلك الحيوانات لا تشتغل، لأن ما تقوم به من أعمال يعتبر شيئا آليا نابعا من صميم غريزتها . فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك خاصية الشغل . و قد ظهرت هذه الأخيرة  كنتيجة تفكير مسبق عن كل إنجاز . فبفضلها تمثل الإنسان مواد الطبيعة و أعطاها صورة تفيد حياته. الشغل إذن ، بحسب هذا المعنى الماركسي، هو فعل قد أثر على الطبيعة الخارجية و غيرها ، وبقيامه بذلك فقد غير أيضا حتى الطبيعة الإنسانية ذاتها .

 

        لكن هذا المظهر الأولي للشغل الذي ظهر كعنصر محرر للإنسان من جور الطبيعة و جبروتها ، لم يصمد مع ظهور الأزمنة الحديثة ، التي ارتبط اسمها بنهضة شاملة قد مست جميع الهياكل و البنيات السياسية و الاقتصادية و الفكرية في أوربا . نتيجة تطور النظام الرأسمالي كنسق انبنى على  الملكية الفردية لوسائل الإنتاج وعلى الربح السريع و والعمل المأجور و الوفرة في الإنتاج و الاستهلاك و التوسع و الاستغلال ، فقد تحول الشغل من أداة لتحقيق الرخاء و الازدهار و التقدم في جميع الميادين ، إلى قوة استيلاببية تستنزف العامل و تحوله إلى مجرد قوة عمل تستغل جهده .

  

        فإذا كان تقسيم الشغل  وسيلة ناجعة للزيادة في الإنتاج و الاستهلاك و تحقيق المردودية و الرفاه ، كما عبر عن ذلك آدم سميت ، فإنه  في المقابل من ذلك ،  قد أدى إلى تدمير الماهية الحقيقية للإنسان التي تكمن في حريته و كرامته و استقلاليته . العضلي و النفسي مقابل أجر زهيد . فالفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه يكشف لنا أن الشغل ما هو إلا أداة قوية و جبارة تعمل " بلا هوادة على عرقلة تطور العقل و الغرائز و الإحساس بالاستقلالية ". فالشغل بهذا المعنى  يشكل  قوة مضادة تستنفذ قوة الإنسان الساعية إلى الحيوية ، و" هدف يؤمن الإشباع السهل و المنتظم " فالأمن الذي أصبحنا نعشقه كما لو كان من طبيعة إلهية ، يقول نيتشه، دائما يسود في الأماكن التي يكون فيها العمل شاقا و متواصلا

  

       و إذا كان الشغل ، حسب ميشال فوكو قد نشأ كتحد طبيعي للموت ، و للندرة و تقلص موارد العيش ، بحيث اعتبر ، في هذا الصدد ، إيذانا بالبحث عن آليات جديدة لاستخراج ما تزخر به الطبيعة من خيرات ، فأنه حسب ، هيبرت ماركيوز ، قد حول الإنسان المعاصر و اختزله ، مع تطور علمنا التكنولوجي ، إلى مجرد آلة تعمل و تستهلك و تساهم في تسريع وتيرة منظومة الإنتاج و الاستهلاك و الإبقاء عليها كما هي .

 

       أما السوسيولوجي الفرنسي  جورج فريدمان فإنه يعتبر أن إدخال نظام الآلية في شكله المكثف في صناعة مجتمعات استهلاكية  قد أخل ، بالتوازن النفسي للإنسان ، كما هدد مصيره الروحي . فإذا كان الشغل قد شكل في أصله عنصر تحرير و تحرر للإنسان فإن آلياته الجديدة التي أصبح يعمل بها ، و التي فرضها هذا النظام ، لا تسمح عمليا بتحقيق تلك الحرية المنشودة. فتبسيط الشغل قد أدى إلى اختزاله في حركات تافهة يكررها العامل  تبعث على الملل و الرتابة المبلدة للذهن، و الانحدار به إلى مستوى الحيوانية . فأوقات الفراغ التي يقضيها العامل خارج الشغل تعتبر مجرد وظائف حيوانية : الأكل ، النوم ، التوالد .  

 

      و كتخريج عام ، يمكن القول مع جان بول سارتر أن الإنسان لا يستطيع أن يحقق حريته المنشودة في عمله الذي يقوم به إلا من خلال الوعي بهذا الاستعباد في عمله ، ، سواء كان هذا العمل  في مصنع أو في عيادة أو في جامعة ...   و هذا لعمري ، هو جوهر المظاهرات التي تقام في فاتح ماي . فإذا كان الشغل يعمل على كبح جماح رغبات الإنسان في التحرر و الاستقلال الذاتي ، فإن مناهضته مرهونة بجودة الخطاب الشعبي و العالم ( بكسر اللام ) المناهض لعنف الشغل .

 

algharrazabdeljebbarblogspot.blogspot.com