جاهلية القرن الواحد و العشرين
كتبهاعبد الجبار الغراز ، في 3 فبراير 2011 الساعة: 23:31 م
أريد أن أسجل , منذ
البداية , أن ما حدث , أمس الأربعاء , في ميدان التحرير حيث يجتمع آلاف الشباب
المصري في تظاهرة سلمية تطالب الرئيس المصري محمد حسني مبارك بالتنحي عن السلطة
, من أعمال العنف و البلطجة التي قام بها مؤيدو الرئيس , من بوليس سري و أعضاء من
الحزب الوطني الحاكم , يعتبر جريمة نكراء يستنكرها كل ضمير إنساني حي . جريمة يمكن
نعتهها بأنها جاهلية القرن الواحد و العشرين مورست ضد أشخاص عزل لم يقترفوا أي ذنب
سوى أنهم طالبوا بتغيير سياسي على أرضهم يعيد لهم كرامتهم التي اغتصبت منذ ثلاثة
عقود .
لقد كنت أتابع على
الشاشة الصغيرة , بفخر و اعتزاز , كأي مواطن عربي يحمل هم التغيير و يؤمن بالحرية و
الديمقراطية و العدالة الاجتماعية , وعيناي مشدوهتان إلى هاته النخبة الشبابية
المباركة التي حطمت كل الحواجز و كل الموانع و تخلصت من عقدة الخوف التي كانت تحجب
عنها الرؤية الواضحة للأمور التي تعنيها , و تفجرت فجأة طاقتها الكامنة فيها
مستلهمة ما جرى في تونس من مواجهة للظلم و الاستبداد . و كنت أدعو الله , في سري و
في علني , أن يحفظ هذه الانتفاظة الشعبية المباركة التي حدثت في مصر , من كل مكروه
, متمنيا لها النجاح لتحقيق ما كانت تصبو إليه من تطور و ازدهار و ارتقاء حضاري
. فمصر بالنسبة لي كانت هي ذلك البلد المحوري الذي كانت تدور في
فلكه كل شعوبنا العربية , فهي البلد الرمز الذي كان يصبو , زمان الثورة الناصرية ,
إلى الانعتاق و الحرية و الازدهار .
تعيش الانتفاضة المصرية
المباركة ضد النظام السياسي الحالي يومها العاشر , و الرئيس حسني مبارك ما يزال
مصرا على تشبته بالحكم رغم التظاهرة المليونية التي نظمت الثلاثاء المنصرم و التي
أعطت إشارة واضحة لهذا النظام المباركي المتعنث , أنه غير مرغوب فيه من قبل أطياف
واسعة من الشباب المصري .
الشارع المصري يرسل , عبر
انتفاظته السلمية , رسالة مباشرة للرئيس المصري, و أيضا لباقي حكام العرب , الذين
لم يستوعبوا جيدا الدروس و العبر التي تقدمها هذه الانتفاظة الشبابية المبهرة و
مفادها أن الدول و الأمم تتأسس و تتقوى بشعوبها و ليس بحكامها . و أن مصدر السلطات
هو الشعب . فالديمقراطية الحقيقية هي حكم الشعب لنفسه , و ليس بهذه البلطجة وهذه
الثورة المضادة التي شاهدناها أمس , و التي أشعل نار فتنتها أشخاص مجهولون ,
محسوبون على النظام , كانوا يسعون إلى تفريق الجموع الغفيرة المرابطة في ميدان
التحرير , بالعصي و السكاكين و السيوف .
لقد قدم الشعب المصري
الأبي , خلال عشرة أيام من المظاهرات أصدق مثال , قل نظيره في ايامنا هذه , عن
الانضباط و التحلي بروح المسؤولية العالية , و ذلك من خلال تشكيل الشباب المتظاهر
للجان شعبية مهمتها تقديم المساعدات و تنظيم حركات المرور في الشوارع و في الطرقات
. فكم هو عجيب و كم هو غريب أن ترى شياب مثقل بهمومه و أوضاعه المزرية التي تسببت
فيها سياسات غير مدروسة , يستجيب بشكل عفوي , للتعاون مع أجهزة الشرطة في تنظيم
إيقاعات المرور . شيء جميل جدا أن نرى و أن نسمع عن هذا التنطيم الراقي لهؤلاء
للشباب . لكن , و يا للأسف , نراه يقابل بالبلطجة و التخويف لتفويت الفرصة عليه في
أن يستنشق عبير الحرية و الكرامة و الاتصاف و العدل . إنه لشيء مخجل أن يشاهد
العالم هذا الذي جرى اأمس في ميدان التحرير , بعد أتسجيله انطباعات جد ايجابية تحسب
لصالح الشارع المصري .
تستبد بي أسئلة عفوية , بعد هذا الذي شاهدته من عنف و عتف مضاد , و
أريد أن أطرحها وهي كالتالي : ألآ يستحق مثل هذا الشباب الراقي في سلوكه , أن
يقود المرحلة الحالية نحو مصر المستقبل : مصر الجديدة ؟؟؟ أليست مصر في حاجة إلى
هؤلاء الشباب الذين برهنوا للعرب وللعالم أجمع , أنهم رجال و نساء هذه المرحلة .
برهنوا أن التغيير لا يمكن أن يكون إلا جذريا . ذلك التغيير السياسي الراديكالي
الذي سيخلخل كل التوابث و كل الأركان التي أقيم عليها صرح مجتمعي , منذ عقود خلت ,
كانت تفوح منه روائح العفن و النتانة ؟؟؟ إن هذا الشباب المصري المتظاهر الذي حافظ
على ممتلكات بلده في هذه الأوقات العصيبة , من خلال تشكيله للجان شعبية,
والتي تتبعنا تنسيقاتها العالية فيما بينها , هو الذي يستحق أن يكون لديه
كامل الحق في امتلاك المشروعية في ترتيب الأوضاع في مصر المحروسة بعد رحيل و
ترك حسن مبارك للسلطة , و لا يمكن , في كل الأحوال , مقارنته بتلك الشرذمة التي
حاولت خنق و إسكات صوته بقوة الحديد و النار .
فالاعتداء على
المتظاهرين من طرف شرطة نزعت زيها الرسمي و لبست لباسا مدنيا , مستعينة بالجمال و
بالأسلحة البيضاء لتفريق المظاهرات وقمع حركة تحرير الشعب المصري , قد ساهم , بشكل
كبير , في إسقاط مشروعية حسني مبارك باعتباره رئيس دولة و تدنت ,
بفعل هذا العمل الذي يمكن نعته بجاهلية القرن الواحد و العشرين, قيمته في أعين شعبه
و في أعين العالم بأسره , و أصبح نظامه, بعد كل هذه البلطجية الممنهجة, نظاما
متآكلا .
أما هذه الانتفاظة الشعبية المصرية فهي تعتبر في نظر الكثير من
المتتبعين من أعظم الثورات الخلاقة في التاريخ المعاصر , لأنها حاولت , من خلال
عفويتها , تجاوز الأنماط التقليدية التي عرفتها ثورات العالم .
فمثل هؤلاء الشباب الواعد لن يقبل أن تمرر عليه هكذا إصلاحات و
ترميمات سياسية جزئية لا تمس البنيات الراكدة في عمقها , لأنها تغييرات سياسية توهم
أكثر مما تقدم حلولا حقيقية للمشكلات و للمعضلات التي يعاني منها المجتمع المصري .
فمظاهرات شباب مصر , لا تنادي بالاصلاح و الترميم , بل هي مظاهرات تطالب
باستراتيجية جديدة في إدارة الحكم ,لم يعد يستوعبها نظام حسني مبارك , لأن رؤيته في
إدارة الأمور السياسية للبلد لم تعد تنسجم و التطلعات المستقبلية لهؤلاء الشباب
المتظاهر , فدعوة المجتمع الدولي له إلى تسريع انتقال سلمي للسلطة , يكشف بوضوح أن
هذا النظام أصبح الأن عبئا ثقيلا على الشعب المصري . فما على الرئيس إلا الاستجابة
لمطالب شعبه و الرحيل اليوم قبل الغد .
عبد
الجبار الغراز
المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية و
الاقتصادية الرابط : http://www.democraticac.com/ar/2010-01-19-15-02-05/5559-2011-02-05-16-56-26
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق