حاجتنا إلى الفلسفة .. حاجتنا إلى التفلسف
عبد الجبار الغراز
كتبهاعبد الجبار الغراز ، في 31 ديسمبر 2009 الساعة: 23:20 م
تعقيبا على المقال الصادر تحت عنوان : " تدريس
الفلسفة في مغرب الألفية الثالثة " بجريدة " المساء " الرائدة
,للأستاذ المصطفى مرادا عدد 999 يوم الثلاثاء 08 دجنبر 2009 , أقول
بأن منهاج الفلسفة المعمول به حاليا, يروم , في نهاية المشوارالتعلمي
للمتعلمبن و المتعلمات , أن ينخرط هؤلاء في " إنتاج الخطاب الفلسفي و تداوله شفهيا
و كتابة " انطلافا من تحقيق كفايات استراتيجية و تواصلية و منهجية و ثقافية .. و
لكنه , في اعتقادنا الشخصي , لا يروم في أن ينخرط هؤلاء الشباب , بعد التخرج و
الدخول إلى معترك الحياة العامة و المهنية و الخاصة , انخراطا حقيقيا ,
ذلكالانخراط الذي يجعل من التفلسف و مقاصده , قيمة القيم .
وهنا,في هذا الصدد, ينبغي طرح
التساؤلات التالية:
_هل استطاع المتعلمون و المتعلمات أن
يعبئوا مختلف الموارد والمعارف الفلسفية و يستثمروا المكتسب الفلسفي و التجربة
المعرفية و الروح النقدية و الثقافة العقلانية التي أمدهم إياها الدرس الفلسفي طوال
سنوات التمدرس بالثانوي التأهيلي لتكون جهاز مناعة , تقيهم ويلات هذا العصر الذي
يتحكم فيه الاقتصاد المعولم ؟؟؟
_ فإذا سلمنا , مثلا , أن دارس الفلسفة في
الباكالوريا قد احتك بمختلف جوانب الوضع البشري , على سبيل المثال , على
المستويات النفسية و الاجتماعية و التاريخية و الحضارية في أبعادها الإنسانية ,
اعتمادا على معينات ديداكتيكية معينة ( نصوص فلسفية , شرح , مناقشة … ) فهل يحق لنا
أن نقول أن الدرس الفلسفي قد نجح في أن يخلق ذلك التفاعل الإيجابي و البناء بين
المتعلم (ة) و محيطه ؟؟؟
_ و هل استطاع, أيضا, أن يزوده بتلك الآليات الفكرية
التي تساعده على تفكيك البنيات المعقدة التي بات يتسم بها واقعه ؟؟؟
_ وإلى أي حد توفق المتعلم , عبر هذا الدرس الفلسفي
, في أن يخلق المسافة الممكنة بينه و بين ماضيه الحضاري و ثقافته وموروثه الذي
ينتمي إليه , الذي يجهل عنه الكثير , لفهم إشكاليات عصره , اتقاء شرور المظاهر
الاستيلابية التي أصبحت موضة هذا العصر المعولم ؟؟
تساؤلات باتت تطرح نفسها , و بإلحاح , على كل
متتبع لما آل إليه مستقبل التدريس ببلادنا , على العموم , و تدريس الفلسفة على
الخصوص , لا ندعي أننا نستطيع أن نجيب عنها , بقدر ما نستطيع أن نلفت عناية
القارئ الكريم إلى خطورة ما تحمله من أفكار , و جسامة غموض الآفاق التي تشير إليها
.
فإذا كان من أبرز رهانات التربية و التكوين , كما
تفضل الأستاذ مصطفى مرادا بذكره في مقاله المهم , هو الانكباب , على " ترسيخ قيم
التعايش و المواطنة و حقوق الإنسان ثقافة و سلوكا " خصوصا بعد أحداث 16 ماي 2003
الإرهابية , وتمرير خطابات الفكر الحداثي الأنواري , عبر دروس معينة , و من جملتها
دروس الفلسفة , فإن هذه الرهانات لن تكسب بالشكل المطلوب و المرغوب فيه , ما لم
يؤخذ بعين الجدية , الإدماج الفعلي للفلسفة و الفكر الإسلاميين , في المناهج و
البرامج الجديدة .
فالشكل الذي تظهر به الفلسفة الإسلامية , حاليا , عبر
نصوص فلسفية , لفلاسفة مسلمين , مبتورة عن سياقاتها , تجعل مدرس الفلسفة , أمام
إكراهات التدبير الزمني , وتدبير أنشطة التعليم و التعلم , عاجزا عن الاستفاضة في
الشرح و إعطاء صورة عامة للمتعلم (ة) , تربط المفاهيم المركزية في النص المدروس
بمختلف سياقاته التاريخية و الاجتماعية , و مرجعياته الفكرية و الإيديولوجية
.
فالصورة الباهتة التي أصبح يظهر بها الدرس الفلسفي في
ثانوياتنا التأهيلية , تكشف عن أن ما يقدم للمتعلمين و للمتعلمات ليس سوى دروس
معدة على طريقة الوجبات السريعة والخفيفة , الغرض منها الحصول على نقطة جيدة في
الامتحان , و ليس الغرض منها هو إشباع نهم المتعلم (ة) و تعطشه للمعرفة الفلسفية .
فإذا تأملنا الطرق البيداغوجية المعمول بها قديما في
سنوات السبعينيات و الثمانينيات من القرن المنصرم , سنجد أنها لم تكن أبدا متمركزة
حول الأستاذ أو حول الدرس , بل هي كانت طرقا و صيغا تفاعلية بين أقطاب العملية
التعليمية ـ التعلمية الثلاثة : الأستاذ , الدرس , المتعلم . و الأستاذ لم يكن يشكو
من هذا الذي يشكو منه الآن الأساتذة , من تدن مزمن في مستوى التحصيل , وغلبة الكم
على الكيف وغيرها من المثبطات . فقد كان لديه هامش واسع من حرية التصرف التي
يفتقدها خلفه الآن , يتيح له القدرة ,على شحذ الهمم , خلق المتعة في الدرس , و على
جعل المتعلم (ة) يتخذ مواقف و يتبنى اتجاهات معينة تفيده في حياته . و هكذا
وجدنا أن مادة الفلسفة , إلى جانب أخواتها المواد , ( خاصة مادة التاريخ ) قد قدمت
للمغرب أجيالا من المتعلمين المتنورين استطاعوا أن يساهموا في تطور و ازدهار
المغرب , كل حسب موقعه .
لكن .. يصبح الأهم اليوم , هو انكباب الجهد الديداكتيكي
على تنمية و تطوير القدرة على تملك آليات تحليل نص فلسفي وتنمية مهارة الكتابة
الفلسفية .. و كأن المشكل الذي يعترض متعلمينا و متعلماتنا , هو مشكل تقني
فقط .. فتمكن المتعلمين و المتعلمات من آليات و تقنيات التحليل و التركيب له
أهميته القصوى , فهذه مسألة لا يختلف فيها اثنان , لكن , لا ينبغي علينا أن ننسى ,
أن الجوانب الأخرى المرتبطة بتملك المادة المعرفية , لها درجة كبيرة من الأهمية
أيضا في و نحت الإنسان , جوانب تترك آثارها العميقة في نفسه , تولد المواقف
الإيجابية و تعزز لديه المبادئ و الاتجاهات , على المدى المتوسط و المدى البعيد .
فالمهندس و الطبيب و المقاول و السياسي و المواطن
الصالح ليسوا بمعطيات جاهزة , بل يخضعون لسيرورات متصاعدة و متسلسلة تربط الخاص
بالعام , المحلي بالكوني , في تشكل وعيهم و نحت شخصياتهم : فلا قيمة لمفاهيم
فلسفية , كالعقلانية و الديمقراطية و الشخصانية و الغيرية والتواصل و الاختلاف ,
إذا لم تكن تسكننا على نحو تجعلنا نتجاوب و نخاطب عبرها إشكالياتنا التاريخية و
الثقافية و الحضارية !!!
الفلسفة , تقدم و تتيح مثل هذا التجاوب و هذا التخاطب
, عبر مساءلة الذات و ذات الآخر , تلك المساءلة التي تقودنا , بتعبير كارل ياسبيرز
, إلى التفلسف .
فهل كونا عبر هذه البرامج و هذه المناهج
التعليمية الجديدة ذواتا مغربية متفلسفة ؟؟؟ وهل سيسمح رصيد هذه الذوات في الفكر
و التجربة أن تفلسف المهام الموكولة إليها , إذا دخلت , مثلا , قبة البرلمان أو
مجالس البلديات , و أصبحت تملك سلطة اتخاذ القرار في تدبيرها للشأن الوطني أو
المحلي ؟ و هل سيصبح نشاطها هذا عامل تحرر أم عامل استلاب لها ؟؟ فمظاهر الفساد
التي تطفو على السطوح في الإدارات و مختلف مرافقها الحيوية, التي تنخر جسمنا
الثقافي و تمزق نسيجنا الاقتصادي شر تمزيق, شاهدة على غياب روح التفلسف في سلوكنا
اليومي.
وبناء عليه , فصناع القرار السياسي و التربوي في
بلادنا , مدعوون إلى التفكير في بلورة استراتيجية جديدة تأخذ بعين الاعتبار , أثناء
التخطيط , جانب التفلسف , ذلك العامل الحاسم في تقدم و رقي و ازدهار شعب من الشعوب
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق