الاثنين، 4 يوليو 2016

الحاجة إلى ثقافة عربية متسامحة


عبد الجبار الغراز
        نود أن نشير ، منذ البداية ، أننا لا نسعى ، عبر هذا المقال ، إلى تبخيس ثقافتنا العربية الإسلامية أو التنقيص من شأنها ، و لا إلى التعبير عن رؤية تشاؤمية عدمية همها جلد الذات ، بل نسعى إلى التعبير عن فكرة مفادها أننا في حاجة ماسة إلى ثقافة متسامحة نكرسها ، كعرب و كمسلمين ، في وجداننا الجمعي ، تكون نابعة من فلسفة تنويرية شبيهة بتلك التي بلورها في أوروبا  فلاسفة عصر الأنوار، و كرستها ، في أوطانها ، فيما بعد ، شعوب و حكومات العالم .
       فكيف يمكن تحقيق هذه الحاجة على أرض واقع عربي تنخر جسمه الثقافي أصوليات متصاعدة و صراعات طائفية و مذهبية ، و يسود فيه ، و بشكل صارخ ،  التعصب بدل التسامح ، و العنف و العنف المضاد بدل السلم و المسالمة ؟
      للإجابة عن هذا التساؤل الإشكالي ، وجب القول أن هناك بقايا وظيفية مترسبة علقت منذ قرون في وعينا تعود في أصولها  لبنيات ثقافية و اجتماعية و فكرية و نفسية متجذرة ، ارتبطت بالنزعة الأبوية الذكورية ، و بالعصبية القبلية ، و بغلبة الجماعة على الفرد ، و طبعت االعائلة و القبيلة و السلطة بطابع انقسامي يقصي من دائرة وجوده الآخر الغريب ، ذلك الكائن الدخيل على ثقافتنا .  
      انقسامية صيرتنا كائنات آدمية مدمرة من الداخل ، مفتقرة لقيم تعايش تتغذى على ما هو مشترك فينا، و تنتعش و تستمر في الوجود  و تحيى على ما هو مغاير فينا أو مختلف عنا.  
       انقسامية كانت وراء هذا التشرذم و هذا التجزيء الذي أذكى نيران الصراع الديني و الطائفي و الإيديولوجي ، و مزق نسيجنا الثقافي .  
        انقساميية جعلتنا أمة تبدو للأمم و للثقافات الأخرى و كأنها بدون عمق تاريخي و حضاري .. أمة عاجزة عن فعل أي شيء من أجل الخروج من ظلمات التكفير و العنف و العنف المضاد.
        صحيح أن كل أمم  العالم قد عاشت التعصب في تاريخها السحيق، مثلما عشناه نحن ، و لا زلنا نكتوي بنيرانه الملتهبة،(  سقراط  اتهم بإفساد عقول الشباب ، فحوكم و أعدم بتناوله السم ، و جان دارك ، عذراء أورليان ، اتهمت زمن محاكم التفتيش بالهرطقة ،فحوكمت و أعدمت حرقا،  نفس المصير لاقه من بعدها و جوردانو برونو لتبنيه نظرية كوبرنيكوس حول دوران الأرض ، و ابن رشد، هو الآخر ، اتهم بالزندقة فأحرقت كتبه .. و القائمة في هذا الباب طويلة .. ) ، لكن هذه الأمم لم تظل مكتوفة الأيدي ، بل تخلصت من هذا التعصب المقيت ، و ذلك من خلال تفكيك دوغمائيته و أخضاع أنظمته المتجذرة في لاوعيها الجمعي لمحك التفكير النقدي و العقلاني السليم المعتمد على المساءلة و المكاشفة و الحوار الهادئ الرزين ، و هي بفعلها ذاك ، استطاعت الخروج من هذه الدائرة اللاحضارية و نقل قيمها السلبية من مستوى اللاوعي إلى مستوى الوعي .
     أما نحن، فقد بقينا سجناء قيمنا السلبية و غلونا في الاعتقاد بالأشياء بشكل مطلق، في عالم متغير باستمرار يرى الحقائق دائما نسبية تدفع إلى الإيمان الراسخ بالتعدد و الاختلاف و المغايرة .. إيمان يجعل من التسامح  موقفا إيجابيا من الآخر .. ذلك الدخيل أو الغريب عن ثقافتنا .
     كما بقينا ، أيضا ، منذ اندحار ثقافتنا العربية الإسلامية مع الغزو المغولي و التتري رهن إشارة " دوغمائيات عقيمة " و " لامعقوليات خفية " معتقدين أنها من مخلفات سلفنا الصالح ، و هو منها براء ،  منغلقين على أنفسنا ننتظر الذي يأتي ..
    و لم يأت سوى الخراب و الدمار و هذا الانقسام الطامس لهويتنا الحضارية .
      ينبغي أن نعلم أن الثقافة ليست وعاء حاملا لقيم الأجداد و معتقداتهم و فلسفاتهم ، بل هي منظومة منتجة للمعايير الموجهة للسلوك الإيجابي عن طريق ما يسمى بالتنشئة الاجتماعية و التربية و التعليم العقلاني السليم و الرشيد . و معنى هذا أن سيادة التعصب و العنف في مجتمعاتنا يوضح ، بالملموس ، أننا قد فشلنا كمنظومة قيم اجتماعية و دينية و أخلاقية في تحقيق توازن نفسي و اجتماعي لهذا الكائن الإنساني الذي يسكن دواخلنا الذي نسميه بالإنسان العربي.
     كما ينبغي أن نعلم أن العنف طاقة غريزية كامنة ، يستوي فيها الحيوان مع الكائن الإنساني ، تستيقظ عند حالات دفاعية أو هجومية. يمارسه الحيوان على ضحيته لحفظ بقاءه ، أما الإنسان فإنه يمارسه بسبب الخوف و القهر المسيطران عليه . العنف بهذا المعنى ، هو  صنيعة من صنائع المنظومات الثقافية التي تعيش أزمة خيارات ، أزمة تقديم بدائل جديدة في مشروعها الثقافي .
     و الخروج من متاهة العنف يستلزم تأسيس مجتمع متسامح  يقوم على التعدد و التنوع و التواصل و الحوار و إعمال العقل ، و على العلاقة الإيجابية البناءة مع الآخر القائمة على غض الطرف عن أخطاءه ، كما يستلزم ، أيضا ،  تبني مشروع ثقافي تنويري مسالم ، نتوخى منه طرح أسئلة أنوارية على أنفسنا، شبيهة بتلك التي تولدت بفعل التفكير النقدي الكانطي ، لكشف أوهام  عقلنا العربي السياسي و الأخلاقي المتماهي بالمطلق. فبفضل أدوات النقد التشريحية سنستطيع ، و لا شك ، اقتحام طابوهاتنا و استنبات حداثة فكرية سيؤسسها مثقفون عرب  يماثلون في عبقريتهم عبقريات كانط و فولتير و ديدرو و مونتيسكيو و لوك و ميكيافللي و هيردر و غوته و شيللر و ليسينغ و هيجل .
      لنتعلم من جان لوك حين رفع في رسالته في التسامح  شعار : " حريتي تنتهي عند ابتداء حرية الآخرين ، و فولتير ، حين عبر عن استعداده بالتضحية بحياته من أجل الدفاع عن حرية الرأي المخالف لرأيه، و مارتن لوثر ، حين حارب استخدام الإكراه في شؤون العقيدة و الإيمان .و إدغار موران ، حفيد هذه السلالة الأنوارية، حين اعتبر التسامح  ضرورة من ضرورات الديمقراطية  و مبدأ أساسيا لها إلى جانب مبدأ المساواة و العدل و مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث ، و حكيمنا ابن رشد لما اعتبر أن " الحق ( الشريعة ) لا يضاد الحق ( العقل )  بل يوافقه و يشهد له " و لما تلمس العذر للآخر المتمثل في الفلسفة اليونانية حينما قال :  " فما كان موافقا للحق قبلنا به و سررنا به و شكرناهم عليه و ما كان غير موافق للحق نبهنا عليه و عذرناهم "
     ألا يعتبر تلمس العذر، هنا ،  للآخر قمة التسامح !!!
     إذن ، لقد بات من الضروري التفكير بجدية في العمل ، على المستوى الديني  ، تقريب المسافات و تذويب الخلافات بين المذاهب الفقهية ، التي يعمل اختلافها على إذكاء روح التعصب المدمر ، و محاولة عقلنتها عبر إخضاع مسلماتها للمساءلة. فخلاص النفوس لا يكون أبدا من شأن المخلوق ، بل يكون من شأن الخالق سبحانه و تعالى ، و لا أحد قد فوض لفعل ذلك  سوى الأنبياء و الرسل ، و إلا فقد اعتبر ،  " مزدريا الجلالة الإلهية " كما قال فولتير .