سؤال الهوية.. نحو نسق قيمي إنساني
يعتبر التنوع الثقافي نتاجا حتميا لمبدأ الحق في الاختلاف ومظهرا من مظاهره. ولهذا فقد تطلب الأمر، بناء عليه، التفكير بجدية في رسم آفاق جديدة للكونية وللخصوصية، درءا لكل ميز بين الثقافات، أو كل مزايدات أيديولوجية، من شأنها التطاول على الخصوصيات؛ وتعزيزا وتقوية لروابط التواصل و لتفاعل بين حضارات العالم المعاصر .
والحديث عن الكونية والخصوصية هو إثارة لموضوع الهويات وطبيعتها وأنواعها. لكن هل يصح الحديث عن الكوني دون وضع ضوابط وقواعد ورسم حدود بين الخصوصي والكوني، بين المحلي والعالمي؟ وعلى أي أساس يمكن إرساء الهويات، هل على أساس الثبات أم على أساس التغير؟ وبأي معنى يمكن فهم هوية عربية إسلامية "متحولة" و"واعدة"؟ وإلى أي حد يمكن طرح هذه الأخيرة كبديل عن هذه "الهويات" التي تناسلت بكثرة في المشهد الثقافي والسياسي العربي، منذ مطلع الألفية الثالثة، وأصبحت تُعْتَمَدُ كمرجعيات للثقافة العربية الإسلامية المعاصرة؟
سؤال الهوية.. نحو بناء نسق قيمي عربي إسلامي
نعتقد أن الإجابة عن هذه الأسئلة يتطلب طرح سؤالي الكونية والخصوصية، كما يستلزم بالضرورة طرح أسئلة أخرى مرتبطة بالهوية كتعدد، وبالغيرية كاختلاف، في أبعادهما الأنطلوجية والسيكلوجية والاجتماعية والثقافية والتاريخية الحضارية. ذلك أن الوعي بالذات الفردية والجماعية، لا يعتبر فقط جزءا من هويتهما الثقافية، بل هو مرتبط ارتباطا عضويا بالهوية الإنسانية.
وإقرارنا بهذا التوصيف يجعلنا نفكر، من جهتنا كعرب وكمسلمين، في مآلات الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة التي أصبحت تعيش، في أيامنا هذه، تحديات حضارية جد صعبة تجعلها في مفترق الطرق: فإما أن تسلك طريق النجاة الذي يضمن لها الاستمرارية والتفاعلية مع الوضعيات الجديدة الصعبة التي يفرضها عليها محيطها، أو تبقى أسيرة الصراعات التي تعصف بكيانها وهويتها التاريخية، وتصبح لقمة سائغة في يد "لوفتيان عولمي متوحش" لا حدود لرغباته، وطريق النجاة هذا هو مسلك حتمي يدفعها إلى معرفة كيفية تدبير اختلافها تعددها الثقافي ومحاولة تعزيز وتدعيم السلوك الديمقراطي وترسيخ قيم المواطنة الحقة وقيم الاعتراف بالآخر المختلف. لهذا، فسؤال الهوية أصبح يشكل مطلبا أساسيا للثقافة العربية المعاصرة المراهنة على التنمية الحضارية، إنه سؤال الخصوصية و سؤال الكونية في ارتباطهما العضوي الدائم والأبدي.
لقد بات من المعلوم أن ظهور الألفية الثالثة قد صاحبه خطاب فوكوياما المكرس لمنطق نهاية التاريخ. ذلك الخطاب الذي ضيق -باسم الكونية- الخناق على كل خصوصية ثقافية؛ مما جعل من الكوني فخا منصوبا يستهدف كل تراث عالمي عميق ويصادر قيمه الإيجابية، لتحل قيم استهلاكية محلها. وسؤال الهوية هذا الذي نبحث فيه، هو مسلك ضروري لكل من يريد أن يتلمس الطريق نحو بناء نسق قيمي إنساني، فهو إن كان لا يقف عند حدود إجابات فلاسفة عصر الأنوار له فإنه -حسب إدغار موران- لا يخرج عن سؤال الأنسنة ليطالب بتحقيق ما هو أرقى وأعظم: إنسانية الإنسان، وذلك عبر تفعيل نوع من المصالحة بين الكوني والخصوصي، في ظل ثقافة إنسانية عالمية مُوَحَّدَةٌ منتجة للتنوع. ذلك أن الكوني يشكل اللحمة الموحدة لثقافات وهويات العالم، كما يعتبر مدبرا لمختلفها ومشتركها في زمن العولمة واقتصاد السوق .
وعليه، يمكن من جانب ثقافتنا العربية الإسلامية -التي تكالبت عليها ويلات ومصائب العولمة الاقتصادية- التفكير في بناء تصور جديد للإنسان العربي المسلم من أجل إرساء هوية عربية إسلامية متحولة، ومنفتحة على قيم الإنسان الكونية، ومتفاعلة مع إستراتيجيات هذه الأخيرة الموضوعة في المشترك الإنساني. فمواصلة نفس النهج المتبع منذ زمان والإبقاء على نفس التصورات القديمة، التي جعلت من الهوية العربية الإسلامية معطى ثابتا لا يتغير مع تغير الزمان والمكان، هو إجراء عقيم لم يعد يجدي أي نفع.
مأزق الهوية العربية الإسلامية
تعتبر الهويات مرجعا للأفكار والتمثلات والأحكام والمعتقدات التي تمنح الأفراد والجماعات الشعور بالرضا والتوازن وعدم الضياع المؤدي إلى الإحساس بالاغتراب، لكنها لا تغدو بنيات متحولة إلا إذا غادرت أرض التجانس واستطاعت تأسيس كينونتها على كل ما هو مختلف منفتح على عالم الممكنات، متجاوزة به الإطار الضيق الذي تتحدد به الهويات الثابتة.
صراع الهويات، يجعل من كل خصوصية مرتعا لاستعلاء تتغذى عليه نزعات الإقصاء والتعصب وإرادات القوة والتحلل القيمي |
إذا بنينا وفق هذا التصور الذات العربية الإسلامية، باعتبارها وحدة كلية، فإنه يستحيل النظر إليها، بأي شكل من الأشكال كمعطى ميتافيزيقي، بل كبناء منفتح على كل الممكنات ومحيل بالتالي على التعدد والكثرة. بناء معبر عن هوية متسمة بطابع تركيب يتحدد داخليا وخارجيا بمستويات أو بالأحرى بمجالات فرعية نفسية، اجتماعية وثقافية.
فوفق هذه الرؤية، يصح القول أن الذات العربية الإسلامية ستتماهى مع الكوني، بما هو تعبير عن كلية عالمية، لتشكل معه انبعاثا لأنسنة عربية إسلامية معبرة عن هذا القاسم المشترك بين كل البشر، ومعبرة أيضا عن الإنسان العربي المسلم في تعدديته ووحدته الشاملة للكل الإنساني، ودالة على مطمح عربي إسلامي قادر على تدبير الاختلاف والتعدد في الأمة، لاقتسام الخيرات وتحقيق كل عدالة منصفة قادرة على تحويل هوية ديناميكية ومتحولة مفترضة ساكنة في الأعماق، إلى فعل خلاق ومبتكر مولد للانسجام بين عناصرها.
وقياسا على هذا الافتراض، يمكن القول -وبكل أسف- إن الذات العربية الإسلامية في أيامنا هذه ليست بخير. فقد محت الأزمات تلو الأزمات وجودها كاختلاف، فبدت للقاصي والداني ذاتا بكينونة مذابة في نمط "وجود مشترك" يتحكم فيه غيرها، و هذا ما أفقدها تميزها وفرادتها وخصوصيتها وعمق لديها الإحساس بالدونية والاغتراب، فالعلاقة التي تجمعها بالغرب علاقة تفاضلية تطبعها الغرابة ويغمرها صراع الهويات وإقصاء البعض للبعض .
يبدو صراع الهويات هذا -الذي يملأ مشهدنا الثقافي والسياسي- مثيرا للشفقة وللحزن الشديد، لأنه صراع فارغ لا معنى له، يجعل من كل خصوصية مرتعا لاستعلاء تتغذى عليه نزعات الإقصاء والتعصب وإرادات القوة والتحلل القيمي، استعلاء يزيد في تضييق الآفاق الرحبة الواعدة بالعطاء الإنساني الذي لا ينضب.
إن اتجاه الذات العربية الإسلامية صوب آخرها الغرب يجب أن تحكمه أساسيات ومعقوليات ضابطة لتلك القصدية المفترضة المتبادلة بين كلا الطرفين. فالتفاعل لا يمكن إلا أن يكون عقيما غير منتج لأي تواصل حقيقي، إذا لم يسع إلى خلق مجال "بين-ذاتي" ينتعش فيه كل تواصل ممكن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق