كيف تتشكل الهوية الثقافية؟
سأنطلق في شرح بعض إبدالات الهوية الثقافية بطرح الاسئلة التالية:
* ما العلاقة بين الهوية الثقافية والموروث الثقافي؟
* وهل نجاعة وإجرائية مفهوم الهوية الثقافية قادرتان على خلخلة يقينيات ورواسب الموروث الثقافي، التي قد ألفها الإنسان وارتاح لها؟
* وهل يصح الحديث عن هوية ثقافية مهتمة بالأسس الفكرية والثقافية البانية لميكانيزمات التفكير العقلاني السليم، ومبتعدة عن انتهاج أساليب الاختزال والانتقاء، التي تقود إلى تبني نماذج هوياتية غير مدروسة؟
يكمن الجواب على هذه الاسئلة في مناقشة إبدالات الهوية الثقافية. لكن هذه المناقشة سوف لن تفي بالمطلوب إلا إذا انطلقت من زاويتي نظر منهجية وموضوعية. فالزاوية الأولى نوضح من خلالها أن مفهوم الهوية الثقافية يعتبر من القضايا الشائكة التي تستلزم منن كل باحث، إعادة النظر في المعطيات الثقافية والفكرية ومختلف الأفعال وردود الأفعال المتفاعلة، سلبا أو إيجابا معها؛ بعد أن أصبح، بفضل شيوع وسائل التواصل الاجتماعي، واسع التداول والانتشار (خاصة على الساحة العربية والإسلامية). الشيء الذي بات معه التفكير في نحته من جديد؛ بشكل يجعله مفهوما واضح المعالم لا تشوبه الشوائب.
أما الزاوية الثانية فنرصد عبرها هذا المفهوم معتبرين إياه مفهوما متصف بالديناميكية وبالمرونة، لكونه يسعى إلى اختراق الحدود الثقافية، دون المساس بمقومات التأصيل الثقافي؛ وله، إلى جانب ذلك، قدرة إبستمولوجية، في حقل العلوم الإنسانية، على استيعاب مضامين المتغيرات والتحديات الجديدة على الساحة العالمية، وأثر هذه الاخيرة البادي على مختلف مظاهر حياتنا الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية.
الهوية الثقافية هي كيان خاضع لسيرورة متحركة في جميع الاتجاهات لكسب روابط وعلاقات جديدة تغنيها عن التقوقع وملازمة ثقافتها المحلية |
يزخر وجودنا الإنساني بتعدد الهويات والثقافات. وهذا الغنى الثقافي الهوياتي نابع من تعدد آخر حاصل على مستوى الرؤية الفلسفية للعالم. ذلك أن الثقافة داخل كل مجتمع تبني كتلة من المسلمات والافتراضات يختارها المجتمع لأفراده وجماعاته على أنها وقائع سوسيوثقافية، ولدت مجموعة أفكار ومعتقدات تأسست وشكلت مقاصد ذلك المجتمع لحل إشكالية علاقة الإنسان بوجوده الاجتماعي؛ حيث يضع الفرد نفسه، بشكل واع وإرادي، ضمن أحد عناصر هذا المركب الاجتماعي.
فإذا سلمنا بهذا الاعتبار واضفنا إليه اعتبار آخر يرى أن الموروث الثقافي هو ثمرة كل مجهود إنسانيي على المستويين المادي والروحي المتصل اتصالا جدليا بالتاريخ والحضارة، جاز لنا طرح الأفكار والمواقف والتصورات التالية:
أولا: أن الهوية الثقافية تشكل، حسب الباحث علي وطفة، منظومة معايير محددة لمستوى معين من ثقافة الأفراد والجماعات داخل المجتمع، فبها تُعْرَف وتُعَرَّف.
ثانيا: تتسم بالغنى على المستويين الدلالي والمرجعي، في ارتباطها بالموروث الثقافي.
ثالثا: مفهوم بنيوي بالغ التركيب يتأسس ويبنى في كل وقت وحين؛ في إطار علاقاتت تاريخية واجتماعية وثقافية. ولهذا فلا ينبغي، انطلاقا من طبيعته التركيبية هاته، اعتباره معطى جاهزا وناجزا، يقدم نفسه للباحثين والدارسين بسهولة ويسر.
رابعا: مفهوم يحيل إلى المشترك الثقافي والمجتمعي الموحد للأمة؛ ليشمل كلل الأنماط السلوكية والقيمية وكل المؤهلات الفردية والجماعية والمسلكيات المكتسبة، بفعل انخراط الناس في تجارب حياتية مليئة بكل ما استجد من معطيات المحيط العالمي المتغير باستمرار.
وعليه، وانسجاما مع هذه النقط الأربع، سالفة الذكر، يمكن بناء تصور جديد لكل هوية ثقافية، انطلاقا من رصد ذلك التفاعل الجدلي بينها وبين الموروث الثقافي المنفتح على كل معطى جديد. فالتفاعل الثقافي لا يكون حقيقيا إلا إذا كان مثمرا. ولا يكون كذلك إلا إذا سعى إلى تأسيس فعلل حضاري متماه وجوبا مع أفعال حضارية أخرى، مماثلة كانت أو مختلفة.. أفعال حضارية تتأسس جراءها، مع مرور الزمن والأحقاب، بنيات ثقافية إنسانية ذات جذع مشترك واحد. الهوية الثقافية، بناء على ما تقدم شرحه وتفسيره، هي كيان خاضع لسيرورة متحركة في جميع الاتجاهات لكسب روابط وعلاقات جديدة تغنيها عن التقوقع وملازمة ثقافتها المحلية.. هوية غير ساكنة، تجعل من التغيير قدرها الذي لا مفر منه، الذي سيؤدي بها حتما إلى أن تشهد في بنيتها الداخلية تحولات عميقة.
وهذه السيرورة هي ما يضمن لها، في نظر عدد من علماء الانثروبولوجيا، نوعا من الاستمرارية والانبناء المتجدد في الزمان وفي المكان، كسمة طبيعية تجعلها هوية ثقافية ديناميكية. إنها، بهذا المعنى، حركة مستمرة، عرف التاريخ بسببها منعطفات حاسمة من دورة الحضارة. أو بتعبير مالك ابن نبي، هي نظرية في السلوك أكثر من أنها نظرية في المعرفة؛ بحيث يكون التماثل أو الاختلاف في سلوك الأفراد والجماعات من نتاجاتها وليس من نتاجات التعليم. أو إنها حالة نفسية واجتماعية مميزة للحضارة ومحركة لقوى وقدرات الفرد والمجتمع، أو مجموعة قواعد أخلاقية وقيم اجتماعية مؤثرة في البنيات اللاشعورية للمجتمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق