الأربعاء، 20 نوفمبر 2013

معرفة الغير


تأطير إشكالي للمفهوم
    على مستوى هذا المحور الثاني من موضوع الغير ، يمكن القول أن فلسفات العصر الحديث كانت تحت تأثير الاتجاه العقلاني الذي جعل من " الكوجيطو " الحقيقة الواضحة و المتميزة . و قد ترتب عن هذا المبدأ اعتبار أن جميع موضوعات الغير، المرتبطة بالأحاسيس و المشاعر، التي تبدو لنا في الجهة الأخرى المقابلة لنا ، هي موضوعات غير يقينية تمدنا ، فقط  بمعرفة تقريبية و تخمينية .
    يمكن الفهم من خلال هذا الترتيب أن إشكالية معرفة الغير هي إشكالية جديدة ستعمل الفلسفات المعاصرة على تناولها  من باب إخراج الغير من عزلته و جعله ذاتا مغايرة للأنا ، تكون منفتحة على العالم وفق مفاهيم و مقاربات جديدة . هذه الأخيرة ستضع الوعي ضمن خضم الوجود ، و ستعيد تأسيس الذات من خلال علاقة " بين ذاتية " كشرط لبناء معرفة موضوعية بالعالم لرصد ما تقوم عليه معرفة الغير .
    فانطلاقا من هذا التمهيد العام يمكن طرح إشكالية معرفة الغير وفق التساؤلات التالية : هل عالم الغير عالم منغلق تستحيل معرفته ، و بالتالي ، التواصل معه ، أم أن  معرفة الغير ممكنة ؟ إذا كان الجواب بالإيجاب ، فهل تعتمد هذه المعرفة على قوة الحكم الاستدلالي العقلي ؟ و على ماذا ترتكز ، هل على إدراك المتشابه للذات أم على المختلف منها ؟  ألا تلعب اللغة و الحوار دورا أساسيا في تحقيق عملية التواصل الرمزي  بين الأنا و الغير ؟  
   للإجابة عن تساؤلات هذه الإشكالية ، يرى نيقولا مالبرانش ( 1638 – 1715 فيلسوف و رجل لاهوت من أتباع العقلانية الديكارتية ) أنه إذا أردنا أن نبني معرفة عن الغير فإننا لا نستطيع أن نحصل على معرفة يقينية بكل ما يحسه الغير أو يشعر به ، و السبب في نظره هو أن المعارف التي نكونها عن الآخرين تكون معرضة للخطأ و التخمين . فنحن نكتفي فقط بالحكم على الغير ، اعتمادا على إحساسات قد كوناها عن أنفسنا ، و هذا يعني أن أحكامنا في حق الغير قد تحمل الخطأ و قد تحتمل الصواب . فإذا افترضنا أن هناك تطابق بين معارف الذات مع معارف الغير فإن ذلك لا يمكن أن يسري على معرفة الخصوصيات التي تجعل من ذات الغير ذاتا مغايرة لنا، الشيء الذي يجعل معه من المستحيل النفاذ إلى أعماق الغير لإدراك حقيقة مشاعره و انفعالاته.
   واضح من خلال هذا التصور الفلسفي أن مالبرانش قد تأثر بالاتجاه العقلاني الديكارتي الذي الذي يبقى أسير مفهوم " الأنا وحدية "
    أما ماكس شيلر ( فيلسوف ألماني ) فإنه يعتبر أن النظرة التي تقسم الغير إلى ظاهر و باطن ، جسم و روح و بالتالي تجزيء عملية الإدراك إلى باطني و خارجي ، هي نظرة لا تقود إلى بناء معرفة حقيقية عن الغير ، لأنها نظرة تجزيئية ، فوحدها النظرة الكلية التي تجمع ما بين الظاهر و الباطن هي الكفيلة بجعل معرفة الغير تكون معرفة ممكنة . فتعبيرات جسد الغير لا يمكن تجزيئها إلى أجزاء و إعادة تركيبها لا يعطي الربط الحقيقي بين الظاهر و بين الباطن . و هذا يجعل من التعاطف السبيل إلى النفاذ إلى أعماق الغير و تكوين معرفة صحيحة عنه. فلا ينبغي الفصل بين تعبيرات الجسد و المشاعر الباطنية ، فاتحادهما  ، في نظر ماكس شيلر ، يشكل كلا لا يقبل الانفصال .
    بينما غاستون بيرجي فإنه يعتبر أن الحميمية مع الذات التي تحمي و تحدد الإنسان ، تعد أكبر عائق نحو تواصل حقيقي و مثمر مع الغير ، فلا يمكن للآخرين اختراق وعينا و لا يمكن لنا اختراق وعيهم ، فالتجربة الداخلية للأنا التي هي الوجود الحقيقي ، لا نستطيع نقلها إلى الآخر . فعالم الذات ، مثلما عالم ذات الآخر ، الموجود في الواجهة الأخرى ، هو عالم سري و معزول ، و سجن منيع محاط بسور . يقدم غاستون بيرجي مثال تجربة الألم لتوضيح أن معرفة الغير تكون غير ممكنة . فقد نتعاطف مع الغير عندما يحس بالألم عبر مواساته و مشاطرته أحزانه ، لكن لا نستطيع البتة ، كذات مغايرة له ،  أن نعيش تجربته بشكل حقيقي، و السبب هو أنها تعتبر تجربته الذاتية المرتبطة به ، و ليست مرتبطة بنا كذوات أخرى مقابلة له .
     أما إدموند هوسرل  ( 1859 – 1938 فيلسوف ألماني ) فإنه يرى أن معرفة الغير هي ممكنة  . فذاتنا لا تتعامل مع ذات الغير كموضوع خارجي ، انطلاقا من وعيها بذاتها و من شعورها بتجربتها المتعالية عن العالم ، بل تتعامل معه ، من خلال ذلك التوحد الذي يجمع بينها و بينه في عالم " بين – ذاتي " فللغير ، أيضا نفس التجربة الذاتية الخاصة به . فهذا العالم موجود لكل واحد منهما و موضوعاته في متناولهما. فالذات تستطيع  تعرف الغير من خلال مماثلة نفسها بذاته في إطار علاقة بين – ذاتية.  
   و من زاوية مغايرة لزاوية نظر إدموند هوسرل ، يرى جان بول سارتر أن معرفة الغير نابعة من العلاقة بين الذات و بين الغير ، التي يحكمها الإقصاء و التشييء المتبادل بين الطرفين. فحرية كل واحد منهما تتجمد ما أن يحس أحدهما أنه مراقب من طرف نظرات الآخر التي تسحبه من مركزه و تحوله إلى هامش و موضوع و شيء . فالغير بالنسبة للذات هو " لا أنا " أي هو سلب و نفي فاصل بين الذواتين .  فالغير بهذا المعنى ،  لا يؤثر في كينونة الذات من خلال كينونته . و مادام الامر كذلك فهو يتبدى للذات كموضوع ، على أساس اعتبار أنها هي التي تكونه ضمن حقل تجربتها ، حيث لا يكون الغير سوى صورة ذهنية لها . و لعل ما يلخص هذا التصور هو قولة سارتر الشهيرة : " الجحيم هم الآخرون "
     أما موريس ميرلوبونتي فإنه يبني تصورا ظاهريا عن الغير ، نافيا بذلك نزعة " الأنا وحدية " التي تدعي أن معرفة الغير ليست يقينية ، لأنها تتم بالقياس إلى الأنا.
     يعتبر ميرلوبونتي أن العالم ليس موضوعا ، بل هو هذا الذي ندركه ، فهو مجال تتجلى فيه أفكار الإنسان و تتحقق فيه إدراكاته الحسية ، فهو يتعرف على نفسه و غيره داخله ، و وظيفة الفلسفة هي الكشف عن هذا العالم الذي له معنى . و على الإنسان أن يعيد تشكيل ذلك المعنى و تجاوز ثنائية الذات و الموضوع . و يعتبر الجسد هو الخيط الناظم بين الذات و بين العالم لأنه يعيش تجربة الوساطة بينهما .
و تبعا لهذا المعنى ، يقوم ميرلوبونتي بوصف فينومينولوجي لعملية التواصل ليستدل على إمكانية معرفة الغير عن طريق ما يسمى بالاستدلال بالمماتلة  التي مفادها أن معرفة الغير ممكنة ، بحيث تكون قائمة على افتراض أن الغير هو شبيه و مماثل للذات . فنحن نعرف الغير بواسطة رموز و علامات ، فاحمرار الوجه علامة على الخجل و البكاء علامة على الإحساس بالألم . فالجسد يقوم بوظيفة الحركة و التعبير ليصبح وسيطا يحقق الإنسان عن طريقه وجوده في العالم . من هنا ينتقد ميرلوبونتي فكرة سارتر التي ترى بأن من شأن النظرة المتبادلة بين الأنا و الآخر تحيل أحدهما إلى موضوع أي إلى شيء ، فهذه العملية لا تتحقق إلا إذا كان أحد الطرفين مجهولا بالنسبة إلى الآخر ، فالتوقف و الانقطاع يكون مؤقتا فقط عندما يكف الغير عن التعالي عن الذات في الوقت الذي يهم بالحديث فينشأ التواصل . فحتى اعتكاف الفيلسوف في خلوته و انقطاعه عن الناس من أجل التأمل هو في حد ذاته حوار و فعل ز كلام فالانعزال التام يحمل معه الآخرين و في هذا الصدد ، يتحدث ميرلوبونتي عن فعل الانبثاق المشترك co-naissance  و ليس عن معرفة connaissance  .
  
   


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق