الأحد، 24 نوفمبر 2013

العلاقة مع الغير

العلاقة مع الغير
تأطير إشكالي
      في هذا المستوى الثالث من زاوية النظر إل الغير ، سنتطرق إلى الجانب العلائقي الذي سيجسد لنا طبيعة العلاقة الممكنة التي ينبغي تأسيها مع الغير . فالآخر قد يشكل تمييزا للذات ، كما أنه ، في جوانب مقابلة لا يشكل ذلك . فالعالم الذي أنا موجود فيه كذات هو عالم أتقاسمه مع ذوات غيري ن و أشكل عبره عالم صداقة و عالم تواصل ز عالم مغايرة تبني الذات و الغير معا .
       و على أساس هذه المعاني المختلفة و المتعددة التي يمكن أن نرصد به طبيعة العلاقة مع الغير ، تبرز لنا إشكالية الغير ، التي  تنظر إلى الغير في صورة هي أكثر تركيبا و أكثر تعقيدا . فما الأساس الذي تقوم عليه العلاقة مع الغير ، هل على أساس الصداقة و المشاركة في الوجود ، و الغيرية و نكران الذات ، أم على أساس الصراع و المغايرة و الاقصاء و التهميش ؟ 
      كإجابة عن هذا التساؤل الكبير و العريض لهذه الإشكالية، يرى أرسطو ( 384 ق م – 322 ق م فيلسوف يوناني )  أن أساس العلاقة مع الغير هي الصداقة . و المعنى الذي يعطيه للصداقة يختلف عن معنى أستاذه أفلاطون الذي يحددها في كونها تعبير عن حالة وسط بين الكمال المطلق و النقص المطلق . فأرسطو يعتبر الصداقة ضربا من ضروب الفضيلة و أشد الحاجات ضرورة للحياة فلا أحد يستطيع أن يعيش دون أصدقاء حتى و لو كان ينعم بجميع خيرات الدنيا . فكلما عظم الإنسان ، على مستوى الجاه و السلطان ، كلما كان في حاجة إلى أصدقاء ، و العكس أيضا صحيح ، فالأصدقاء ، حسب هذا الفيلسوف ، هم ملاذنا الأول و الأخير الذي يمكن التشبت به في حالة الشقاء و البؤس أو عندما تحيط بنا الشدائد المتربصة بنا.
      نفهم من خلال هذا الكلام أن الصداقة في معناها الأرسطي ، هي تجربة معيشية و واقعية ترتبط بالمنفعة و بالمتعة ، لكنها تبقى في هذا المعنى نسبية تتوقف على هذين المعطيين ( المنفعة و المتعة ) ففقد تزول بزوالهما ، لكن إذا ارتبطت بالفضيلة فإنها ستمثل الصداقة الحقيقية التي تقوم على الخير و الجمال لذاتهما . ففي إطار صداقة الفضيلة ستتحقق المنفعة ز تتحقق المتعة . لكن يبقى هذا النوع من الصداقة نادر الوجود ، فلو تحقق لما احتاج الناس إلى القوانين التي تنظمهم .
           و من وجهة نظر أخرى تتقاطع مع مقاربة أرسطو لمفهوم العلاقة مع الغير، يعتبر إيمانويل كانط ( 1724 – 1804 فيلسوف ألماني ) أن العلاقة مع الغير هي علاقة صداقة يحكمها الحب و الاحترام المتبادل بين الذات و الغير، فأساس هذه الصداقة هو الإرادة الأخلاقية النابعة من مفهوم الواجب الأخلاقي الذي يفترض حضور نفس الاستعداد العقلي عند الطرفين معا ، كما يفترض أيضا الحب المولد للتجاذب و الاحترام المولد للتباعد . فبناء على هذا المعنى الأخلاقي الذي يقدمه كانط لمفهوم العلاقة مع الغير ، يمكن فهم أن الصداقة لا تقوم على المنافع المباشرة المتبادلة بين الذات و الغير بل تقوم على أساس أخلاقي محض .
          أما موقف إلكسندر كوجيف ( فيلسوف فرنسي من أصل روسي 1902 – 1968 ) عن هذه العلاقة التي تربط الذات بالغير ، فهو مختلف تماما عن موقف كل من أرسطو و كانط إ فإذا كان هذان الأخيران يعتبران الصداقة هي أساس هذه العلاقة ،  فإن ألكسندر كوجيف يعتبر أن العلاقة مع الغير يحكمها الصراع و الهيمنة و لا تحكمها الصداقة، . و هي على هذا الأساس ، تمشي وفق جدلية العبد و السيد التي بلورها هيجل . و مفادها هو أنه ، لكي يحصل الوعي بالذات ينبغي على الرغبة أن تتعلق بموضوع غير طبيعي أو بشيء يتجاوز الواقع المعطى ، كما أنها ينبغي أن تكون متعددة تخلق التفاضل الذي يستلزم خلق سلوكين متمايزين الأول يسعى إلى تحقيق السيادة و الثاني يحقق العبودية . فالإنسان لا يؤكد رغبته في العيش كإنسان إلا إذا خاطر بحياته الحيوانية . و هكذا نجد أن الإنسان ، بناء على نظرية هيجل هذه ، قد ظهر داخل قطيع يسوده راع قوي استمد قوته من خضوع الضعيف المستسلم في معركة يسودها قانون الغاب حيث لا يكون البقاء إلا للأقوياء.فالإنسان ، بهذا المعنى ، لم يستطع تحقيق حالة المجتمع والخرج من حالة الطبيعة البدائية ، إلا عندما استعمل القوة و سلطها على الغير من أجل السيطرة عليه و نزع الاعتراف بالذات منه .
      و من موقف الفلسفة الوجودية ، يعالج مارتن هيدجر مسألة العلاقة مع الغير، انطلاقا من اعتبارها تشكل أساس علاقة اشتراك بين الذوات الدال هنا على وضعية الإنسان في العالم من خلال تجربته الوجودية و من خلال علاقته بالكائنات البشرية الأخرى .فالعالم ، الذي نتواجد فيه ، هو نفس العالم الذي نتقاسمه مع الغير . فالوجود ( في - العالم ) هو الوجود في ( العالم – مع  ), و هذا يعني أن عالم ( الوجود – هنا ) ( الدزاين Desein   ) هو عالم مشترك ، و الوجود - من أجل  ، هو وجود مع الغير. و هذا يعني أن " الدزاين ( الوجود – هنا ) لا يتحكم في وجوده بل يعني أن ماهيته ليست شيئا آخر غير طريقة وجوده .
      لفهم العلاقة مع الغير ،  ينطلق موريس ميرلوبونتي ( 1909 –  1961 ، فيلسوف فرنسي )  من الربط بين تصورين فلسفيين لبناء تصور فلسفي جديد ، يتعلق الأمر بالتصور الوجودي الساتري لمفهوم السلب و العدم ( الآخر ليس هو أنا ) و التصور الفينومينولوجي ، كما بلوره إدموند هوسرل ( 1859 – 1938 ، فيلسوف ألماني ) ، الذي يعتبر أن العلاقة مع الغير هي بالأساس علاقة " بين – ذاتية " و عليه فالعلاقة مع الغير ، حسب موريس ميرلوبونتي ، تستلزم ، في تحقيقها ،  التركيز على فتح قنوات الحوار و التواصل مع الغير و عدم النظر إليه نظرة موضوعية تشييئية . فالنظرة إلى الغير لا تحول الغير إلى شيء ، كما أن نظرة الغير ، هي بدورها ، لا تحولني إلى موضوع ، اللهم إلا إذا انسحب كل واحد منا و قبع داخل طبيعته المفكرة و شعر بأن أفعاله  تخضع للملاحظة و كأنها مجرد حشرة ، بدلا من أن تقبل و تفهم. و عليه ، فنظرة شخص مجهول إلي لا تحولني إلى موضوع . فالامتناع عن التواصل هو في حد ذاته نوع من التواصل ، أي أنه  تعبير عن تواصل ممكن يتأتى و يتحقق بالنطق بالكلام ، الذي هو الكف عن تعالي الغير علي كذات . و هكذا ، فالمجال الذي كنت اعتقد أنه مستعصي علي بلوغه، أصبح ، بفضل التواصل و اللغة ، ممكن التحقق .
     تتأسس العلاقة مع الغير ، حسب أوغست كونت ( عالم اجتماع فرنسي ) على الغيرية L alterite  و نكران الذات و التضحية . و هي مبادئ ترسخ في الإنسان المحبة و تذكي في نفسه شعلة التعاطف. فالغيرية قيمة أخلاقية لا تختلف عن قيم العقل و العلم ، ففبها يتجاوز الإنسان أنانيته و ذاتيته الضيقة و غرائزه الحيوانية .
     أما جوليا كريستيفا ( 1941 ، عالمة لسان فرنسية من أصل بلغاري ) فإنها ترى أن الغير لفظة مشتقة من المغايرة أي الاختلاف ، و ما دام الأمر كذلك ، فالغير هنا ، هو الآخر الغريب و المختلف و الأجنبي المندس وسط جماعة تختلف عن جماعته الثقافية . الغير ، بهذا المعنى ، هو دلالة الحذر و التوجس و الكراهية التي يثيرها لدى الذات . إنه اسم نكرة مجهول العنوان ، لأنه لا يشاطر جماعة مرجعيتهم الثقافية المشتركة . إنه كائن دخيل ، و باعتباره كذلك ، فقد نظر إليه ، تاريخيا ، على أنه الذات المسؤولة عن كل الشرور التي ينبغي القضاء عليها من أجل إعادة الاستقرار و الأمن للجماعة .
      و الفعل ، فهذا الإقصاء المباشر لذات الغير نلمسه ، بشكل شعوري و لاشعوري ، في مجتمعنا المغربي ، في تمثلات الناس كحس شعبي مشترك ينطلق من ثنائيات معينة : عروبي \ مديني ، أمازيغي \ عربي ، فاسي \ عروبي ... فالغريب ، بهذا المعنى ، حسب جوليا كريستيفا ، هو غريب يسكن ثقافتنا على نحو غريب ، هو اسم مستعار للحقد و الاقصاء و التهميش .
     خلاصة تركيبية

     إن التفكير في العلاقة مع الغير ، يكشف عن إشكالية عميقة و غنية في طرحها لهذه المسألة الفلسفية . فالعلاقة بين الأنا و الآخر هي علاقة جد مركبة . فالغير ، كما رأينا على المستوى الأنطلوجي ، نجده قد يتحدد إما جدليا  ( هيجل ) أو إما ذاتيا ( ديكارت ) ، أو على المستوى المعرفي ، نجده قد تحدد وفق نظرة تشييئية ( سارتر ) أو وفق مقاربة تجعل من المشاركة الوجدانية المحدد الأساسي لمعرفته ( ميرلوبونتي ) أو وفق مقاربة تراه من منظور يتوخى الشمولية ( شيلر ) أو وفق المنظور البنيوي المحدد للموضع الذي تثبت عليه ذوات الأغيار ( دولوز و غاتاري ) ، أو على المستوى العلائقي ، حيث نجد الغير قد تحددت علاقته بالذات وفق تصورات عديدة تتأرجح ما بين النظرة الإقصائية  و النظرة الأخلاقية الوجدانية و النظرة التي تريد تؤسس العلاقة مع الغير على أسس الحوار و الاختلاف و المغايرة .      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق