الغير
تأطير إشكالي للمفهوم
ستكون الإجابة بالنفي لو طرحنا السؤال التالي: هل
يستطيع الشخص أن يعيش بمعزل عن الآخرين في هذا العالم ؟ ذلك أن الآخر يكون دائما
حاضرا و موجودا جنبا إلى جنب مع الذات لتأسيس الوجود الإنساني . فقد يكفينا النظر
إلى مختلف المواقف و المشاعر المختلفة و المتناقضة كالحب و الصداقة و الكراهية و العنف
لنحكم أن الغير، هو دائم الحضور ، يساهم
معنا بشكل كبير في تشكيل هذه المواقف و
تلك المشاعر. بل أكثر من ذلك،يمكن القول أن الغير ، هو ّ أنا آخر " له أفكاره
المختلفة عن أفكارنا، يقف في وضعية مقابلة لنا ، وضعية المواجهة ، التي قد تتخذ
صفة الصداقة أو صفة العداوة التي يغذيها الصراع .
يفيدنا
الرجوع إلى الدلالة اللغوية في رفع اللبس عن معنى الغير. فهو يشير في معناه إلى
المغايرة و الاختلاف. ففي اللغة العربية يتضمن الغير معاني تفيد الغيرة و المبادلة
و التغير ، و يقابله في الفرنسية لفظ Autrui
أو Autre للدلالة على الغيرية L autruite حيث يكون العالم الإنساني مجرد مستوى من
مستوياته .
كما
يفيدنا الرجوع إلى دلالته الفلسفية في تعميق معناه و جعله يكتسب، إلى جانب
الغيرية و التعدد و الاختلاف، صفة الغموض.
و
هكذا ، فالتجارب الإنسانية العديدة توضح لنا بالملموس أن الغير يؤسس المجتمع و
يبني المعتقدات و يشكل الطقوس الملازمة لها على أساس أنها نابعة منه بحيث تكتسب صفة
الغرابة و الغموض ، انطلاقا من الحكم عليهاإما بالاستحسان أو بالاستهجان.
و بناء عليه، يتحول الغير ، فلسفيا ، من كائن مألوف لدينا إلى كائن ذو بنية غامضة له
مجاله الذي يتصدع فيه وعينا ، بحيث يصبح مشكلة حقيقية تهدد وجودنا كذوات حرة و
مستقلة ، و يتحول بالتالي ، إلى بؤرة لمفارقات منطقية و وجودية تدفعنا إلى طرح
مجموع تساؤلات حول إمكانية معرفته معرفة حقيقية و حول إمكانية خلق علاقات تواصلية
معه و ما قد يترتب عنها من رهانات أخلاقية.
و
لتأطير هذا المفهوم فلسفيا ، يمكن القول ، أن تاريخ الفلسفة لم يعرف أي بلورة له
قبل الفلسفة الهيجلية. فديكارت في كتابه " تأملات ميتافيزيقية " قد رصد
الغير ك " شخص آخر " La personne de l autre ، ذلك الشخص التي ترصده أعيننا عبر نافذة مطلة
على شارع عام ، دون أن يسعى إلى ترقيته إلى مصاف الذات المفكرة ، و ذلك باعتباره يشكل
مشكلة جديدة و خاصة ، تجعل منه ذات أخرى لها وجود حقيقي يعادل وجود الذات المفكرة
. فالأنا المنعزل و الوحداني غير المرتبط بالآخرين ( الأنا وحدي ) ، الذي صاغه
ديكارت في رحلة الشك و بناء الذات المفكرة و العارفة ، قد أعلن، مواجهة ميتافيزيقية بين " الأنا المفكر
" و بين " الشخص الآخر " La personne de l autre . هذه المواجهة نجدها قد أغفلت
، في نظر مشال فوكو ، عنصرا آخر مركزيا ( الغير ) و أقصته من دائرة انشغالها الفكري .
فبفعلها ذاك ، يقول فوكو ، تكون قد أبعدت
إشكاليات أخرى مركزية كإشكالية المجتمع و التاريخ و الحضارة .
لقد
تشكل الغير إذن ، كمفهوم فلسفي ، مع هيجل ، الذي لم يعتبر ، في كتابه الهام :
" فينومينولوجيا الروح " وجود الغير وجودا عرضيا ، كما فعل ذلك ديكارت ،
بل اعتبره وجودا مكونا لوجود الأنا .هذا التشكل جعل من اللحظة الهيجلية لحظة تأسيس فلسفي لطبيعة العلاقة بين الأنا و
الآخر . حيث لا يحصل الوعي بالذات انطلاقا من الوعي بنفسها كذات ، بل يحصل عبر
تعرف هذه الأخيرة على نفسها في موضوع غريب عنها ( الرغبة في الآخر ) . فالغير ،
بناء على ما تقدم ، لا يتجلى للذات إلا من خلال فكرة الصراع الجدلي للذوات ، أي عندما يتم الاعتراف
بوجوده كذات مغايرة تدخل في علاقة صراع من أجل إثبات الذات .
قد
يشكل الغير بعدا أساسيا في حياتنا رغم انغلاق الذات في عالمها الداخلي . فالعلاقة
مع الغير هي علاقة اشتراك مع الذوات ، تكون دالة على وضعية الإنسان في هذا العالم
و تجربته الحية . هذه العلاقة تدعونا إلى رفع الغرابة عن ذات الغير و بالتالي
احترام الإنسانية في شخصه و مبادلة نظراته و تصرفاته الغريبة بتصرف صعب : تصرف القريب
و البعيد ، تصرف الشبيه لذواتنا و المختلف عنها في نفس الآن .
و
في الأخير ، إذا كان وجود الغير وجودا حقيقيا يتأتى بفعل صراع الذوات، كما رأينا ذلك
مع هيجل، فهل بإمكاننا بناء معرفة يقينية عنه ؟ و كيف يظهر هذا الغير في تجربتنا
داخل العالم كإدارك معبر عن تجربة إنسانية و جسدية مختلفة منزاحة عن المركز ؟ هل
عالم الأنا عالم داخلي و مغلق لا يستطيع الغير اقتحامه أم هو عالم منفتح يقبل
غيرية الآخر، ذلك الآخر المختلف عنا في ثقافته و أنماط عيشه و سلوكه و توجهاته
الفكرية و القيمية ؟
هذا
ما سنحاول مقاربته في المحاور التالية :
-
وجود الغير
-
معرفة الغير
-
العلاقة مع الغير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق