السبت، 9 نوفمبر 2013

الغير : تأطير إشكالي للمفهوم


الغير

تأطير إشكالي للمفهوم

        ستكون الإجابة بالنفي لو طرحنا السؤال التالي: هل يستطيع الشخص أن يعيش بمعزل عن الآخرين في هذا العالم ؟ ذلك أن الآخر يكون دائما حاضرا و موجودا جنبا إلى جنب مع الذات لتأسيس الوجود الإنساني . فقد يكفينا النظر إلى مختلف المواقف و المشاعر المختلفة و المتناقضة كالحب و الصداقة و الكراهية و العنف لنحكم أن الغير، هو دائم الحضور ،  يساهم معنا  بشكل كبير في تشكيل هذه المواقف و تلك المشاعر. بل أكثر من ذلك،يمكن القول أن الغير ، هو ّ أنا آخر " له أفكاره المختلفة عن أفكارنا، يقف في وضعية مقابلة لنا ، وضعية المواجهة ، التي قد تتخذ صفة الصداقة أو صفة العداوة التي يغذيها الصراع .

     يفيدنا الرجوع إلى الدلالة اللغوية في رفع اللبس عن معنى الغير. فهو يشير في معناه إلى المغايرة و الاختلاف. ففي اللغة العربية يتضمن الغير معاني تفيد الغيرة و المبادلة و التغير ، و يقابله في الفرنسية لفظ Autrui أو  Autre  للدلالة على الغيرية L autruite  حيث يكون العالم الإنساني مجرد مستوى من مستوياته .

    كما يفيدنا الرجوع إلى دلالته الفلسفية في تعميق معناه و جعله  يكتسب، إلى جانب الغيرية و التعدد و الاختلاف، صفة الغموض.   

     و هكذا ، فالتجارب الإنسانية العديدة توضح لنا بالملموس أن الغير يؤسس المجتمع و يبني المعتقدات و يشكل الطقوس الملازمة لها على أساس أنها نابعة منه بحيث تكتسب صفة الغرابة و الغموض ، انطلاقا من الحكم عليهاإما بالاستحسان أو بالاستهجان.

     و بناء عليه، يتحول الغير ، فلسفيا ،  من كائن مألوف لدينا إلى كائن ذو بنية غامضة له مجاله الذي يتصدع فيه وعينا ، بحيث يصبح مشكلة حقيقية تهدد وجودنا كذوات حرة و مستقلة ، و يتحول بالتالي ، إلى بؤرة لمفارقات منطقية و وجودية تدفعنا إلى طرح مجموع تساؤلات حول إمكانية معرفته معرفة حقيقية و حول إمكانية خلق علاقات تواصلية معه و ما قد يترتب عنها من رهانات أخلاقية.

    و لتأطير هذا المفهوم فلسفيا ، يمكن القول ، أن تاريخ الفلسفة لم يعرف أي بلورة له قبل الفلسفة الهيجلية. فديكارت في كتابه " تأملات ميتافيزيقية " قد رصد الغير ك " شخص آخر " La personne de l autre  ، ذلك الشخص التي ترصده أعيننا عبر نافذة مطلة على شارع عام ، دون أن يسعى إلى ترقيته إلى مصاف الذات المفكرة ، و ذلك باعتباره يشكل مشكلة جديدة و خاصة ، تجعل منه ذات أخرى لها وجود حقيقي يعادل وجود الذات المفكرة . فالأنا المنعزل و الوحداني غير المرتبط بالآخرين ( الأنا وحدي ) ، الذي صاغه ديكارت في رحلة الشك و بناء الذات المفكرة و العارفة ،  قد أعلن، مواجهة ميتافيزيقية بين " الأنا المفكر " و بين " الشخص الآخر " La personne de l autre  . هذه المواجهة نجدها قد أغفلت  ، في نظر مشال فوكو ، عنصرا آخر مركزيا  ( الغير ) و أقصته من دائرة انشغالها الفكري . فبفعلها ذاك  ، يقول فوكو ، تكون قد أبعدت إشكاليات أخرى مركزية كإشكالية المجتمع و التاريخ و الحضارة .

     لقد تشكل الغير إذن ، كمفهوم فلسفي ، مع هيجل ، الذي لم يعتبر ، في كتابه الهام : " فينومينولوجيا الروح " وجود الغير وجودا عرضيا ، كما فعل ذلك ديكارت ، بل اعتبره وجودا مكونا لوجود الأنا .هذا التشكل جعل من اللحظة الهيجلية  لحظة تأسيس فلسفي لطبيعة العلاقة بين الأنا و الآخر . حيث لا يحصل الوعي بالذات انطلاقا من الوعي بنفسها كذات ، بل يحصل عبر تعرف هذه الأخيرة على نفسها في موضوع غريب عنها ( الرغبة في الآخر ) . فالغير ، بناء على ما تقدم ، لا يتجلى للذات إلا من خلال فكرة  الصراع الجدلي للذوات ، أي عندما يتم الاعتراف بوجوده كذات مغايرة تدخل في علاقة صراع من أجل إثبات الذات .

     قد يشكل الغير بعدا أساسيا في حياتنا رغم انغلاق الذات في عالمها الداخلي . فالعلاقة مع الغير هي علاقة اشتراك مع الذوات ، تكون دالة على وضعية الإنسان في هذا العالم و تجربته الحية . هذه العلاقة تدعونا إلى رفع الغرابة عن ذات الغير و بالتالي احترام الإنسانية في شخصه و مبادلة نظراته و تصرفاته الغريبة بتصرف صعب : تصرف القريب و البعيد ، تصرف الشبيه لذواتنا و المختلف عنها في نفس الآن .  

    و في الأخير ، إذا كان وجود الغير وجودا حقيقيا يتأتى بفعل صراع الذوات، كما رأينا ذلك مع هيجل، فهل بإمكاننا بناء معرفة يقينية عنه ؟ و كيف يظهر هذا الغير في تجربتنا داخل العالم كإدارك معبر عن تجربة إنسانية و جسدية مختلفة منزاحة عن المركز ؟ هل عالم الأنا عالم داخلي و مغلق لا يستطيع الغير اقتحامه أم هو عالم منفتح يقبل غيرية الآخر، ذلك الآخر المختلف عنا في ثقافته و أنماط عيشه و سلوكه و توجهاته الفكرية و القيمية ؟

     هذا ما سنحاول مقاربته في المحاور التالية :

-          وجود الغير

-          معرفة الغير

-          العلاقة مع الغير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق