الثلاثاء، 16 يونيو 2020

الثقافة العربية.. والاختيار الثقافي العربي الواعي

الثقافة العربية.. والاختيار الثقافي العربي الواعي

بقلم : عبد الجبار الغراز 

يمكن القول بعد عرضنا في المقال السابق، لهذا الإطار العام حول الثقافة وأدوارها الطلائعية، أن ثقافتنا العربية لا تشذ عن هذا التوصيف، لأنها غنية بروافدها المتنوعة لكنها في الوقت الحالي وبتعبير "هاشم صالح" المفكر السوري، تعيش انسدادا تاريخيا، وتحتاج إلى التجديد لتغدو ثقافة تنويرية. فهل ينبغي "يتساءل" هذا المنظر أن نعيش كل هذه الحروب وما يرتبط بها من دمار وويلات وكوارث حتى تنبثق الأفكار التنويرية من رحمها؟ فالحاجة إلى التنوير، في نظره يعني انبثاق الأفكار من رحم التراث والبحث في التاريخ عن سبل جديدة لفهم الموروث الثقافي، وتربية النشء على الفكر العقلاني والحس النقدي. 
       
لكن هذا التنوير لا يعتبر معطى جاهزا، بل يحتاج في نظر محمود أمين العالم إلى تحديث البنيات الفكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعيش ركودا، حتى تستطيع الثقافة العربية أن تقوم بأدوارها على أكمل صورة. فالعقول الصغيرة تستقي من الماضي أفكارها الظلامية لتبعث بها روح التعصب وتذكي نار الحروب الطائفية والمذهبية. بينما تستلهم العقول الكبيرة من الماضي وتراث الأسلاف ما ينير طريقها نحو بناء مستقبل مشرق للأمة وللمجتمع. فكل بنية جديدة متشكلة ينبغي أن تكون إضافة نوعية إلى النسق الذي تنتسب إليه. والتحديث في نظر هذا المفكر، لا يكون حقيقيا إن لم يكن له صفة الإضافة النوعية وصفة الشمولية فدون ذلك يعتبر تعديلا في مستوى النسق أو ترقيعا في جزء من أجزاءه.
    
لقد ظلت الثقافة العربية لقرون عديدة مظلمة تعيش وضعية الجمود، بعد أن كانت في العصور الوسطى ثقافة حية وذات فاعلية متماهية مع عمقها الحضاري المشرق الشيء الذي يتطلب منها في فترتنا المعاصرة، أن تخرج من عزلتها وتنسف قواعد الجمود والتحجر التي تأسست عليها، من أجل الانفتاح على الرصيد الثقافي العالمي والمساهمة مع ثقافات العالم في تشكيل حضارة إنسانية فاعلة، وتخصيب كيانها، دون أن يعني ذلك الانبهار بما أنتجه الغير من معارف ومبتكرات جديدة وما ارتبط بها من أدوات وتقنيات جد متطورة.

  
لا يخفى على أحد منا أن أشكال المعارف والتعبيرات الثقافية الحديثة قد ارتبطت ببنية مجتمعية عربية عتيقة في عمقها
 
فالطبيعة الحالية للثقافة العربية ومختلف الوظائف الاجتماعية والفكرية "الجديدة" التي تملأها في ظلل عوامل التغريب والاستيلاب التي يتعرض لها الإنسان العربي، وفي ظل واقع عربي متسم بالتعقد والتركيب، تفرض على الباحثين التسلح بالموضوعية والحذر المنهجي، لتحليل مختلف عناصرها المكونة لها وتوصيفها توصيفا حقيقيا. فلا يخفى على أحد منا أن أشكال المعارف والتعبيرات الثقافية الحديثة قد ارتبطت ببنية مجتمعية عربية عتيقة في عمقها. وقد استطاعت هذه الأشكال تكييف إنتاجاتها وإبداعاتها وعطاءاتها مع واقع عربي منشد في عمقه إلى الماضي. وهذا الأمر استلزم ضرورة طرح تساؤلات حول مدى نجاعة المنهجيات المرتبطة بها في قراءة هذا الواقع وهذه البيئة الاجتماعية المركبة.
  
لهذا، ينبغي أن تكون مواقف النخب الثقافية العربية المعاصرة من هذا التحديث المنشود مواقف متجانسة، حتى نستطيع أن نقول إن هناك صيغة عامة متفق عليها من طرف الكل، أو على الأقل من طرف الأغلبية، ترسم لنا صورة متكاملة عن الاختيار الثقافي العربي الواعي الذي يقود المجتمع إلى التقدم والازدهار. وعليه ومن أجل تحقيق هذه النظرة المستقبلية ينبغي إنعاش روح وعي نهضوي عربي جديد، شبيه بذلك الذي ابتدأ أواخر القرن 19، شريطة أن يقيم مع هذا الأخير مسافة نقدية، ينتقل من خلالها من الوعي الإيديولوجي إلى الوعي التاريخي الجدلي التركيبي، بحيث تكون له القدرة على قراءة تحولات الزمن ومتغيراته الكمية والكيفية، ليستطيع بها استئناف عمله التحديثي، رغم العثرات والانتكاسات التي يعرفها الآن مجتمعنا العربي.

 
إن تسارع وثيرة التحولات العميقة التي يشهدها العالم المتحضر يتطلب من هذا الوعي مراجعة الحسابات وإعادة النظر في بعض المنطلقات الخاطئة التي أملتها ظروف الحرب الباردة، والتوقف عند مختلف التفاعلات التي حدثت مع ثقافات العالم من أجل تقييمها. وستكون الثقافة العربية، تبعا لهذه النظرة المستقبلية، أداة تمحيص وإدماج ونقد تتعرف من خلالها الذات العربية على نفسها وما يكتنفها من تناقضات ومفارقات بين ماض تنشد له العقول وحاضر متجدد باستمرار ومستقبل منفتح على جميع الممكنات.
عن موقع مدونات الجزيرة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق