عبد الجبار
الغراز
في ظل الوضع المتردي الذي يشهده عالمنا العربي المعاصر،
نطرح على أنفسنا التساؤلات التالية:
كيف نستطيع، كأمة، الخروج من هذه الدائرة المغلقة، دائرة الاقتتال
و حرب الكل ضد الكل؟
و هل من سبيل إلى " يقظة عربية
حديثة" ثانية شبيهة بتلك اليقظة الأولى التي حدثت في القرن التاسع عشر ، و
التي ربطت تقدمنا بتوفير شروط معينة كشرط التحرر السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي
و الفكري، و شرط إرساء أسس الديمقراطية
الحقيقية و شرط صون الحقوق و ضمان الكرامة و شرط تحقيق العدالة الاجتماعية للجميع
؟
و ما موقفنا ، كنخبة مثقفة ، من كل هذه
الصراعات الطائفية و المذهبية ، الذي نخر اشتداد حدتها في الآونة الأخيرة ، جسمنا
الثقافي و شوه معالمه بعد أن كان مكونا حضاريا ذو حضور وازن في الثقافة العالمية
المعاصرة و ذو مكانة راقية استمدها من ماضيه المشرق ؟
و بأي معنى يمكن تفسير هذا النكوص ، و هذا
التراجع الخطير الذي شاب ثقافتنا العربية حتى غدت ثقافة راكدة لا توقظ في وجدان
الأمة سوى الخنوع و الاستسلام و الانهزامية ، و لا تشحن في الهمم و في النفوس كل
طاقة متجددة تساعد على النهوض و المضي قدما نحو بناء المستقبل المشرق ، بدل
الاكتفاء بالالتفات إلى الماضي و التباكي بحسرة على أمجاد الأجداد ؟
ألم يحن الأوان بعد، للتفكير بجدية في التخلف الفكري التي تعاني منه
مجتمعاتنا العربية و الإسلامية، و الذي أصبح سمة بارزة طبعت كياننا، فبتنا نعرف
بها عند القاصي و الداني ؟
أما من وسيلة ممكنة ترفع عنا هذا التأخر
التاريخي الجاثم على الأرواح و الكاتم للأنفاس التواقة للتغيير؟
ألا ينبغي ، في الأخير ، و الحالة هذه ،
تبني الفكر الحدااثي و الدفاع عن قيمه التي تولدت عنه ؟
يمكن القول ، كمحاولة للإجابة عن بعض من
هذه الأسئلة ، أن الغرب الليبرالي قد استنفذ أغراض القطبية الأحادية ، و أصبح
العالم ، بفعل ذلك ، يعيش مرحلة بداية نهاية نظرية " نهاية التاريخ " ل
" فوكوياما ". فما نراه و ما نشاهده ، على مستوى الساحة السياسية العالمية
، من غليان و فوران الأطراف على المركز لشاهد على ما قلناه . ذلك، أن للتاريخ منطق
خاص به يفيد بأن كل الكائنات التاريخية تتعرض ، بشكل حتمي ، لحوادث تسعى إلى تشكيل
تلك الكائنات ، في بداية الأمر ، في صورة بنية
متماسكة داخليا ، لكن ، بعد حين من الدهر، يشوب الخلل العناصر ، لتلحقها
الأضرار و الإعطاب ، فتؤول إلى الفساد
التدريجي الذي يعقبه الزوال و الاندثار. و معنى هذا القول أن لا تجربة حضارية
ستثبت، إلى ما لا نهاية، على وضع واحد في الزمان و في المكان .
فأمام هذا " المكر التاريخي "، أصبحنا ، نحن العرب ، مدعوين أكثر من غيرنا من
سائر الأمم المعاصرة ، إلى التفكير في تبني إستراتيجيات عربية موحدة تجعلنا ننفض
عنا غبار ما خلفته الأحادية القطبية من دمار و خراب عصف ب" حلمنا العربي
" الذي كاد ، بالأمس القريب ، أن يكون قابلا للتحقيق ، لولا انخراطنا ، بوعي
منا أو بدونه ، في رسم خطوط هذه التجربة التاريخية و الاقتصادية اللبرالية الغربية
الموسومة ب " العولمة " ،
إذ لم يسعفنا هذا الانخراط في تحقيق
التحرر الاقتصادي و السياسي و الفكري المنشود ، بل قادنا، على العكس من ذلك ، إلى
الصراع المؤدي إلى التفرقة و التشرذم .
ينبغي علينا، و الحالة هذه ،
إذا أردنا الخروج من هذا المأزق ، الانتباه إلى مختلف العوامل الإيجابية ،
السياسية منها و الاقتصادية و الفكرية ، التي راكمنا من خلالها ، منذ أكثر من قرن و نيف ، تجارب حياتية عديدة مفيدة و بناءة للذات الجماعية .
هذه التجارب قد ساعدتنا على تجاوز معضلات تولدت
زمن الحرب الباردة ، و هاهي الآن ، ستساهم ، و لا شك ، إن أحسنا استثمارها
عقلانيا، في تفكيك ما قد تم تركيبه ، سلبا ، مع بداية الألفية الثالثة إلى الآن ،
من معضلات جديدة ، كما ستساعدنا أيضا على التحرر من تبعاتها نهائيا .
معضلات شكلت إطارا واسعا باديا للعيان ، ارتسم داخله وضع عربي
مأزوم ، وعكس ، بشكل تعسفي ، لأنظار
العالم ، صورة قاتمة و مشوهة لأنسنتنا العربية الأصيلة .
فالمعركة الحقيقية التي
تنتظرنا أن نخوضها جميعا ، كعرب هي معركة التحرر الاقتصادي و السياسي و الفكري ،
معركة بناء الذات وفق رؤية لا تتصالح مع
الماضي إلا عند اعتماده كقاعدة ثقافية مركبة تدخل في تكوينها ثقافة الذات و ثقافة
الآخر ، و لا تنظر إلى الحاضر كمجرد محطة عبور عابرة .
فهذا الطابع الجديد الذي يسم
نظرتنا للماضي و للحاضر هو طابع كيفي سيساعدنا على رسم الخطوط العريضة للمستقبل
الواعد. فقد نفشل أثناء خوضنا لمعاركنا الحضارية ، و قد نتعثر بسبب طبيعة المسالك
الوعرة التي تطأها أقدامنا ، لكن الإصرار على مواصلة المسير هو وحده الكافي لإقناع
أنفسنا أن نقطة الوصول إلى المبتغى ، مهما بعدت ، لن تكون ، هذه المرة ، سرابا ، بل واقعة حقيقية .
و في الأخير يمكن القول بأن
لا سبيل إلى ربح رهان هذه المعركة إلا بالتثقيف و نشر الوعي في صفوف الشباب و إصلاح المنظومة التربوية . فمسيرة بناء الذات
و الكيان الجماعي تتطلب أن نفحص ، بكل جدية و بكل عقلانية ، أعطابنا المركزية و
ذلك بمحو تلك الصورة التي كوناها عن أنفسنا ، و تكرست في أذهان الغرب كصورة نمطية
للإنسان العربي .
نحن نعيش الآن في مفترق الطرق
، و العالم من حولنا يتغير بسرعة . و هذا
يتطلب ضرورة التصرف على وجه عقلاني أكمل للتكيف الإيجابي معه . فلا محيد لنا، إذن
، عن تحمل مسؤولياتنا التاريخية الكبرى التي تنعكس ، سلبا أو إيجابا ،على أبنائنا
و أجيالنا اللاحقة .. فلا منأى لأحد منا عن هذا التغير. فهدر الفرص في التنمية و
تحديث البنيات السياسية و الاقتصادية و الفكرية معناه إنتاج مزيد من المآزق و
المثبطات.
نشر بمجلة الهوية الكويتية بتاريخ 2 أغسطس - غشت 2015 تحت عدد 82 .
نشر بمجلة الهوية الكويتية بتاريخ 2 أغسطس - غشت 2015 تحت عدد 82 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق