كرنفالات فاتح ماي .. نحو تأسيس خطاب مناهض لعنف الشغل
بقلم : عبد الجبار الغراز
تتظاهر
الشغيلة في كل أرجاء المعمور في اليوم الأول من شهر ماي من كل سنة ،
احتفالا بعيد الشغل . فهذا العيد
الأممي يشكل بالنسبة إليها فرصة
للاحتفال و الاعتزاز بمختلف الإنجازات
الكبيرة التي تم تحقيقها ، و في نفس الوقت يشكل فرصة للتعبير عن مطالبها المشروعة
و العادلة في تكريس العدالة الاجتماعية و المنصفة و تحقيق المساواة .
و نحن في هذه المناسبة
السعيدة ، نقف وقفة المتأمل في كل ما يرمز إليه هذا العيد الأممي من دلالات و معان
. و لعلها أهمها ينصب ، على المستوى الفلسفي ، على نقد مفاهيم تتاخم مفهوم الشغل كمفهوم
مركزي ، يتعلق الأمر بمفهومي "الاستلاب
" و " الحرية " . فبين هذين
المفهومين تتشكل مسيرة نضالية كبيرة تجمع بين كل الأطياف من عمال و مثقفين و طلبة
و هيئات نقابية و جمعيات حقوقية، تحاول
بعزم و طموح تجاوز تلك الوضعيات التي يفرزها واقع الشغل في كل أرجاء العالم ،
مكرسة خطابا مضادا و مناهضا لخطاب الشغل ، الذي يتأرجح بين اعتباره يشكل عامل
استيلاب و في اعتباره ، في مقابل
ذلك ، يشكل عامل تحرر .
فكل
التعريفات الفلسفية و الأنثروبولوجية التي حددت الإنسان قد عبرت عن جانبين إثنين ،
الأول واع و الثاني لاواع . فالجانب الأول
فقد أظهرت فيه الإنسان على أنه كائن قد انسلخ عن مملكة الحيوان بفضل ما يتميز به
من عقل و وعي . و هذا شأن الفلسفات الكلاسيكية ابتداء من أرسطو ( الإنسان حيوان
ناطق ) و مرورا بالفلسفة الإسلامية مع ابن رشد و انتهاء بالفلسفة الحديثة مع
ديكارت و هيوم و كانط و فيخته و هيجل . أما الجانب الثاني فقد أظهرت فيه الإنسان
على أنه كائن تتحكم فيه غرائز و رغبات و
أهواء و تتجاذبه ميولات لاواعية و هذا شان
ماركس في نقده للإيديولوجيا كوعي زائف و نيتشه في نقده للوعي السطحي ، و
مدرسة التحليل النفسي مع فرويد في تحليلها لبنية اللاشعور، والوجودية
السارترية في نقدها للعقل ، و مدرسة فرانكفوت في نقدها للإنسان المعاصر . و
كتوفيق بين النظريات الكلاسيكية و النظريات المعاصرة في فهم جوهر الإنسان ، يمكن
القول مع الفيلسوف الألماني الماركسي إرنست بلوك أن الإنسان لديه حاجات نابعة من
رغباته المتعددة . و الحاجات هي بطبيعتها تعبير عن عوز و نقص ، فهي لا تتحقق إلا
ارتبطت تلك الرغبات بالإرادة الواعية التي
ينبغي لها أن تتوفر لديها وسائل التنفيذ
" فلا وجود لإرادة غير مسبوقة برغبة قابلة للتنفيذ " .
فبناء
على هذا التأطير العام، يمكن القول أن الإنسان لا يتحدد في جوهره كإنسان إلا من خلال
خاصية ملازمة له ، ألا وهي خاصية الشغل ، تلك
الخاصية التي جعلت منه كائنا فاعلا و مبدعا قام بتحويل الطبيعة ، كمادة خام ، إلى
عناصر صناعية قابلة للاستعمالات لمتعددة .
لقد عبرت ظاهرة الشغل عن مفارقة فلسفية
تضمنت تقابلا جعل ، بالتالي ، من الشغل ،
من جهة أولى ، فاعلية إنسانية تقود الإنسان نحو الإبداع و الابتكار و بالتالي نحو
التحرر ، و من جهة ثانية ، جعل منه أداة سيطرة و تبعية و عبودية . و هذا
التقابل يدفعنا إلى طرح التساؤلات التالية :
ما الشغل ؟ و لماذا يعتبر في نظر العديد من المفكرين و
الفلاسفة ، فاعلية إنسانية و خاصية ماهوية مرتبطة فقط بالنوع الإنساني دون باقي
أنواع الكائنات الأخرى ؟ و هل يمكن الحديث ، في إطار التقسيم الاجتماعي و التقني
للعمل ، عن استيلاب الإنسان جراء شعوره
بنوع من الاغتراب و الغربة عن منتوج عمله المسلوب منه ؟ هل يمكن إدخال الشغل في خانة الإيجابيات أم
في خانة السلبيات ؟ بمعنى آخر : هل الشغل هو أداة استعباد و سيطرة و تبعية ، أم هو
عامل يسعى إلى تحرير الإنسان من تلك الطاقة السلبية الكامنة فيه ؟ و
بأي معنى يمكن فهم أن الشغل يشكل عامل تحرر ،
يسترد بواسطته الإنسان ذاته و حريته
و كرامته المسلوبتين ؟
يعتبرالشغل ظاهرة تتسم بالتعقد . و وجه تعقد
هذه الظاهرة يتجلى في كونها ، في نفس الوقت ظاهرة فلسفية و سياسية و اقتصادية و
سوسيولوجية . فقد ارتبطت هذه الظاهرة أولا
بالإنسان و ثانيا بالمجتمع البسيط في تركيبته العضوية، و ثالثا بمستوى معين من تطور هذا المجتمع التقني و الإنتاجي . و قد استطاع الإنسان
بفضلها أن يصون كرامته و يحقق إنسانيته و آدميته . و لكن ، و في المقابل ، اعتبرت هذه الظاهرة عنصر استيلاب
و أداة اغتراب تمحي وجود هذا الإنسان و
تطمس هويته .
لقد اختلف عدد كبير من المفكرين و الفلاسفة
حول الغايات و الدوافع الرئيسية التي جعلت الإنسان يعمل ، و بالتالي ينسلخ بفعل
ذلك عن مملكة الحيوان التي كان ينتمي إليها منذ أزمان سحيقة . فالبعض منهم قد
اعتبر أن الشغل هو استجابة عضوية لتجدد الطاقة لدى الكائن الإنساني حتى يضفي طابع
الاستمرارية على حيويته و نشاطه. بينما اعتبره البعض الآخر ، استغلالا للجهد
العضلي و الفكري من أجل الكسب أو ضمان لقمة العيش واستجابة لدوافع نفسية لانتزاع
الاعتراف من المجتمع أو إثبات الذات . كما أن ،
البعض الآخر اعتبره نشاطا منظما و مهيكلا و ممأسسا غايته تحقيق الجودة و
مراكمة الثروات و الزيادة في الإنتاج لتحقيق الرخاء الاقتصادي و الازدهار
الاجتماعي و الاستقرار السياسي . فبفضله راكم الإنسان تجارب إنسانية ساعدته على
سرعة التكيف مع المستجدات التي يفرضها محيطه . لكن و بالرغم من كل هذه الاختلافات
في تحديد دوافع الشغل ، فقد أجمع الكل أن الشغل يشكل ، و بكل المقاييس ، الظاهرة
الإنسانية بامتياز كبير.
عادة ما يتم الحديث عن حيوانات تشتغل، كالنمل
و النحل و العنكبوت مثلا ، لكن ، حسب ماركس، تلك الحيوانات لا تشتغل، لأن ما تقوم
به من أعمال يعتبر شيئا آليا نابعا من صميم غريزتها . فالإنسان هو الكائن الوحيد
الذي يمتلك خاصية الشغل . و قد ظهرت هذه الأخيرة كنتيجة تفكير مسبق عن كل إنجاز . فبفضلها تمثل
الإنسان مواد الطبيعة و أعطاها صورة تفيد حياته. الشغل إذن ، بحسب هذا المعنى
الماركسي، هو فعل قد أثر على الطبيعة الخارجية و غيرها ، وبقيامه بذلك فقد غير أيضا
حتى الطبيعة الإنسانية ذاتها .
لكن هذا المظهر الأولي للشغل الذي ظهر
كعنصر محرر للإنسان من جور الطبيعة و جبروتها ، لم يصمد مع ظهور الأزمنة الحديثة ،
التي ارتبط اسمها بنهضة شاملة قد مست جميع الهياكل و البنيات السياسية و
الاقتصادية و الفكرية في أوربا . نتيجة تطور النظام الرأسمالي كنسق انبنى على الملكية الفردية لوسائل الإنتاج وعلى الربح
السريع و والعمل المأجور و الوفرة في الإنتاج و الاستهلاك و التوسع و الاستغلال ،
فقد تحول الشغل من أداة لتحقيق الرخاء و الازدهار و التقدم في جميع الميادين ، إلى
قوة استيلاببية تستنزف العامل و تحوله إلى مجرد قوة عمل تستغل جهده .
فإذا كان تقسيم الشغل وسيلة ناجعة للزيادة في
الإنتاج و الاستهلاك و تحقيق المردودية و الرفاه ، كما عبر عن ذلك آدم سميت ،
فإنه في المقابل من ذلك ، قد أدى إلى تدمير الماهية الحقيقية للإنسان
التي تكمن في حريته و كرامته و استقلاليته . العضلي و النفسي مقابل أجر زهيد . فالفيلسوف
الألماني فريديريك نيتشه يكشف لنا أن الشغل ما هو إلا أداة قوية و جبارة تعمل " بلا هوادة على عرقلة تطور العقل و الغرائز
و الإحساس بالاستقلالية ". فالشغل بهذا المعنى يشكل قوة مضادة تستنفذ قوة الإنسان الساعية إلى
الحيوية ، و" هدف يؤمن الإشباع السهل و المنتظم " فالأمن الذي أصبحنا
نعشقه كما لو كان من طبيعة إلهية ، يقول نيتشه، دائما يسود في الأماكن التي يكون
فيها العمل شاقا و متواصلا
و إذا كان الشغل ، حسب ميشال فوكو قد نشأ
كتحد طبيعي للموت ، و للندرة و تقلص موارد العيش ، بحيث اعتبر ، في هذا الصدد ،
إيذانا بالبحث عن آليات جديدة لاستخراج ما تزخر به الطبيعة من خيرات ، فأنه حسب ،
هيبرت ماركيوز ، قد حول الإنسان المعاصر و اختزله ، مع تطور علمنا التكنولوجي ، إلى
مجرد آلة تعمل و تستهلك و تساهم في تسريع وتيرة منظومة الإنتاج و الاستهلاك و
الإبقاء عليها كما هي .
أما السوسيولوجي الفرنسي جورج فريدمان فإنه يعتبر أن إدخال نظام الآلية
في شكله المكثف في صناعة مجتمعات استهلاكية
قد أخل ، بالتوازن النفسي للإنسان ، كما هدد مصيره الروحي . فإذا كان الشغل
قد شكل في أصله عنصر تحرير و تحرر للإنسان فإن آلياته الجديدة التي أصبح يعمل بها
، و التي فرضها هذا النظام ، لا تسمح عمليا بتحقيق تلك الحرية المنشودة. فتبسيط
الشغل قد أدى إلى اختزاله في حركات تافهة يكررها العامل تبعث على الملل و الرتابة المبلدة للذهن، و
الانحدار به إلى مستوى الحيوانية . فأوقات الفراغ التي يقضيها العامل خارج الشغل
تعتبر مجرد وظائف حيوانية : الأكل ، النوم ، التوالد .
و كتخريج عام ، يمكن القول مع جان بول سارتر
أن الإنسان لا يستطيع أن يحقق حريته المنشودة في عمله الذي يقوم به إلا من خلال
الوعي بهذا الاستعباد في عمله ، ، سواء كان هذا العمل في مصنع أو في عيادة أو في جامعة ... و هذا لعمري
، هو جوهر المظاهرات التي تقام في فاتح ماي . فإذا كان الشغل يعمل على كبح جماح
رغبات الإنسان في التحرر و الاستقلال الذاتي ، فإن مناهضته مرهونة بجودة الخطاب
الشعبي و العالم ( بكسر اللام ) المناهض لعنف الشغل .
algharrazabdeljebbarblogspot.blogspot.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق