الأحد، 8 يونيو 2014

اللغة و الفكر .. أية علاقة ؟



يستلزم ، الجواب على هذا السؤال ، منا التسليم أن اللغة هي خاصية إنسانية ، أي اعتبار أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي استطاع ، دون غيره من الكائنات الأخرى ، أن يبدع الكلام و يستعمل الرموز و العلامات في شكل نظام صارم يكون قابلا للتعلم انطلاقا من ضوابط و قواعد يخضع لها الناشئ عبر ما يسميه علماء الاجتماع ب " التنشئة الاجتماعية "


اللغة ، بهذا المعنى ، ترتبط بالفكر ما دامت هي ، في أساسها ، ترجمة فعلية لعقليات الشعوب و ثقافاتهم ، و تعبيرا عن مستوى نموها الفكري ،و الأخلاقي و الحضاري .


و بناءا على ما تقدم ، تعتبر اللغة، كعلامات لسانية ، نتاجا للفكر و إحالة عليه. فما هي، إذن ، أوجه الارتباط بينها و بين الفكر؟


يعتبر ديكارت ، كمحاولة منه الإجابة عن هذا التساؤل ، أن الارتباط بين اللغة و الفكر هو ارتباط بين شيئين لا ينتميان إلى نفس الطبيعة . الأول مادي محسوس و هو اللغة و الثاني لامادي و هو الفكر .


فالفكر جوهر خاصيته هي التفكير . أما اللغة فهي عرض خاصيته هي التعبير و الإظهار . فهذه الطبيعة المغايرة لكل منهما جعلت ديكارت يعطي للغة قيمة ثانوية مقارنة مع الفكر ، و ذلك بأن جعلها فقط مجرد أداة تعبيرية لمكنونات الفكر .


أما هنري برغسون ، فقد حاول تجاوز نظرة ديكارت للغة ، بالرغم من اتفاقه معه ،على المستوى الأداتي للغة ، إلى نظرة فلسفية تعتبر اللغة جد محدودة وظيفيا و تعبيريا. فالفكر أعمق و أوسع من أن تشمله و تعبر عنه و عن مكنوناته لغة بهذه المواصفات ، خاصة الجزء المتعلق منه بالوجدان و العاطفة . فقد يكون لدينا من الأفكار ما نريد التعبيرعنها لكن نجد أنفسنا غير قادرين على فعل ذلك لأن اللغة تعوزنا في الإحاطة بكل دقة بتلك الأفكار . و مرد هذا العوز ، حسب هنري برغسون ، إلى أن حياتنا النفسية تعتبر حياة باطنية تتميز بالديمومة و التفرد و الانسياب و الحرية ، و الفكر ، في هذه الحالة ، في حاجة إلى أن يبدع لغة خاصة بتلك الحوانب النفسية و الباطنية كلغة التشكيل و الموسيقى و غيرها لكي تكون الأداة الأليق لترجمة دواخله .


و بعيدا عن الأطروحات التي ترى أن اللغة أداة تعبير و أن الفكر جوهر ثابت، يرى عالم اللسانيات فردناند دي سوسير أن الفكر لا يدرك إلا كفعالية و نشاط دائمين . و بهذا التصور الجديد للفكر تكون اللغة الأداة المصاحبة و الملازمة لهذه الصفة الديناميكية للفكر ، و ليس مجرد أداة تعبيرية تواصلية ، ذلك لأنهما أصبحا ( الفكر و اللغة ) يشكلان شيئا واحدا ، فبدون اللغة يكون الفكر مجرد سديم ، و اللغة بدون الفكر تكون مجرد كلمات بلا معنى .


فما الذي يجعل اللغة و الفكر عنصرين متحدين اتحادا عضويا ؟ يجيبنا فرديناند دي سوسير بأن الذي يجعلهما كذلك هو وحدة الصوت و الدلالة المتكونة من الدال و المدلول ، من المبنى و المعنى .


اللغة ، كبنية صوتية و أخرى دلالية ، لها ، في هذا الإطار ، فعالية تحويل أشياء الواقع إلى رموز و علامات . هذه الأخيرة تساعد العقل على التعبير عن نفسه بشكل مجرد . كما أن لها أيضا فعالية تصنيف الكائنات والأشياء الموجودة في العالم الخارجي . كما أما الفكر له فعالية إثراء اللغة بالمصطلحات الجديدة القادرة على استيعاب المعطيات الجديدة التي تتيحها وضعية من الوضعيات، و جعلها قادرة على العطاء و الإبداع و توليد الأفكار و المعاني من رحم الأشياء و المواقف المختلفة .


و لتعميق هذه النظرة اللسانية لعلاقة اللغة بالفكر ، فلسفيا ، يعتبر موريس ميرلوبونتي أن الكلام هو الوجود الخارجي للفكر ، أي حضور الفكر داخل هذا العالم المحسوس .


يترتب عن هذ القول ما يلي :


- عدم اعتبار اللغة و الكلام متطابقين و متلازمين و ليس اعتبارهما كشيئين منفصلين . فليس هناك فكر ، كشيء داخلي ، خارج العالم و الكلمات . فاللغة هي الفكر و الفكر هو اللغة .


- اعتبار أن الكلام ليس هو طريقة للإشارة إلى موضوعات الفكر . فنحن ، حسب هذا المعنى، نفكر بلغة صامتة و نتكلم بفكر مسموع .


يتضح مما سبق عرضه من تصورات مختلفة ، فلسفية كانت أم علمية لسانية ، أن علاقة الفكر باللغة تكون مطبوعة بالتعدد و الاختلاف . فإذا كان التصور الأداتي للغة يتعامل مع الفكر كجوهر و كماهية ثابتة ، و كوجود مستقل و مغاير للمادة ، فإن التصور اللساني المعاصر يربط بين اللغة و الفكر ربطا عضويا .هذا الفهم الجديد للفكر جعل جعل من اللغة تقوم بمجموعة وظائف مختلفة منها :


- التبليغ : للغة ، حسب جاكوبسون ، وظيفة تواصلية أي تبادل رسائل مشفرة بين مرسل و متلق .


- الإنتاج : ارتكاز اللغة ، حسب كل من بنيفنيست و مارتيني ، على الصوت و تحرر العلامة اللسانية من الموضوع الخارجي و قالبلية اللسان إلى التفكيك إلى وحدات صوتية دالة و غير دالة قابلة للتأليف و إعادة التأليف .


- الإخفاء و الإضمار : اللغة ، حسب دكرو ، لا تستخدم ، دائما ، بغرض التصريح و التواصل الشفاف بل أيضا بغرض الإخفاء و الإضمار . و هي لا تكون كذلك تحت تأثير شعوري إرادي ، بل تحت تأثير اللاشعور .


- السلطة و الخضوع : اللغة ، حسب بارط ، تنتج علاقة سلطة و سيطرة . فأن نتكلم معناه أن نسود و أن نسيطر و ليس أن نتواصل .


السبت، 31 مايو 2014

تحقق النظرة الجمالية في الأعمال الأخيرة للفنان التشكيلي المغربي حافظ مربو



تحقق النظرة الجمالية في الأعمال الأخيرة للفنان التشكيلي المغربي حافظ مربو

 بقلم : عبد الجبار الغراز


عرض الفنان التشكيلي المغربي حافظ مربو مؤخرا آخر أعماله التشكيلية ، برواق محمد الفاسي بالرباط ، و قد استمر هذا المعرض التشكيلي الهام ، الذي أعطي له كعنوان " تحولات " من 6 ماي  إلى غاية 30 منه .

و للعلم ، فحافظ مربو هو فنان شاب من مواليد سنة 1974 منحدر من مدينة تزنيت (جنوب المغرب ) خريج مدرسة تكوين الأساتذة في مادة التربية التشكيلية ، سبق له أن شارك في عدة معارض جماعية و فردية داخل و خارج أرض الوطن ..

 يتميز أداؤه الفني بأسلوب راق و متطور ، عرف بتجاوزه للنمطية التي تقتل الإبداع الفني الأصيل .كما يتميز أيضا بكونه مخاطرة فنية جديدة  تسعى إلى فتح قنوات ونوافذ جديدة كلما رأى الفنان انسدادا لا يحقق النظرة الجمالية . مخاطرة يتخد عبرها الفنان مربو موقفا واعيا نابعا من ذاته و من إحساسه بالجمال و المتعة و الدهشة .

لحافظ مربو ، كباقي الفنانين المغاربة الشباب ، رؤية و تصورات فنية متجددة ذات بعد ذاتي تشي بتحول مستمر لهذا الفنان فكريا و إبداعيا ، و ذات بعد موضوعي معبر عن مختلف استجابات الإبداع للتحولات الكبرى التي يعرفها المحيط . هذه الرؤية أغنت تجربته الفنية الحالية إغناء مكثفا . فكل مرحلة من مراحل عمره الفني تعتبر رحلة عبر الذات نحو المجهول لاقتناص المدهش و الممتع و المفيد و الجمالي ، مما قد يجعل من هذه الرحلة بحثا مستقلا عن أسلوب جديد يخرج إلى الوجود ليدخل ضمن الرؤيةالفنية الجديدة للفنان .

 يجعل الفنان حافظ مربو من كل مغامرة فنية وتقنية يعيشها نوعا من التجريب الفني . فليس بغريب على فنان مثله فعل ذلك  ، و  قد خبرت نفسه في مجال التشكيل ما كفاها من الخبرة و الممارسة  لكي تنوع في طرق طرح الأفكار و اختيار التقنيات الملائمة لها .. فكل بداية لمرحلة جديدة هي ، بحسبه ، إنضاج لمرحلة سابقة عنها .

و بناء على ما قيل ، يمكن تلخيص المراحل التي مرت منها التجربة  الفنية لهذا الفنان المبدع إلى ثلاث مراحل فنية كبرى ، لكل منها خصائصها و سماتها التي تفصلها عن الأخرى :

المرحلة الأولى تعود إلى بدايات تفتح موهبته الفنية، التي قام لاحقا بصقلها بالدراسة الاكاديمية بشعبة الفنون التشكيلية، والمتابعة للمعارض والتظاهرات الفنية، حيث ابحر ، كعادة كل فنان ، في بحر الفن ، و اطلع علىتاريخه العريق ، و تعرف على مدارسه الفنية الكبرى ، و راكم  الاساليب والتقنيات التشكيلية  و جعل من هذه المرحلة  مرحلة تتسم بطابع اسلوبي تشخيصي واقعي،  مستوحى من التراث المغربي في تنوعاته المختلفة، مع تبني تقنيات الفن الحديث الاوروبي في معالجته لمفاهيم تشكيلية اساسية كاللون والضوء ، الحركة،المادة...

أما  المرحلة الثانية فقد ابتدأت مباشرة بعد أولى سفريات الفنان مربو الى اوروبا ، حيث أتيحت له الفرصة أن يتشبع ، بثقافة بصرية جمعت اعمال كبار الفنانين العالميين بالمتاحف و أروقة الفن المعاصر . في هذه المرحلة بدا يبرز لدى فناننا النزوع نحو شاعرية الشكل والمضمون . هذا الأخير دفعه ، بشكل جدي ،  إلى  التفكير في البحث عن أسلوب فني خاص به هو كفنان بدأت معالم شخصيته الفنية تبرز ، لابتكار سمات فنية ذاتية مميزة، تجعل منه إنسانا  يتجاوز المرحلة التشخيصية نحو محاولة تبسيط وتحوير واختزال ما تم استيحاؤه من الطبيعة، أو ما تم تخزينه  في الذاكرة ..

أما المرحلة الثالثة ، التي يجد الفنان حفيظ مربو نفسه في خضمها ، فهي تعبير عن انتقال من هذا الأسلوب الاختزالي التبسيطي التحويري ، الذي أتينا على ذكره ، إلى أسلوب متطرف يحاول فيه هذا الفنان المبدع أن يمارس شغبه الفني  عبر إنجاز أعماله باللونين الأسود و اللون الأحمر المعدني الآجوري ، المنطليان على البياض ، كتقنية لونية وخى منها الفنان حافظ مربو إعفاء نفسه من الدخول المجاني في متاهات متعة الألوان الزاهية النشيطة التي تستجيب للذة زخرفية مبتذلة غايتها اقتناص السهل لجذب المتلقي .

و يعتبر معرضه الحالي مشروعا مبنيا على التحول المتبادل بين الإنسان و محيطه، الحامل لاسم " تحولات " ، الذي اشتغل عليه مدة سنتين تقريبا ، إذ يعتبر خلاصة تجربته الاخيرة هاته ، جمع فيها  هذا الفنان المبدع ، الفني بالتقني من جهة ، و الفكري بالثقافي من جهة أخرى ، لإنتاج أفكار  و بناء تصورات جديدة و التعبير عن أحاسيس قابعة في الدواخل ، و طرح تساؤلات مغايرة منفتحة عن الممكنات .

 هذا المشروع الجديد أراد له الفنان مربو أن يرصد  حالات اتصالية وانفصالية بين الذات والموضوع ، برؤية للواقع من زوايا متعددة، تستمد روحها من التجربة الإنسانية التي نعيشها في عالمنا المعاصر بمكوناتها الثقافية والسيكولوجية و الاجتماعية، للتمكن من اقتناص جوهره المتحرك، المتفجر ، حيث يلتقي في هذه التجربة الفنية الخاص والعام في مزيج موحد ، بالإضافة إلى سلسلة من المزاوجات بين كل الاسئلة المؤرقة الفلسفية و الشعرية و النظرية المنبثقة من مصادفات الحياة اليومية المعاشة ، للارتقاء بالتجربة إلى مستوى أشمل وأعمق .

هذه التجربة الجديدة التي اختارها عن طوع الفنان حافظ مربو هي مخاطرة فنية ابتغت أن تنهل من معين فلسفي ينفخ في الثنائيات الأنطلوجية ، روحا جدلية مفعمة بالحيوية و بالحياة .. مزيلة لكل حدود و ماحية لكل الفواصل الممكنة بين الذات و الموضوع ، الشكل و المضمون ، السطح و العمق ...


لقد استطاع الفنان حافظ مربو توظيف هذه الثنائيات الأنطلوجية أبرع  توظيف فني، حيث جعل الغلبة تؤول إلى الثيمة بدل تلك الثنائيات ، بطريقة جعلت الشكل في خدمة المضمون و السطح في خدمة العمق و الموضوع في خدمة الذات . بتعبير آخر ، لقد اشتغل هذا الفنان على " المفهوم " المفضي مباشرة إلى الفكرة ، بالشكل الذي يجعل من نظرته الداخلية المحملة بالأحاسيس و المترجمة لمختلف الانفعالات الذاتية ، تستلهم مواضيعها من محيطها الخارجي لصبها في الداخل، و معاودة إخراجها الى الوجود ملموسة فنيا و قابلة لأن تتحول إلى تعبيرات بصرية مناسبة في أي لحظة زمنية ، و في أي ظروف نفسية مواتية. فتارة قد تكون تلك التعبيرات البصرية رسما و تارة أخرى قد  تخرج من إطار اللوحة لتتخد شكل منحوتة أو تتحول إلى فن فيديو أو فن المنشآت أو فن الأداء .  



الاثنين، 26 مايو 2014

وهج الفكر و الذاكرة


شعر :  عبد الجبار الغراز
 1 -
ﺑﻴﻦ داخلي  و خارجي ..
ﺃراني طائرا يصعد صوب السماء ..
يرفرف بأجنحته
 يعلو ، ثم يعلو ،
ليلامس أرض العطاء ..
 يبحث هناك .. في الأعالي
 عن أحلام كسرتها أيادي الشقاء .. 
ناوليني يا أنشودة الأزل قيثارة الوجد ..
كي أوقظ في الأعماق
 وهج السنين الثكلى ..
 من شيمي الغوص في ثنايا النفس ..
فلا تعبثي بقدري  ، إذن ، أيتها البجعات المدنسة
سأنسج من خيوط الشمس الذهبية سجادتي
 و أنغمس في صلواتي رافعا أكف الضراعة 
 مشتما عطر الوجود حتى الثمالة .

2 -
بيني و بين نفسي ..
لا وقت عندي الآن ..
 كي أرى نفسي في نفسي
فالطفولة التي كانت تسكنني
قد اغتالتها زمجرة ريح ماضية إلى قرار مكين ..
فهل أستكين كما استكان فراخ البجع
 و أحول قمم النسور قلاعا للعواء ؟
لا وقت لدي للنحيب
لا وقت لدي للعويل
مادام صباحي غد دائم
 يسكب قهوته المرة السوداء
لترشفها بنات آوى وقت الظهيرة
دموعا و دماء ..

3 -
 بيني و بين بنات أفكاري ..
وقتي .. كل وقتي
 زنزانة تبتسم لي ..
 و تروادني عن نفسي :
 " هيت لك يا أشقى الناس "
تقد قميصي من دبر ..
 فأشتهي كيوسف الصديق
 فاكهة التأويل ..
يا أيها الراقد في مكمني
 لم تقضن مضجع أحلامي
و أنا القادم من دنيا اليقضة ..
أرشف نبيذ الحنين
كؤوسا شبقية تسكر أطيافي المتراقصة في رأسي .. ؟

4 -
بيني و بين وهجي
تسكنني أوجاع الأنبياء
فأكنس محراب فكري من دنس القداسة
منعرجا نحو اليسار ..
سالكا طريق الغواية
جسدي المثخن بالجراح
 مازال يصرخ كالرغبة في أحشاء الذكرى
" هل أدلك ، أيها الحالم في أرض التجانس
 على أوطان لا تشبع من ترياق الذكريات ؟ "
هكذا قالت لي محنتي الحبلى بنوارس الجنوب .
أجبتها ضاحكا :
 " سأعود في المساء
 لتروي لي أمي كيف انتحرت أشواق الناس
 في معبد الرتابة " 
لا تتعجلي رواية القصة يا أماه
 ، فنحن في حضرة وطن ينعي موتاه ..
و غدا سيطوي صفحاته الداكنة
 و يغادر أرض التطابق
 كعبير اشتاق إلى خلانه ذات يوم من أيام الربيع المزهرة ..
قد لا أكون ساعتها كما تشتهي نفسي ..
لكن ..
سأكون ، يا أمي ،  كما أراد قدري أن أكون :
مسافرا يهوى الترحال في متاهات الأسفار ..
  بزورق صغير يمخر عباب الأفكار ..
باحثا في بحر المفارقات
 عن ذرر الشذرات و الأشعار ..

5 -
 بيني و بين البحر 
سأشبه نفسي في انكساراتها ..
بأمواج بحر
 في ارتفاعه و تعاليه .. تزأر مزمجرة
لكن حين تعانق صلابة الصخر
تستكين على ضفاف رؤياي ..
قد أشبهك أيها الضوء الساطع
المار من شرفة الروح
ذات مساء بارد ..
حين تشتعل نار الرغبة و تجتاح تجاويف دواخلي ..
آه .. كم تبدو لي، وقتها ، طقوس قبيلتنا ثقيلة
تكتم الأنفاس كصباحاتي الخريفية ..

6 -
 بيني و بين حزني
لا بريق ضوء يومض في أفق حاضرنا ..
لا موت رحيم ينثر شآبيبه على نعوشنا الباردة
ﺃﺑﻜﻲ أيامنا الخوالي
كم هو جميل لو بقيت يا  أمي على قيد الحياة
كم هو جميل
لترضعي سمكاتي .. لبن الفكر ..
مساؤكن أيتها السمكات .. غفوة للروح
و ليلكن الحالك نزوة للجسد
 يزهو كطاوس بريشه السرمدي ..
لم عجلت يا أماه .. الرحيل
  حتى غدت كلماتي عابرة
تنسج في سمائي وطن المستحيل ؟؟؟
لم عجلت  يا أماه الرحيل ؟؟؟
آكادير يوم الجمعة 23 ماي 2014

السبت، 10 مايو 2014

في الحاجة إلى نقد ثقافة الإقصاء في المغرب

في الحاجة إلى نقد ثقافة الإقصاء في المغرب .

عبد الجبار الغراز

يضعنا حادث مقتل الطالب عبد الرحيم الحسناوي ، إثر نشوب عراك بالأسلحة البيضاء بين فصيل إسلامي و آخر يساري ، في رحاب جامعة ظهر المهراز بفاس ، أمام ما يسمى ب " الجمود العقائدي " ، الذي استفحل و انتشر مرضه الخطير في صفوف طلبتنا الجامعيين ، إذ يمكن اعتباره نتاجا حتميا لبنية فكرية هجينة وهشة قد تركبت و تشابكت عناصرها ، تدريجيا ، على مدى ثلاثة عقود و نيف ، و أصبحت تشكل ، الآن ، سمة أساسية بات يتسم بها ، للأسف الشديد ، " عقلنا الطلابي المغربي " ، حيث يعتبر التعصب و العنف و إقصاء الآخر أحد أبرز مظاهره الخطيرة

تنصب مهمة هذا المقال على تحليل السياق السوسيو سياسي و السوسيو تربوي الدقيق الذي بلور عناصر هذه البنية الفكرية و أكسبها تلك الوظائف . هذا السياق الذي يدفعنا إلى الاعتقاد بان هذه الجريمة المأساوية ليست بعرضية ، لأن مسرح أحداثها هو مؤسسة تربوية أخذت على عاتقها مهمة تأهيل الرأسمال البشري و تكوينه معرفيا و تقنيا ، و ليس تأهيل مجرمين لا يتواصلون إلا بالهراوات و السيوف .

في حقيقة الأمر، لا يمكن إنكار أن جامعاتنا ، منذ تأسيسها ، كان لها ، في عقدي الستينيات و السبعينيات من القرن المنصرم ، دور كبير في الارتقاء بالوعي لدى الطلبة، و قد تجلى ذلك في أن تلك المعارف المحصلة قد ساهمت ، بشكل كبير ، في تشكيل الوعي بالذات ، و تأطير كل اشكال الممارسات الفكرية و العقائدية و تثويرها ، و بالتالي ، تأصيلها في الوجدان و اللاوعي الجمعي ، و جعلها ، في النهاية ، قابلة للتجدد و خاضعة دائما للتطوير و التغيير بقصد إبداع أشكال جديدة ، من رحم الأحداث و القضايا المصيرية التي تشغل الفكر و تلهب الوجدان . وقتها كان ظهور الجامعات في المغرب بعيد الاستقلال مرتبطا بسد النقص في الأطر الوطنية ، إذ كانت مختلف القطاعات ، من تعليم و إدارة و اقتصاد ، في أشد الحاجة إلى تلك الأطر . و كان حقل التعليم ، وقتها ، يشكل ، في البداية ، تغطية واسعة لمغربة الأطر .

و في المقابل ، يمكن القول ايضا ، أنه منذ عقد الثمانينيات ، أصبحت الجامعات المغربية منبتا خصبا لزرع الشقاق بين الطلاب لكسر وحدة صفهم ، و مرتعا للصراعات الإيديولوجية و تكريس قيم سلبية فاسدة متشبعة بثقافة الاقصاء و هيمنة الصوت الواحد . فليس بجديد التصريح بهذه الحقيقة . فالكل يعلم بالخلفيات السياسية التي جعلت الحرم الجامعي مؤدلجا مسيسا . فاليسار المغربي ، في فترة منتصف الستينيات و فترة السبعينيات ، كان يعيش مواجهة حقيقية بينه و بين قوى اليمين المدعمة بسلطة المخزن ، لكن هذا الصراع المؤدلج لم يفض إلى قتل طالب لطالب كما نرى الآن .

فماذا يعني إذن ، أن يقتل طالب طالبا آخر في رحاب الجامعة ؟

يعني لنا ذلك ، الاعتبارات التالية :

- أولا : إن التكوين العلمي و المعرفي للطالب لم يعد ، كما كان ،عميقا بالشكل الكافي لكي يجعل من هذا الأخير كائنا معرفيا و أخلاقيا. فهذا التكوين أريد له أن يغير فقط السطح دون أن يعمل على تغيير القاع الذي هو أساس الشخصية الإنسانية. .فقد صدق المفكر الهندي محمد إقبال حينما قال بأن التعليم هو حامض يذيب شخصية الطالب و يصيرها كيفما يشاء . و التعليم في بلادنا يطبق هذه المقولة حرفيا حينما نجده يصهر أطفالنا و شبابنا ، شخصيات المستقبل ، على الشكل الذي يرتضيه أهل القرار .

ثانيا : إن جامعاتنا و باقي الأسلاك الأخرى التعليمية قد عبرت عن عجزها عن إنتاج اللآليات الثقافية الحقيقة التي ستساهم ، بشكل أساسي و جذري في بعث روح طلابية هازمة لليأس و الخوف ، و في إشعال شرارات توقظ في النفوس جذوة الحماس المعهودة في فترات الستينيات و السبعينيات من القرن المنصرم . فما نراهم حاليا ليسوا بطلاب حقيقيين ، بل هم ، إلا من رحم ربك ، مجرد كائنات و أشباح آدمية ، تائهة في متاهات الإيديولوجيا ، تعوزها القدرة على أن تعيد إنتاج نفسها فكريا و معرفيا حتى تستطيع أن تعي شروط وجودها . فالطالب الجامعي اليوم يجد نفسه ، بعد التسجيل الأولي في الجامعة ، بين عشية و ضحاها ، مستقطبا بسهولة من طرف فصيل طلابي ، و منخرطا ، بعد ذلك ، و بدون وعي، في سجالات فكرية و عقدية و إيديولوجية مطروحة في حلقة من حلقات النقاش ، لا قبل له بها

ثالثا : إنه لا يمكن لوم هذا الشباب التائه المغلوب على أمره ، و تحميله مسؤولية تأجيج الصراعات الإيديولوجية ، وترك المسؤول الحقيقي عن هذا العبث الجنوني الذي اجتاح جامعاتنا .

فاحدث يكشف بالملموس أن ما تلقاه أطفالنا في المدارس التعليمية الابتدائية و شبابنا اليافع في الإعداديات والثانويات والجامعات من تعلمات و قيم لم تنفعهم و لم تؤهلهم لكي يتبوئوا المكانة المرموقة المنتظرة منهم . شباب تعوزه القدرة المعرفية و الفكرية على إعادة بناء الذات بشكل صحيح . شباب قد حوله هذا العوز الفكري إلى كائن ذي مزاج عصبي ، عنيف سريع الغضب ، غير مقدر للعواقب الوخيمة التي قد تترتب عن سلوكه العنيف. إنه ، باختصار شديد ، شباب هجين أنتجته السياسات التربوية المغربية العقيمة، منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود ، و جعلته مجرد كائن خاضع لسلسلة من الكوارث و الاحباطات النفسية التي أثقلت كاهله و جعلته عرضة للتفكك النفسي و الاستيلاب الاجتماعي و الغبن السياسي . فسياسات أولي الأمر ، في مجال التربية و التكوين ، كانت، دائما تطبخ في الكواليس . و القرارات الحاسمة كانت تتخذ في غفلة عن الفاعلين الرئيسيين في هذا الميدان الحيوي ، من أساتذة و آباء و مربين ، بتواطؤ و مباركة من أحزاب و نقابات كان يشهد لها بأنها كانت في الصف التقدمي .

رابعا : إن قيمنا المعرفية و الجمالية و الأخلاقية و الاجتماعية التي ينبغي أن تدأب مؤسسات المجتمع ، بما فيها المؤسسات التعليمية بجميع أسلاكها ، على ترسيخها في سلوك ناشئتنا ، قد مست و تحولت إلى قيم سلبية تنذر بخراب الأسس التي يقوم عليها أي مجتمع .

يمكن القول ، قبل الختام ، بأن البنيتين المجتمعية و السياسية في المجتمع المغربي غير متفاعلتين بالشكل الذي يكفي ، الأمر الذي يجعلهما يلتقيان في نقط و يفترقان في أخرى .

فإذا كانت البنية الأولى منفتحة على الجديد و المفيد ، فإن الثانية منغلقة في مجالها ، تخاف كل جديد ، بل و تحاربه، إذ بقيت أسيرة أدواتها التقليدية في تدبير أمور المجتمع ، رغم الإصلاحات التي مست قشرتها السطحية . فتراجع الدولة المغربية عن خطتها الاستراتيجة الوطنية الهامة التي ابتدأتها بمغربة الأطر لاستكمال المشروع التحديثي ، جعلت المجتمع المغربي في أزمة مجتمعية حقيقية أبانت عن التفاوت المهول الذي تعيشه طبقات المجتمع، كما أبانت أيضا عن سوء توزيع ثروات البلاد ، و قادت إلى خيار الخوصصة ، فعرفت القطاعات الإنتاجية الأساسية ركودا ملحوظا ، بسبب إفشال المنظومة التعليمية ، فاكتشف الطلبة ، بعد التكوين ، أن مؤهلاتهم العلمية غير منسجمة مع متطلبات سوق العمل ، لتتضاءل ، بالتدريج فرص العمل أمامهم و تستفحل ظاهرة البطالة في صفوفهم . و يظهر ، بالتالي ، على السطح ، في حقل التعليم ، تكوينان :

- الأول خاص بالطبقات الموسرة التي تستطيع أن تدفع اكثر للحصول على تعليم جيد .

- الثاني خاص بالطبقات المعوزة و الفقيرة. و هو نوع أريد له أن يكون رديئا غير منتج .

و في عقد التسعينيات عجز المغرب عن ربط المؤسسة التعليمية ، و ضمنها الجامعة ، بالسياقات الكونية الكبرى نتج عنه اتساع الهوة بين الطالب و واقعه ، و تكسر ذلك الجسر الذي يسهل عليه المرور لاكتساب المعارف و المهارات و الكفايات بمختلف أنواعها ،، و الانفتاح على مختلف الممارسات الحياتية المتشعبة و طمس وعي تنويري تشكلت معالمه مع مقررات دراسية تساعد التلميذ و الطالب على تنمية استقلالية الرأي ، و تطويره حسه النقدي و ترسيخ ملكات الفكر التواقة إلى الحرية و الابداع و الابتكار ، لخلق ذات تواصلية و تفاعلية مع محيطها البعيد و القريب ، و تراجع بالتالي ، دور كل من المثقف و الأستاذ و اختزلت الأدوار الطلائعية للثقافة في أدوار تكميلية تقوم بها مهرجانات الغناء و الطرب مدعومة بإعلام ترفيهي الغرض منه هو تمييع ثقافات الشعوب و جعلها مبتدلة و غير صالحة إلا كديكور يؤثت المشهد الثقافي و يجعله رهينة فلكلور جالب للسياح و مساهم في تنمية اقتصاد معولم .

مقتل الطالب عبد الرحيم الحسناوي هو دعوة إلى التسامح ، و في نفس الوقت ، دعوة إلى أصلاح منظموتنا التربية . فلا مجتمع أفراده صالحون دون تعليم صالح .

.

السبت، 19 أبريل 2014

العقلانية العلمية

تأطير إشكالي 

يركز هذا المحور الثاني من درس النظرية و التجربة على فهم طبيعة العقلانية العلمية المقابلة لطبيعة التجربة و التجريب ، هل يمكن اعتبارها طبيعة منغلقة تضفي على العقل الإنساني صفة الانغلاق .، أم يمكن اعتبارها ذات طبيعة مفتوحة تضفي عليه صفة الانفتاح ؟

فالشق الأول من هذا التساؤل الإشكالي يصف لنا شأن الفلسفات الكلاسيكية ، التي نهلت من المنطق الصوري الأرسطي الذي سجن قدرات التفكير للعقل الإنساني في مجموعة من المبادئ و القواعد المنطقية الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان و المكان ، فأصبح بمقتضاها تفكير الإنسان تفكيرا انغلاقيا لا يخرج عن ثوابته القياسية الموضوعة له سلفا . تفكير يعبر عن عقل تتجدد أطره الفكرية بتجدد المعطيات الجديدة التي يستلزمها العالم الخارجي .

أما الشق الثاني من هذا التساؤل فهو يصف لنا شأن الفلسفات التي نهلت من تطور العلوم ، خاصة علم الرياضيات و علم الفيزياء في مجاله مرتبط بالميكروفيزياء ، فغذت فلسفات عقلانية منفتحة تتماهى مع ما وصل إليه العقل الإنساني من ارتقاء في مستوى الإنتاجية الفكرية باعتماده على الصيغ البرهانية و الإنشاءات الصورية الرياضية الخلاقة التي لا تحتاج إلى الواقع و لا تحتاج إلى معيار التحقق التجريبي المرتبط به ، بل هي محتاجة إلى العقل ومعياره الذي يفيد التماسك المنطقي .

كما أن هذه الفلسفات المنفتحة أصبحت تضفي على العقلانية صفة التطبيق و تعتبرها عقلاتية طبقة تسعى إلى التوفيق بين الجانبين الاختباري و الجانب العقلاني على أساس أن العقل البشري هو عقل جدلي يحتاج إلى الواقع ليدخل معه في علاقة تبادلية كلاهما يتأثر تأثيرا إيجابيا بالآخر .
فما طبيعة العقل في العلم ، هل هي عقلانية صورية محضة مكتفية بذاتها أم هي عقلانية مطبقة تنهل من الواقع الاختباري و معطيات التجربة ؟
مقاربات للإجابة عن الإشكالية 
تختلف الإجابة عن هذه التساؤلات باختلاف التوجهات الفلسفية أو العلمية للفلاسفة أو المفكرين الذين قاربوا لنا هذه الإشكالية . فها هو محمد أركون يقارب لنا هذا الموضوع من وجهة نظر فلسفية تستقي من التاريخ الحديث و المعاصر لأوربا تلك الأفكار التي ناهضت الفكر القروسطوي . فالعقل و العقلانية ، حسبه ، قد شهدا ثورة جذرية انقلابية على وضع أوروبا العصر الوسيط ، خصوصا مع رواد العقلانية في الحديث أمثال ديكارت و سبينوزا اللذان سعيا إلى نقل العقل الإنساني من مستوى التفكير اللاهوتي إلى مستوى التفكير العقلاني المعتمد على اليقينيات المطلقة ، هذه الأخيرة ستشهد ، هي الأخرى انتقالا من مستوى المطلق إلى مستوى النسبية أو مستوى مرحلة العقل النسبي النقدي الذي يراجع ذاته باستمرار حتى لا يسقط في متاهات اللايقين .

من وجهة نظر عقلانية محضة يرى ألبيرت أنشتاين أن لكل من العقل و التجربة أدوارهما في رحلة بناء المعرفة العلمية . فإذا كان العقل يقوم بعملية بنينة للمعرفة العلمية فإن معطيات التجربة يجب أن تطابق نتائج تلك المعرفة العلمية المبنية . فالتجربة ، بحسب هذا المعنى ،الذي يعطيه أنشتاين لها ،تلعب فقط دورا ثانويا مرتبطا بإرشاد العالم إلى اختيار المفاهيم الرياضية لبناء النظرية العلمية . و عليه ، فالعقل الرياضي ،كمجموعة مبادئ و قواعد و قوانين ، هو المبدأ الخلاق في المعرفة العلمية و ليس التجربة . فهو يمكننا من فهم و تصور الظواهر دون أن نحتاج إلى معاينتها ، لأنه عقل يرى الأمور بنظرة استباقية .

أما هانز رايشنباخ ، فإنه ينطلق من وجهة نظر ذات اتجاه وضعي تجريبي منطقي ، فهو يعتبر أن المعرفة العلمية تنبني على الملاحظة و التجربة ، إذ لا غنى لها عنهما . فتجاوز هذا المبدأ المنهجي معناه ، في نظر رايشنباخ ، الدخول في متاهة ذات نزعة صوفية مثالية . واضح من هذا الكلام أن رايشنباخ ينتقد الاتجاه العقلاني سواء الكلاسيكي أو المعاصر الذي يرى في العقل و مبادئه و قواعده الصورية مصدرا مطلقا للمعرفة .

من زاوية أخرى ، يتموقع موقفا كل من غاستون باشلار و روبير بلانشي في الموقع الوسط . فهما يريان أن العقل و الواقع التجريبي يقومان بحوار بينهما في سبيل بناء معرفة علمية .

فالتجريبية حسب غاستون باشلار ، إذا لم تعتمد على العقل تكون عمياء ، لأنها في حاجة إلى الفهم لمختلف الترابطات بين العناصر التجريبية المستقاة من الواقع . وعقلانية تكون فارغة من أي مضمون معقول إذا أزالت عنها شرط الواقع التجريبي في عملية بناء المعرفة العلمية .، لأنها أيضا بدورها ستكون محتاجة إلى تطبيق عملي علىأرض واقعية لمختلف تلك القواعد و القوانين المنطقية الصارمة لتي ينتجها العقل .

أما روبير بلانشي فإنه لا يمكن، في نظره ، أن نتصور العقلانية إلا على أنها عقلانية مطبقة أي عقلانية تجريبية منفتحة على الواقع التجريبي تحاول أن تراجع إنتاجها النظري عبر إلغاء جزء من يقينياتها القبلية بواسطة عقل يراجع دائما أسسه و قواعده أثناء مواجهته لواقع متجدد و متغير باستمرار .
خلاصة تركيبة 
كخلاصة تركيبية يمكن القول أن العقل البشري هو عقل نسبي يخطع لشروط معينة لكي يركز نشاطه النظري في بناء المعرفة العلمية . و لهذا فلا يمكن تصوره خارج المنظومة التاريخية العامة ، و التي تعتبر منظومة تاريخ العلوم جزء منها ، و بناء عليه فهو يعتبر عقلا نسبيا و منفتحا و متغيرا ، جاء كنتاج لتفاعل جدلي و حوار بناء بين ما هو عقلي.و ما هو تجريبي .

فمسار العلم قد عرف منعطفات كثيرة و عميقة . وبناء عليه فلا وجود لنظرية علمية خالصة لأنها مجرد تفسيرات مؤقتة يعاد فيها النظر بشكل مستمر ، كما أنه أيضا لا وجود لتجربة علمية مستقلة عن أطر و قواعد و مبادئ العقل فهي بدونها تمثل واقعا جد محدود .

الأربعاء، 26 فبراير 2014

التجربة و التجريب

التجربة و التجريب
       تأطير إشكالي :  
       في هذا السياق المحوري الأول من موضوع النظرية و التجربة ، الذي سنتناول فيه الفرق بين التجربة و التجريب و الحدود الفاصلة بينهما ، يمكن القول أنه إذا اعتبرنا التجربة ، في معناها العادي المرتبط بالحس المشترك ،  هي تلك الخبرات التي راكمها الإنسان في حياته ،  في ارتباطه المباشر بواقعه المعيش ، و التي على أساسها أصبح إنسانا محنكا ، فإننا سنعتبرها في معناها العلمي الدقيق كمجموعة خطوات منهجية نظرية و تطبيقية سيتأسس عليها التجريب العلمي الذي يتوخاه العالم انطلاقا من ملاحظته للظاهرة المراد دراستها علميا و صياغته لفرضيات تولدت مباشرة عن تلك الملاحظة .
       انطلاقا من هذا التحديد ، سيكون التجريب العلمي ، هو  تلك الوسيلة العملية التي ستمكن العالم من التحقق من مختلف الاجوبة الممكنة للأسئلة الافتراضية التي انطلق منها . و هذا ما يجعلنا أمام إشكالية فلسفية حقيقية تكمن في  بنية تلك التجربة و طبيعتها : فهل ينبغي الاكتفاء بطبيعتها المنغلقة التي ترى في المنهج التجريبي، السبيل الأنجع لبلورة نظرية علمية ، أم ينبغي تجاوز بعده الاختباري، والنظر في  مستويات أخرى أرقى ، تكون مكملة لهذا الواقع ، و تجعل من التجريب العلمي انفتاحا على واقع افتراضي أساسه الخيال ؟
   مواقف فلسفية للإجابة عن هذه الإشكالية  :
للإجابة عن هذه الإشكالية المطروحة ، يرى كلود برنار ( 1813- 1878 ) أن السبيل الأنجع لدراسة أية ظاهرة طبيعية ، يكمن في اتباع خطوات المنهج التجريبي ، الذي صاغه فرانسيس بيكون ، و الذي يعتمد بالأساس على :
-           الملاحظة القصدية و الموجهة المبتعدة عن العفوية ، كمعاينة للظاهرة و المتوخية للموضوعية و الدقة  باستخدامها لكل الأدوات و التقنيات المساعدة  ، دون  إغفال للتفاصيل و الجزئيات الملاحظة .  
-          الفرضية كمجموعة أفكار ينبغي أن تكون من وحي الطبيعة و منبثقة من الملاحظة و ذات تفسير علمي يعتمد على العقل و المنطق ، و ذات قابلية للتحقق التجريبي . فالفرضية بهذا المعنى ، هي مقدمات أو منطلقات يقترحها العالم ، من أجل فهم مؤقت للظاهرة الملحوظة ريثما يتحقق ، عن طريق التجربة ،  من أهمية مضامينها و نجاعتها في تفسير الظاهرة المدروسة .
-          التجربة كإعادة بناء الظاهرة ،  مختبريا  . و الغرض منها هو التحقق من صحة أو عدم صحة الفرضية ، و ذلك من خلال  ضبط معايير و مقاييس الانجاز و كذا تتبع سيرورتها انطلاقا من خضوعها للمراقبة داخل المختبر و تكرار إنجازها ضمانا للنتائج الحسنة .
-          القانون كعلاقة ثابتة قائمة بين ظاهرتين أو أكثر ، يتوخى التعميم كخاصية تنطبق على كل الظواهر المتشابهة ، كما يتوخى ، أيضا ، التنبؤ بحدوث الظاهرة مستقبلا إذا توفرت نفس الظروف ، و يتوخى أيضا  اللغة الرمزية، باعتباره  صياغة لمجموعة علاقات رياضية . 
إذا كان كلود برنار يقيم وزنا لعنصر التجربة ضمن منهجه التجريبي الذي سقناه قبل قليل ، فإن ألكسندر كويري ( 1892 – 1964 )  سينطلق من التمييز بين التجريب و التجربة . هذه الأخيرةExperience   سيعتبرها عائقا إبستمولوجيا يحول دون قيام نظرية علمية ، لأفتقادها إلى الدقة و الموضوعية و لاعتمادها على الحس العام القائم على الملاحظة العامية . أما التجريب Experimentation ، فسيعتبره  مساءلة منهجية  للطبيعة ، التي تفترض لغة يطرح بها أسئلته ، و قاموسا علميا يتيح للعالم إمكانية تأويل أجوبة تلك الأسئلة المطروحة . فالتجربة في معناها العامي لا تستطيع أن تملي قرار استعمال تلك اللغة الرمزية المعبرة عن موقف ذهني للعلم متميز بلحظتين مترابطتين :
-           أولا : إضفاء الصفة الهندسية على المكان عبر اختفاء كل اعتبار ينطلق من الكوسموس في الاستدلال العلمي .
-          ثانيا : استبدال المكان الفيزيائي الملموس بالمكان الهندسي المجرد .
أما العالم الرياضي الفرنسي  روني توم( 1923 ... ) فإنه يرى أن التجريب إذا اراد وحده إتاحة التحليل السببي للظاهرة المدروسة ، فإنه سوف يكون عاجزا عن اكتشاف العلاقات السببية بين الظواهر ، ما لم ينتبه إلى دور التفكير في عملية بناء المعرفة العلمية. و مفاد هذا التصور الجديد الذي يقدمه لنا روني توم ، يكمن في ضرورة  تصور التفكير على أنه ذو طبيعة انفتاحية تنفلت من رتابة المناهج المكبلة لقدراته على التصور و الابداع عبر ما يتيحه الذهن من خيال . التجربة العلمية ، بناء هذا المعنى الجديد ، لا ينبغي حصرها في ما هو واقعي تجريبي اختباري بل ينبغي لها أن تنفتح على ما هو خيالي افتراضي . و لهذا السبب نجد أن كل النظريات الرياضية و الفيزيائية ، في نظر روني توم ،  أصبحت اليوم تبني صرحها بواسطة العمليات الذهنية دون أن تحتاج إلى الواقع الحقيقي . فالواقع العلمي أصبح يبنى بواسطة تجربة عقلية خيالية تكمل الواقعي بالخيالي .
خلاصة تركيبية :

كخلاصة تركيبية لمحور  " التجربة و التجريب " يمكن القول أن العلم ، في فترتنا المعاصرة ، أصبح فيه التجريب منفتحا على الواقع الافتراضي و الخيالي ، و لم يعد معتمدا فقط  على الواقع التجريبي الملموس . فبناء كل نظرية علمية يقتضي تدشين حوار متفاعل بين التجريب المختبري المعتمد على الواقعي و بين التجربة الذهنية المعتمدة على الفكري و الذهني و الخيالي. 

الأحد، 9 فبراير 2014

النظرية و التجربة


 

النظرية و التجربة

        حين نفتح الباب الأول من مجزوءة المعرفة ( النظرية و التجربة ) نكون أمام منعطف كبير عاشته أوروبا ، و عاشه ، من بعدها العالم بأسره . منعطف دشنه الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون ( 1561 – 1626 ) . الذي قاد ثورة علمية ، ضد المنطق الأرسطي المعتمد على القياس ، الذي ظل لقرون طوال يفيد أنه بواسطة العقل النظري وحد يمكن أن نصل إلى المعرفة الحقة . ثورة  أبرزت أن الطريقة الصحيحة للوصول إلى العلم هي الاستقراء كمنهج جديد الذي سيتم استخراج القاعدة العامة ( القانون العلمي و النظرية العلمية ) من أساسيات الواقع التجريبي الحسي اعتمادا على الملاحظة و التجربة .

      هذا المنهج الاستقرائي البيكوني  لم يأت من فراغ ، بل كان ثمرة مجهودات كبيرة لرواد عصر النهضة الأوروبية على مستويات عدة : مستوى علمي مع أفكار كل من جاليليو و نيوتن ،  و مستوى الإصلاحات التي طالت المؤسسة الدينية ، و مستوى الثورة الصناعية و مستوى الكشوفات الجغرافية الكبرى التي تعرفت من خلالها أوروبا على حضارات العالم القديم . لقد كان  فرانسيس بيكون ، باختصار ،  حلقة وصل بين الماضي القديم و حاضر أوروبا القرن 17 .  

       في كتابه الهام  Novum Organum ، " نوفوم أوجانون " " الوسيلة الجديدة " قسم فرنسيس بيكون  الفلاسفة المشتغلين في مجال المعرفة العلمية إلى ثلاث فئات . فئة الاختباريين ، حيث شبههم  بالنمل الذي يكتفي بجمع المؤن و مراكمتها لاستهلاكها فيما بعد ، لأنهم يهتمون بالواقع و بالتجربة ، و فئة العقلانيين ، حيث شبههم بالعناكب التي تبني بيوتها من المادة المستخلصة من طبيعتها ، لأنهم يهتمون بالتنظير فقط ، و فئة العقلانيين التجريبيين  ، حيث جعلهم أشبه بالنحل الذي يحول ، عبر تقنيته الخاصة به ، الرحيق المستقى من الطبيعة إلى عسل  ، لأنهم متموضعون  في الوسط بين فئة الأولى و الفئة الثانية .

     هذا التشبيه البليغ ، سنجعله كمنطلق لتحديد مفهومين مركزيين : مفهوم " النظرية " و مفهوم  " التجربة  "  

     تفيد الدلالة اللغوية لهذين المفهومين ، أن النظرية في اللغة العربية تعني الملاحظة و الرؤية بالعين المجردة لأنها لفظة مشتقة من النظر ، كما أنها تعني ، حسب ابن منظور ، الكيفية التي نرتب الأشياء على الصورة التي تجعل المغيوب معلوما . أما لفظة  theorie  الفرنسية فأنها تعبير، عن نسق من الأفكار المبنية بشكل متدرج عبر الانتقال من المقدمات إلى النتائج و من البسيط إلى المركب . كما أنها تحمل معنى التأمل العقلي المحض استنادا إلى الكلمة اليونانية throria  التي اشتقت منها .

     أما لفظة " التجربة " فهي تعني كل الخبرات و المعارف المحصل عليها انطلاقا من الواقع بشكل مباشر . و تعني أيضا ، في المجال العلمي ، مجموع الترتيبات التي يتخذها العالم في مختبره أثناء ملاحظته ظاهرة ما من الظواهر بعد أن يصوغ الفرضيات ، بحيث تكون التجربة تحققا من تلك الفرضيات بقصد بناء معرفة يقينية  حولها .

     اما على مستوى التحديد الفلسفي لهذين المفهومين ، فيمكن القول أن النظرية هي  نسق فرضي استنباطي يصف الوقائع و يتجاوز ذلك ليقوم بتفسيرها ، أما التجربة فهي تمثيل لواقعة حسية معطاة من الواقع التجريبي .

     يضعنا هذان التحديدان ،  اللغوي و الفلسفي ،  أمام إشكالية فلسفية نابعة من مفارقات متصلة بطبيعة كل من النظرية و التجربة  ، فهل سنعتبر النظرية تمثيلا محضا لكل ما هو مجرد ومرتبط بالذهن و بالمفاهيم المتولدة عن الصورة الذهنية الخالصة ؟ و هل سنعتبر ، في الجهة المقابلة للنظرية ، أن التجربة هي مجالا للملموس الخاضع للانطباعات الحسية التي تأتينا عن طريق  الواقع التجريبي ؟ أم ينبغي خلق حوار فاعل بين النظري و التجريبي ، لا يهمش دور كل من النظرية و التجربة ، بحيث لا يختزل النظرية في مجرد نسق عقلي رياضي ، و لا يختزل التجربة في كونها مجرد تعبير آلي عن واقع يقدم نفسه للباحث أو للعالم بسهولة انطلاقا من المحسوس للوصول إلى المعقول ؟ هل تطرح العلاقة بين النظرية و التجربة مشكلات إبستمولوجية حقيقية ينبغي التصدي لها بروح علمية تتوخى الدقة و الموضوعية ؟ ما الفرق بين التجربة و التجريب ؟ و ما الحدود الفاصلة بين العقلاني و التجريبي ؟ و ما المعايير التي بموجبها يمكن تحديد صلاحية نظرية علمية من النظريات ؟