النظرية و التجربة
حين نفتح الباب الأول من مجزوءة المعرفة (
النظرية و التجربة ) نكون أمام منعطف كبير عاشته أوروبا ، و عاشه ، من بعدها
العالم بأسره . منعطف دشنه الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون ( 1561 – 1626 ) . الذي
قاد ثورة علمية ، ضد المنطق الأرسطي المعتمد على القياس ، الذي ظل لقرون طوال يفيد
أنه بواسطة العقل النظري وحد يمكن أن نصل إلى المعرفة الحقة . ثورة أبرزت أن الطريقة الصحيحة للوصول إلى العلم هي
الاستقراء كمنهج جديد الذي سيتم استخراج القاعدة العامة ( القانون العلمي و
النظرية العلمية ) من أساسيات الواقع التجريبي الحسي اعتمادا على الملاحظة و
التجربة .
هذا المنهج
الاستقرائي البيكوني لم يأت من فراغ ، بل
كان ثمرة مجهودات كبيرة لرواد عصر النهضة الأوروبية على مستويات عدة : مستوى علمي مع
أفكار كل من جاليليو و نيوتن ، و مستوى
الإصلاحات التي طالت المؤسسة الدينية ، و مستوى الثورة الصناعية و مستوى الكشوفات
الجغرافية الكبرى التي تعرفت من خلالها أوروبا على حضارات العالم القديم . لقد كان
فرانسيس بيكون ، باختصار ، حلقة وصل بين الماضي القديم و حاضر أوروبا القرن
17 .
في
كتابه الهام Novum
Organum
، " نوفوم أوجانون " " الوسيلة الجديدة " قسم فرنسيس بيكون الفلاسفة المشتغلين في مجال المعرفة العلمية إلى
ثلاث فئات . فئة الاختباريين ، حيث شبههم بالنمل
الذي يكتفي بجمع المؤن و مراكمتها لاستهلاكها فيما بعد ، لأنهم يهتمون بالواقع و
بالتجربة ، و فئة العقلانيين ، حيث شبههم بالعناكب التي تبني بيوتها من المادة
المستخلصة من طبيعتها ، لأنهم يهتمون بالتنظير فقط ، و فئة العقلانيين التجريبيين ، حيث جعلهم أشبه بالنحل الذي يحول ، عبر تقنيته
الخاصة به ، الرحيق المستقى من الطبيعة إلى عسل ، لأنهم متموضعون في الوسط بين فئة الأولى و الفئة الثانية .
هذا
التشبيه البليغ ، سنجعله كمنطلق لتحديد مفهومين مركزيين : مفهوم " النظرية
" و مفهوم " التجربة "
تفيد
الدلالة اللغوية لهذين المفهومين ، أن النظرية في اللغة العربية تعني الملاحظة و
الرؤية بالعين المجردة لأنها لفظة مشتقة من النظر ، كما أنها تعني ، حسب ابن منظور
، الكيفية التي نرتب الأشياء على الصورة التي تجعل المغيوب معلوما . أما لفظة theorie الفرنسية فأنها تعبير، عن نسق من الأفكار
المبنية بشكل متدرج عبر الانتقال من المقدمات إلى النتائج و من البسيط إلى المركب
. كما أنها تحمل معنى التأمل العقلي المحض استنادا إلى الكلمة اليونانية throria التي اشتقت منها .
أما لفظة
" التجربة " فهي تعني كل الخبرات و المعارف المحصل عليها انطلاقا من
الواقع بشكل مباشر . و تعني أيضا ، في المجال العلمي ، مجموع الترتيبات التي
يتخذها العالم في مختبره أثناء ملاحظته ظاهرة ما من الظواهر بعد أن يصوغ الفرضيات
، بحيث تكون التجربة تحققا من تلك الفرضيات بقصد بناء معرفة يقينية حولها .
اما على
مستوى التحديد الفلسفي لهذين المفهومين ، فيمكن القول أن النظرية هي نسق فرضي استنباطي يصف الوقائع و يتجاوز ذلك
ليقوم بتفسيرها ، أما التجربة فهي تمثيل لواقعة حسية معطاة من الواقع التجريبي .
يضعنا هذان
التحديدان ، اللغوي و الفلسفي ، أمام إشكالية فلسفية نابعة من مفارقات متصلة
بطبيعة كل من النظرية و التجربة ، فهل
سنعتبر النظرية تمثيلا محضا لكل ما هو مجرد ومرتبط بالذهن و بالمفاهيم المتولدة عن
الصورة الذهنية الخالصة ؟ و هل سنعتبر ، في الجهة المقابلة للنظرية ، أن التجربة
هي مجالا للملموس الخاضع للانطباعات الحسية التي تأتينا عن طريق الواقع التجريبي ؟ أم ينبغي خلق حوار فاعل بين
النظري و التجريبي ، لا يهمش دور كل من النظرية و التجربة ، بحيث لا يختزل النظرية
في مجرد نسق عقلي رياضي ، و لا يختزل التجربة في كونها مجرد تعبير آلي عن واقع
يقدم نفسه للباحث أو للعالم بسهولة انطلاقا من المحسوس للوصول إلى المعقول ؟ هل
تطرح العلاقة بين النظرية و التجربة مشكلات إبستمولوجية حقيقية ينبغي التصدي لها
بروح علمية تتوخى الدقة و الموضوعية ؟ ما الفرق بين التجربة و التجريب ؟ و ما
الحدود الفاصلة بين العقلاني و التجريبي ؟ و ما المعايير التي بموجبها يمكن تحديد
صلاحية نظرية علمية من النظريات ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق