الأحد، 9 فبراير 2014

النظرية و التجربة


 

النظرية و التجربة

        حين نفتح الباب الأول من مجزوءة المعرفة ( النظرية و التجربة ) نكون أمام منعطف كبير عاشته أوروبا ، و عاشه ، من بعدها العالم بأسره . منعطف دشنه الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون ( 1561 – 1626 ) . الذي قاد ثورة علمية ، ضد المنطق الأرسطي المعتمد على القياس ، الذي ظل لقرون طوال يفيد أنه بواسطة العقل النظري وحد يمكن أن نصل إلى المعرفة الحقة . ثورة  أبرزت أن الطريقة الصحيحة للوصول إلى العلم هي الاستقراء كمنهج جديد الذي سيتم استخراج القاعدة العامة ( القانون العلمي و النظرية العلمية ) من أساسيات الواقع التجريبي الحسي اعتمادا على الملاحظة و التجربة .

      هذا المنهج الاستقرائي البيكوني  لم يأت من فراغ ، بل كان ثمرة مجهودات كبيرة لرواد عصر النهضة الأوروبية على مستويات عدة : مستوى علمي مع أفكار كل من جاليليو و نيوتن ،  و مستوى الإصلاحات التي طالت المؤسسة الدينية ، و مستوى الثورة الصناعية و مستوى الكشوفات الجغرافية الكبرى التي تعرفت من خلالها أوروبا على حضارات العالم القديم . لقد كان  فرانسيس بيكون ، باختصار ،  حلقة وصل بين الماضي القديم و حاضر أوروبا القرن 17 .  

       في كتابه الهام  Novum Organum ، " نوفوم أوجانون " " الوسيلة الجديدة " قسم فرنسيس بيكون  الفلاسفة المشتغلين في مجال المعرفة العلمية إلى ثلاث فئات . فئة الاختباريين ، حيث شبههم  بالنمل الذي يكتفي بجمع المؤن و مراكمتها لاستهلاكها فيما بعد ، لأنهم يهتمون بالواقع و بالتجربة ، و فئة العقلانيين ، حيث شبههم بالعناكب التي تبني بيوتها من المادة المستخلصة من طبيعتها ، لأنهم يهتمون بالتنظير فقط ، و فئة العقلانيين التجريبيين  ، حيث جعلهم أشبه بالنحل الذي يحول ، عبر تقنيته الخاصة به ، الرحيق المستقى من الطبيعة إلى عسل  ، لأنهم متموضعون  في الوسط بين فئة الأولى و الفئة الثانية .

     هذا التشبيه البليغ ، سنجعله كمنطلق لتحديد مفهومين مركزيين : مفهوم " النظرية " و مفهوم  " التجربة  "  

     تفيد الدلالة اللغوية لهذين المفهومين ، أن النظرية في اللغة العربية تعني الملاحظة و الرؤية بالعين المجردة لأنها لفظة مشتقة من النظر ، كما أنها تعني ، حسب ابن منظور ، الكيفية التي نرتب الأشياء على الصورة التي تجعل المغيوب معلوما . أما لفظة  theorie  الفرنسية فأنها تعبير، عن نسق من الأفكار المبنية بشكل متدرج عبر الانتقال من المقدمات إلى النتائج و من البسيط إلى المركب . كما أنها تحمل معنى التأمل العقلي المحض استنادا إلى الكلمة اليونانية throria  التي اشتقت منها .

     أما لفظة " التجربة " فهي تعني كل الخبرات و المعارف المحصل عليها انطلاقا من الواقع بشكل مباشر . و تعني أيضا ، في المجال العلمي ، مجموع الترتيبات التي يتخذها العالم في مختبره أثناء ملاحظته ظاهرة ما من الظواهر بعد أن يصوغ الفرضيات ، بحيث تكون التجربة تحققا من تلك الفرضيات بقصد بناء معرفة يقينية  حولها .

     اما على مستوى التحديد الفلسفي لهذين المفهومين ، فيمكن القول أن النظرية هي  نسق فرضي استنباطي يصف الوقائع و يتجاوز ذلك ليقوم بتفسيرها ، أما التجربة فهي تمثيل لواقعة حسية معطاة من الواقع التجريبي .

     يضعنا هذان التحديدان ،  اللغوي و الفلسفي ،  أمام إشكالية فلسفية نابعة من مفارقات متصلة بطبيعة كل من النظرية و التجربة  ، فهل سنعتبر النظرية تمثيلا محضا لكل ما هو مجرد ومرتبط بالذهن و بالمفاهيم المتولدة عن الصورة الذهنية الخالصة ؟ و هل سنعتبر ، في الجهة المقابلة للنظرية ، أن التجربة هي مجالا للملموس الخاضع للانطباعات الحسية التي تأتينا عن طريق  الواقع التجريبي ؟ أم ينبغي خلق حوار فاعل بين النظري و التجريبي ، لا يهمش دور كل من النظرية و التجربة ، بحيث لا يختزل النظرية في مجرد نسق عقلي رياضي ، و لا يختزل التجربة في كونها مجرد تعبير آلي عن واقع يقدم نفسه للباحث أو للعالم بسهولة انطلاقا من المحسوس للوصول إلى المعقول ؟ هل تطرح العلاقة بين النظرية و التجربة مشكلات إبستمولوجية حقيقية ينبغي التصدي لها بروح علمية تتوخى الدقة و الموضوعية ؟ ما الفرق بين التجربة و التجريب ؟ و ما الحدود الفاصلة بين العقلاني و التجريبي ؟ و ما المعايير التي بموجبها يمكن تحديد صلاحية نظرية علمية من النظريات ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق