تحقق النظرة الجمالية في الأعمال الأخيرة للفنان التشكيلي المغربي حافظ مربو
بقلم : عبد الجبار الغراز
عرض الفنان التشكيلي المغربي حافظ مربو مؤخرا آخر أعماله التشكيلية ، برواق
محمد الفاسي بالرباط ، و قد استمر هذا المعرض التشكيلي الهام ، الذي أعطي له كعنوان
" تحولات " من 6 ماي إلى غاية
30 منه .
و للعلم ، فحافظ مربو هو فنان شاب من مواليد سنة 1974 منحدر من مدينة تزنيت
(جنوب المغرب ) خريج مدرسة تكوين الأساتذة في مادة التربية التشكيلية ، سبق له أن
شارك في عدة معارض جماعية و فردية داخل و خارج أرض الوطن ..
يتميز أداؤه الفني بأسلوب
راق و متطور ، عرف بتجاوزه للنمطية التي تقتل الإبداع الفني الأصيل .كما يتميز
أيضا بكونه مخاطرة فنية جديدة تسعى إلى
فتح قنوات ونوافذ جديدة كلما رأى الفنان انسدادا لا يحقق النظرة الجمالية . مخاطرة
يتخد عبرها الفنان مربو موقفا واعيا نابعا من ذاته و من إحساسه بالجمال و المتعة و
الدهشة .
لحافظ مربو ، كباقي الفنانين المغاربة الشباب ، رؤية و تصورات فنية متجددة
ذات بعد ذاتي تشي بتحول مستمر لهذا الفنان فكريا و إبداعيا ، و ذات بعد موضوعي
معبر عن مختلف استجابات الإبداع للتحولات الكبرى التي يعرفها المحيط . هذه الرؤية
أغنت تجربته الفنية الحالية إغناء مكثفا . فكل مرحلة من مراحل عمره الفني تعتبر
رحلة عبر الذات نحو المجهول لاقتناص المدهش و الممتع و المفيد و الجمالي ، مما قد
يجعل من هذه الرحلة بحثا مستقلا عن أسلوب جديد يخرج إلى الوجود ليدخل ضمن
الرؤيةالفنية الجديدة للفنان .
يجعل الفنان حافظ مربو من
كل مغامرة فنية وتقنية يعيشها نوعا من التجريب الفني . فليس بغريب على فنان مثله
فعل ذلك ، و قد خبرت نفسه في مجال التشكيل ما كفاها من
الخبرة و الممارسة لكي تنوع في طرق طرح
الأفكار و اختيار التقنيات الملائمة لها .. فكل بداية لمرحلة جديدة هي ، بحسبه ،
إنضاج لمرحلة سابقة عنها .
و بناء على ما قيل ، يمكن تلخيص المراحل التي مرت منها التجربة الفنية لهذا الفنان المبدع إلى ثلاث مراحل فنية
كبرى ، لكل منها خصائصها و سماتها التي تفصلها عن الأخرى :
المرحلة الأولى تعود إلى بدايات تفتح موهبته الفنية، التي قام لاحقا بصقلها
بالدراسة الاكاديمية بشعبة الفنون التشكيلية، والمتابعة للمعارض والتظاهرات
الفنية، حيث ابحر ، كعادة كل فنان ، في بحر الفن ، و اطلع علىتاريخه العريق ، و تعرف
على مدارسه الفنية الكبرى ، و راكم
الاساليب والتقنيات التشكيلية و
جعل من هذه المرحلة مرحلة تتسم بطابع
اسلوبي تشخيصي واقعي، مستوحى من التراث
المغربي في تنوعاته المختلفة، مع تبني تقنيات الفن الحديث الاوروبي في معالجته
لمفاهيم تشكيلية اساسية كاللون والضوء ، الحركة،المادة...
أما المرحلة الثانية فقد ابتدأت
مباشرة بعد أولى سفريات الفنان مربو الى اوروبا ، حيث أتيحت له الفرصة أن يتشبع ،
بثقافة بصرية جمعت اعمال كبار الفنانين العالميين بالمتاحف و أروقة الفن المعاصر .
في هذه المرحلة بدا يبرز لدى فناننا النزوع نحو شاعرية الشكل والمضمون . هذا
الأخير دفعه ، بشكل جدي ، إلى التفكير في البحث عن أسلوب فني خاص به هو كفنان
بدأت معالم شخصيته الفنية تبرز ، لابتكار سمات فنية ذاتية مميزة، تجعل منه
إنسانا يتجاوز المرحلة التشخيصية نحو
محاولة تبسيط وتحوير واختزال ما تم استيحاؤه من الطبيعة، أو ما تم تخزينه في الذاكرة ..
أما المرحلة الثالثة ، التي يجد الفنان حفيظ مربو نفسه في خضمها ، فهي تعبير
عن انتقال من هذا الأسلوب الاختزالي التبسيطي التحويري ، الذي أتينا على ذكره ،
إلى أسلوب متطرف يحاول فيه هذا الفنان المبدع أن يمارس شغبه الفني عبر إنجاز أعماله باللونين الأسود و اللون
الأحمر المعدني الآجوري ، المنطليان على البياض ، كتقنية لونية وخى منها الفنان
حافظ مربو إعفاء نفسه من الدخول المجاني في متاهات متعة الألوان الزاهية النشيطة
التي تستجيب للذة زخرفية مبتذلة غايتها اقتناص السهل لجذب المتلقي .
و يعتبر معرضه الحالي مشروعا مبنيا على التحول المتبادل بين الإنسان و
محيطه، الحامل لاسم " تحولات " ، الذي اشتغل عليه مدة سنتين تقريبا ، إذ
يعتبر خلاصة تجربته الاخيرة هاته ، جمع فيها
هذا الفنان المبدع ، الفني بالتقني من جهة ، و الفكري بالثقافي من جهة أخرى
، لإنتاج أفكار و بناء تصورات جديدة و
التعبير عن أحاسيس قابعة في الدواخل ، و طرح تساؤلات مغايرة منفتحة عن الممكنات .
هذا المشروع الجديد أراد
له الفنان مربو أن يرصد حالات اتصالية
وانفصالية بين الذات والموضوع ، برؤية للواقع من زوايا متعددة، تستمد روحها من
التجربة الإنسانية التي نعيشها في عالمنا المعاصر بمكوناتها الثقافية والسيكولوجية
و الاجتماعية، للتمكن من اقتناص جوهره المتحرك، المتفجر ، حيث يلتقي في هذه
التجربة الفنية الخاص والعام في مزيج موحد ، بالإضافة إلى سلسلة من المزاوجات بين
كل الاسئلة المؤرقة الفلسفية و الشعرية و النظرية المنبثقة من مصادفات الحياة
اليومية المعاشة ، للارتقاء بالتجربة إلى مستوى أشمل وأعمق .
هذه التجربة الجديدة التي اختارها عن طوع الفنان حافظ مربو هي مخاطرة فنية
ابتغت أن تنهل من معين فلسفي ينفخ في الثنائيات الأنطلوجية ، روحا جدلية مفعمة
بالحيوية و بالحياة .. مزيلة لكل حدود و ماحية لكل الفواصل الممكنة بين الذات و
الموضوع ، الشكل و المضمون ، السطح و العمق ...
لقد استطاع الفنان حافظ مربو توظيف هذه الثنائيات الأنطلوجية أبرع توظيف فني، حيث جعل الغلبة تؤول إلى الثيمة بدل
تلك الثنائيات ، بطريقة جعلت الشكل في خدمة المضمون و السطح في خدمة العمق و
الموضوع في خدمة الذات . بتعبير آخر ، لقد اشتغل هذا الفنان على " المفهوم
" المفضي مباشرة إلى الفكرة ، بالشكل الذي يجعل من نظرته الداخلية المحملة
بالأحاسيس و المترجمة لمختلف الانفعالات الذاتية ، تستلهم مواضيعها من محيطها
الخارجي لصبها في الداخل، و معاودة إخراجها الى الوجود ملموسة فنيا و قابلة لأن
تتحول إلى تعبيرات بصرية مناسبة في أي لحظة زمنية ، و في أي ظروف نفسية مواتية.
فتارة قد تكون تلك التعبيرات البصرية رسما و تارة أخرى قد تخرج من إطار اللوحة لتتخد شكل منحوتة أو تتحول
إلى فن فيديو أو فن المنشآت أو فن الأداء .