عبد الجبار الغراز
نود أن نشير ، منذ البداية ، أننا لا نسعى ، عبر هذا المقال ، إلى تبخيس ثقافتنا العربية الإسلامية أو التنقيص من شأنها ، و لا إلى التعبير
عن رؤية تشاؤمية عدمية همها جلد الذات ، بل نسعى إلى التعبير عن
فكرة مفادها أننا في حاجة ماسة إلى ثقافة متسامحة نكرسها ، كعرب و كمسلمين ، في
وجداننا الجمعي ، تكون نابعة من فلسفة تنويرية شبيهة بتلك التي بلورها في
أوروبا فلاسفة عصر الأنوار، و كرستها ، في
أوطانها ، فيما بعد ، شعوب و حكومات العالم .
فكيف يمكن تحقيق
هذه الحاجة على أرض واقع عربي تنخر جسمه الثقافي أصوليات متصاعدة و صراعات طائفية
و مذهبية ، و يسود فيه ، و بشكل صارخ ،
التعصب بدل التسامح ، و العنف و العنف المضاد بدل السلم و المسالمة ؟
للإجابة عن هذا
التساؤل الإشكالي ، وجب القول أن هناك بقايا وظيفية مترسبة علقت منذ قرون في وعينا
تعود في أصولها لبنيات ثقافية و اجتماعية
و فكرية و نفسية متجذرة ، ارتبطت بالنزعة الأبوية الذكورية ، و بالعصبية القبلية ،
و بغلبة الجماعة على الفرد ، و طبعت االعائلة و القبيلة و السلطة بطابع انقسامي
يقصي من دائرة وجوده الآخر الغريب ، ذلك الكائن الدخيل على ثقافتنا .
انقسامية صيرتنا
كائنات آدمية مدمرة من الداخل ، مفتقرة لقيم تعايش تتغذى على ما هو مشترك فينا، و تنتعش
و تستمر في الوجود و تحيى على ما هو مغاير
فينا أو مختلف عنا.
انقسامية كانت وراء هذا التشرذم و هذا التجزيء
الذي أذكى نيران الصراع الديني و الطائفي و الإيديولوجي ، و مزق نسيجنا الثقافي .
انقساميية جعلتنا أمة تبدو للأمم و للثقافات
الأخرى و كأنها بدون عمق تاريخي و حضاري .. أمة عاجزة عن فعل أي شيء من أجل الخروج
من ظلمات التكفير و العنف و العنف المضاد.
صحيح أن كل أمم العالم قد عاشت التعصب في تاريخها السحيق،
مثلما عشناه نحن ، و لا زلنا نكتوي بنيرانه الملتهبة،( سقراط
اتهم بإفساد عقول الشباب ، فحوكم و أعدم بتناوله السم ، و جان دارك ، عذراء
أورليان ، اتهمت زمن محاكم التفتيش بالهرطقة ،فحوكمت و أعدمت حرقا، نفس المصير لاقه من بعدها و جوردانو برونو
لتبنيه نظرية كوبرنيكوس حول دوران الأرض ، و ابن رشد، هو الآخر ، اتهم بالزندقة
فأحرقت كتبه .. و القائمة في هذا الباب طويلة .. ) ، لكن هذه الأمم لم تظل مكتوفة
الأيدي ، بل تخلصت من هذا التعصب المقيت ، و ذلك من خلال تفكيك دوغمائيته و أخضاع
أنظمته المتجذرة في لاوعيها الجمعي لمحك التفكير النقدي و العقلاني السليم المعتمد
على المساءلة و المكاشفة و الحوار الهادئ الرزين ، و هي بفعلها ذاك ، استطاعت الخروج
من هذه الدائرة اللاحضارية و نقل قيمها السلبية من مستوى اللاوعي إلى مستوى الوعي .
أما نحن، فقد بقينا
سجناء قيمنا السلبية و غلونا في الاعتقاد بالأشياء بشكل مطلق، في عالم متغير
باستمرار يرى الحقائق دائما نسبية تدفع إلى الإيمان الراسخ بالتعدد و الاختلاف و
المغايرة .. إيمان يجعل من التسامح موقفا إيجابيا من الآخر ..
ذلك الدخيل أو الغريب عن ثقافتنا .
كما بقينا ، أيضا
، منذ اندحار ثقافتنا العربية الإسلامية مع الغزو المغولي و التتري رهن إشارة
" دوغمائيات عقيمة " و " لامعقوليات خفية " معتقدين أنها من
مخلفات سلفنا الصالح ، و هو منها براء ،
منغلقين على أنفسنا ننتظر الذي يأتي ..
و لم يأت سوى
الخراب و الدمار و هذا الانقسام الطامس لهويتنا الحضارية .
ينبغي أن نعلم أن الثقافة ليست وعاء حاملا لقيم
الأجداد و معتقداتهم و فلسفاتهم ، بل هي منظومة منتجة للمعايير الموجهة للسلوك
الإيجابي عن طريق ما يسمى بالتنشئة الاجتماعية و التربية و التعليم العقلاني
السليم و الرشيد . و معنى هذا أن سيادة التعصب و العنف في مجتمعاتنا يوضح ،
بالملموس ، أننا قد فشلنا كمنظومة قيم اجتماعية و دينية و أخلاقية في تحقيق توازن
نفسي و اجتماعي لهذا الكائن الإنساني الذي يسكن دواخلنا الذي نسميه بالإنسان
العربي.
كما ينبغي أن نعلم
أن العنف طاقة غريزية كامنة ، يستوي فيها الحيوان مع الكائن الإنساني ، تستيقظ عند
حالات دفاعية أو هجومية. يمارسه الحيوان على ضحيته لحفظ بقاءه ، أما الإنسان فإنه
يمارسه بسبب الخوف و القهر المسيطران عليه . العنف بهذا المعنى ، هو صنيعة من صنائع المنظومات الثقافية التي تعيش
أزمة خيارات ، أزمة تقديم بدائل جديدة في مشروعها الثقافي .
و الخروج
من متاهة العنف يستلزم تأسيس مجتمع متسامح
يقوم على التعدد و التنوع و التواصل و الحوار و إعمال العقل ، و على العلاقة
الإيجابية البناءة مع الآخر القائمة على غض الطرف عن أخطاءه ، كما يستلزم ، أيضا ،
تبني مشروع ثقافي تنويري مسالم ، نتوخى
منه طرح أسئلة أنوارية على أنفسنا، شبيهة بتلك التي تولدت بفعل التفكير النقدي
الكانطي ، لكشف أوهام عقلنا العربي السياسي
و الأخلاقي المتماهي بالمطلق. فبفضل أدوات النقد التشريحية سنستطيع ، و لا شك ، اقتحام
طابوهاتنا و استنبات حداثة فكرية سيؤسسها مثقفون عرب يماثلون في عبقريتهم عبقريات كانط و فولتير و
ديدرو و مونتيسكيو و لوك و ميكيافللي و هيردر و غوته و شيللر و ليسينغ و هيجل .
لنتعلم من جان
لوك حين رفع في رسالته في التسامح شعار : "
حريتي تنتهي عند ابتداء حرية الآخرين ، و فولتير ، حين عبر عن استعداده بالتضحية
بحياته من أجل الدفاع عن حرية الرأي المخالف لرأيه، و مارتن لوثر ، حين حارب
استخدام الإكراه في شؤون العقيدة و الإيمان .و إدغار موران ، حفيد هذه السلالة
الأنوارية، حين اعتبر التسامح ضرورة من
ضرورات الديمقراطية و مبدأ أساسيا لها إلى
جانب مبدأ المساواة و العدل و مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث ، و حكيمنا ابن رشد
لما اعتبر أن " الحق ( الشريعة ) لا يضاد الحق ( العقل ) بل يوافقه و يشهد له " و لما تلمس العذر
للآخر المتمثل في الفلسفة اليونانية حينما قال :
" فما كان موافقا للحق قبلنا به و سررنا به و شكرناهم عليه و ما كان
غير موافق للحق نبهنا عليه و عذرناهم "
ألا يعتبر تلمس
العذر، هنا ، للآخر قمة التسامح !!!
إذن ، لقد بات من
الضروري التفكير بجدية في العمل ، على المستوى الديني ، تقريب المسافات و تذويب الخلافات بين المذاهب
الفقهية ، التي يعمل اختلافها على إذكاء روح التعصب المدمر ، و محاولة عقلنتها عبر
إخضاع مسلماتها للمساءلة. فخلاص النفوس لا يكون أبدا من شأن المخلوق ، بل يكون من
شأن الخالق سبحانه و تعالى ، و لا أحد قد فوض لفعل ذلك سوى الأنبياء و الرسل ،
و إلا فقد اعتبر ، " مزدريا الجلالة
الإلهية " كما قال فولتير .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق