مجزوءة الوضع
البشري
تقديم
إذا أردنا أن نقدم تعريفا لمفهوم "الوضع
البشري " ، ينبغي علينا أن
نعتبره مفهوما فلسفيا يحصر الذات البشرية و يحددها في
مختلف مستويات الوجود و
أبعاده المختلفة البيولوجية و النفسية و الاجتماعية و
التاريخية .
هذه الأبعاد جعلت الوجود البشري يتسم بالتعقيد
مع استحالة فهم جوهره والتحكم فيه ، و بالتالي وضعت الإنسان أمام ازدواجية لا مفر
من ترتيباتها ، وأشرطته بسلسة من الضرورات و الحتميات : فقد جعلته يكون ،من جهة أولى ، الكائن الوحيد وسط هذه الكائنات ، الذي يستطيع
اختيار نمط وجوده في هذا العالم بفضل ما يمتلكه من تفكير و وعي ، و بفضل ما ينسجه من
علاقات اجتماعية التي يقوم بتطويرها باستمرار ، و جعلته يكون ، من جهة ثانية مقابلة ، ذاتا
غير منعزلة تعيش مع الآخرين و خاضعة لللإكراهات و للظروف المحيطة بها .
انطلاقا من هذا الوضع ، يتحدد الإنسان من
خلال مستويين : ذاتي و آخر موضوعي .
ففي المستوى الأول ، يبرز بوصفه
شخصا أخلاقيا و حقوقيا له اختيارات ، تعتبر بمثابة مشروع ، يحاول ساعيا بواسطته مواجهة الظروف الخارجية
المحيطة به ، إما بالرفض و إما بالقبول و إما بالتجاوز.
أما في المستوى الثاني ، فإن اختياراته تتقلص ، بسبب دخوله القسري
في
علاقات و تفاعلات مع الغير . فإما أن يرسيها على أسس متينة فتجعل منه هذه
الوضعية ،
كائنا اجتماعيا و تاريخيا تضفي على المجتمع و على التاريخ معنى ما، و
إما أن يرسيها على أسس واهية فتجعل منه هذه الوضعية ، كائنا محكوم بإشراطاتها
و حتمياتها القاهرة الطامسة لذاته و حريته و إرادته و فاعليته في المجتمع و
التاريخ .
فالوجود البشري ، إذن ، و انطلاقا مما تقدم ، يعني في جوهره
تقاطع مجموعة
من الشروط و الأبعاد : منها ما هو فردي شخصي ، و منها ما هو علائقي يربط
الشخص بالغير ، و منها ما هو زماني يجعل من الإنسان كائنا مرتبطا بتاريخه.
و
هكذا ، و بناء عليه ، يظهر الكائن البشري كفرد، بمظهر الشخص ذو الوحدة السيكولوجية و الوجدانية و
العقلية ، كما يظهر أيضا بمظهر ذلك الكائن الحر و المتمتع بالإرادة و بالكرامة ، المستقل بذاته
، و المتطور و النامي بشكل تدريجي و متصاعد ، و المتميز عن باقي الكائنات الأخرى باكتسابه للوعي و للغة . لكنه ، في نفس الوقت ، يظهر أيضا ككائن
مشروط بمحددات بيولوجية و اجتماعية لاواعية تكبل إرادته الميالة بطبعها إلى التحرر
. فقد اقتضت سيرورة تطوره كشخص أن تكون مشروطة بوجود الغير، و مشروطة أيضا، كسيرورة نفسية طويلة الأمد ، بمحيطه
السوسيو- ثقافي الذي ينتمي إليه. فلا وجود ، إذن ، و الحالة هذه ، لشخص بدون أغيار يتقاسمون و يؤسسون معه
الحياة الاجتماعية . فالشخص و الغير يشكلان معا جزء من هذا النظام الجماعي المبني على أسس
اقتصادية و سياسية و ثقافية الذي يسمى بالمجتمع .
فالوضع البشري ، الذي قمنا ، الآن ، بعرض أهم خصائصه
فلسفيا ، يجعلنا أمام
تقابلات ،و مفارقات ، و بالتالي يضعنا أمام إشكاليتين
فلسفيتين ، إشكالية الشخص و
إشكالية الغير .
و هكذا سنتساءل في الأولى عن الشخص في مستوياته الثلاثة : هويته ، قيمته،و تأرجحه
بين الحرية و بين الحتمية . بينما نتساءل في الثانية عن الغير في مستوى
وجوده و مستوى
معرفته و مستوى العلاقات الممكنة التي
يمكن أن ننسجها معه .
فما الشخص إذن؟ و ما
الأساس الذي تقوم عليه هويته ؟ و بأي معنى يمكن
اعتباره ذو قيمة معرفية و
أخلاقية ؟ و هل له القدرة على التحرر من إكراهات
الضرورة و الحتمية ؟ و هل يمكن
تصوره معطى ثابتا أم يمكن تصوره ذاتا متطورة و
مبدعة ؟
و ما الغير ؟ و هل يشكل وجوده بعدا أساسيا
في حياتنا ؟ وهل يمكن إقامة
معرفة ممكنة عنه ؟ و ماهي طبيعة العلاقة معه ؟ هل يشوبها
التكامل أم الصراع
مع الذات ؟
هوامش : اعتمدنا في بناء هذا الدرس الفلسفي على المراجع االمدرسية التالية :
مباهج الفلسفة . مسلك الآداب و العلوم الإنسانية الثانية باكالوريا . افريقيا الشرق ص : 9
منار الفلسفة . مسلك الآداب و العلوم الإنسانية الثانية باكالوريا . افريقيا الشرق ص : 9
في رحاب الفلسفة . مسلك الآداب و العلوم الإنسانية الثانية باكالوريا . افريقيا الشرق ص ص : 8 -9
mrc
ردحذف