المنظومة التربوية المغربية : من
المسؤول عن تعنيف نساء و رجال التعليم ؟
يضع
، من جديد ، حادث تعرض أستاذ إعدادية سلا للذبح من طرف تلميذ له ، المنظومة
التربوية المغربية موضع تساؤل .فالحادث ، كما نعلم جميعا ، ليس بشيء عابر ، فهو
يشكل ظاهرة خطيرة تنضاف إلى جملة المصائب التي تحل على أسرة التعليم المغربية . و
هذا يقتضي من المهتمين و المسؤولين الانكباب عليها من أجل تحليلها و مناقشتها ،
بشكل جدي ، لتطويقها قبل أن يستفحل أمرها و يقودنا إلى ما لا تحمد عقباه .
هذه الإشارة الهامة تدفعنا ، إلى أن نطرح
السؤال التالي : من المسؤول عن هذه الظاهرة الخطيرة ؟
و كجواب عن هذا السؤال ، يمكن القول أن
ظاهرة التعنيف الممارس على نساء و رجال التعليم في المغرب ، من قبل تلامذتهم ، لم
يأت من فراغ ، بل كان ثمرة مخطط ممنهج سعى إلى إفشال المدرسة العمومية المغربية ،
و ذلك عبر إفراغها من كل مضمون تربوي تنويري حقيقي للإجهاز، في الأخير ، على كل ما
تبقى منها ، بشكل نهائي.
و لتحليل هذه القضية ، بشكل مركز، يقتضي منا الأمر
العودة قليلا إلى الوراء ، لنعرف مكمن الداء .
إن الكل
يعلم ، أن المغرب قد دخل في مغامرة التنافسية ، منذ بزوغ شمس العولمة الاقتصادية، و بداية زحفها
الأولي و التدريجي على بقاع العالم ، و ذلك بداية عقد التسعينيات من القرن المنصرم
. دخلها دون أن يحسب العواقب بشكل جيد . فعالم التنافسية هذا ، هو عالم الرأسمالية
المتوحشة الذي لا منطق له . فالداخل إليه مفقود و الخارج منه مولود. عالم محيطه
يتغير باستمرار، فعلى الداخل إليه أن يتفاعل بسرعة معه ، و يستجيب لمتغيراته
مستجداته ، و يتنازل عن بعض حقوقه السيادية و الاستراتيجية في تسيير دوالب الحكم و
الاقتصاد ، و يكيف أداته السياسية ، بشكل فوري ، تبعا لإملاءات السيد الجديد .
و هكذا ، و بسرعة ، وجد المغرب نفسه أنه مفروض عليه أن يبرم معاهدات و يصادق
على اتفاقيات لم يستسغ مضامينها و لم يهضم بعد حمولتها الإيديولوجية و يدرك
أبعادها الخفية و تأثيرها المباشر و غير المباشر على جيله الحالي و على أجياله اللاحقة
.
باختصار .. لم يكن المغرب في كامل استعداده المادي
و لياقته الاقتصادية للدخول في هذا العهد العالمي الجديد ، لأنه ، بكل بساطة ، لم
يحسم بعد، منذ الاستقلال السياسي عن فرنسا إلى الآن، في إشكاليات كبرى ورثها عن
الدوائر الاستعمارية التقليدية . يتعلق الأمر بإشكالية التخلف و التنمية و التبعية
. و الآن ، و بعد أن فاته قطار الحسم هذا ، ظل يعاني طيلة العقود الماضية من هذه
الوضعية التي تكبل إرادته عند كل منعطف حاسم يروم فيه تحقيق التغيير الحقيقي لأوضاعه
. لقد " عصرن " المغرب ، بعيد الاستقلال السياسي ، بنياته السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية
، لكنه ، في نفس الوقت ، ترك الأصيل يتعايش مع العصري و التقليدي يتعايش مع
الحداثي . و الأغرب في الأمر ، أنه راهن في هذه " اللخبطة السوريالية " على نخب سياسية و اقتصادية كانت , و لا تزال ، وريثة
للاستعمار الكلاسيكي ، فترك إرادته السياسية تتأرجح، ذات اليمين ، مرة ، و ذات الشمال ، مرة
أخرى ، في ظل حرب باردة أتت على كل اخضر و يابس، و بقي على هذه الحالة ، مفتقرا للأساس
الصلب الذي سيعيد له توازنه لرؤية الأمور بشكل واضح و سليم .
انطلاقا من هذا الوضع الإشكالي ، يمكن صب تلك السلسلة الكبيرة من الإصلاحات التي طالت
حقل التربية و التكوين بغية تحسين جودة المنتوج التعليمي و جعله متكيفا مع مستجدات
محيط متغير باستمرار ، و توفير موارد بشرية قادرة على الإبداع و الابتكار لتلبية
رغبات السيد الجديد صاحب الشركات العابرة للقارات . لكن تلك الإصلاحات كانت ،
دائما ، و لنفس الأسباب ، تبوء بالفشل .
لقد أصبح، منذ ذلك الحين، من المسلم به اعتبار حقل التربية و التكوين بالمغرب
من أخطر القضايا المصيرية ، التي ينبغي على كل القوى الفاعلية في البلاد من أحزاب
و نقابات و جمعيات و غيرها و التفاعل معها،
بشكل جدي و سريع ، و اعتبارها القضية الوطنية الثانية ، بعد قضية الوحدة الترابية
، خصوصا بعد التقرير الصادم للبنك الدولي الذي صدر سنة 1995 . و هكذا ظهر الميثاق
الوطني للتربية و التكوين الذي أريد له أن يكون رائدا في رسم خارطة طريق تشق
دروب" التنمية " المزعومة ، و فشل ، هذا الأخير ، فشلا ذريعا في هذا
الصدد ، لكنه نجح في خلق أزمة ثقة بين الأسرة و المدرسة العمومية ، و انسحب من
مسرح الحدث التربوي ليفسح المجال للمخطط
الاستعجالي لإتمام مهمته الخطيرة : الإجهاز على مكتسبات المدرسة العمومية .
فليس
ببعيد أن يرى مجتمع بعين التفاؤل أبناءه يتمتعون بالميزات الحميدة التي ترفع من
شانه بين مصاف المجتمعات الأخرى : أبناء متنورون
و عقلاء ، و ليس مجرد أبناء جهلة ، حولهم
اليأس إلى كائنات تتغذى أرواحها البئيسة على العنف، إذ من السهل جعلهم أداة طيعة
في يد الأعداء لتصيرها كيفما تشاء . لكن المسألة
هنا ليست مرتبطة بالبعد أو بالقرب ، بل مرتبطة بأزمة اختيارات ، أزمة قناعات ، و
أزمة نخب ( أو بتعبير رئيس الحكومة ، أزمة أشباح و عفاريت سيدنا سليمان ) لا هم
لها سوى التماهي مع سلطة و نفوذ الرأسمال .
لا أحد
يستطيع أن ينكر أن منظومتنا التعليمية تعيش الركود في شتى الأصعدة، . فقد عجزت ، رغم
سلسلة الإصلاحات ،عن إنتاج الآليات و الأدوات التي ستساهم ، بشكل أساسي و جذري في
، خلق الروح القوية و الشجاعة في الإنسان
المغربي، الهازمة لليأس و المكسرة، في الدواخل العميقة ،
للخوف المعشعش في النفوس .
فالتعليم في المغرب ،
منذ الثمانينيات من القرن المنصرم ، كان ، بالفعل ، هادفا . لكن هدفيته تلك ، كانت
تصب في اتجاه شل القدرات الفكرية للمتعلمين و المتعلمات ، بدل تحفيزها و تنميتها
بشكل تصاعدي . فلم نعد نرى ذاك اللهب ولا تلك
الشرارة ، التي كانت توقظ في كل ضمائر التلميذات و التلاميذ جذوة الحماس في تحصيل
العلم و تلقي المعارف . فمنذ بداية ذلك العهد ، غرق أطفالنا و شبابنا الواعد في مستنقع التخلف الفكري و التسطيح الممنهج الذي
طال وعيهم ، و لم يجد المغرب من مفر و من وسيلة للخروج من الوضع المترتب عن هذه
الحالات الميؤوس منها ، سوى إثقال المغرب بالديون، و تركيع أبناء الشعب المغلوب على أمره . و تخصيص جزء
كبير من هاته الديون في جلب خبراء بقصد إعطاء الوصفة السحرية لتنويمه و تخديره ،
أو شراء الأسلحة لقمع الانتفاضات و المظاهرات
المطالبة بالحقوق و صون الكرامة .
لقد
تسارعت ، في العقود الأخيرة ، وثيرة النمو الديمغرافي ، حيث احتل الشباب
الصدارة كأعلى نسبة في هرمه السكاني ، لكن
في المقابل ، استفحلت ظاهرة البطالة في خريجي الجامعات . فاكتشف الشباب أن تكوينهم
الجامعي لم يعد ينسجم مع مستلزمات سوق شغل
دائما يغير من معاييره وكذا طرق إدماجه لمختلف الموارد ، خاصة الموارد البشرية ،
تبعا لمستجدات محيط يتغير بشكل مستمر و متجدد . فارتفع مستوى التطلعات في صفوفهم ،
نتيجة ما وفرته وسائل الاتصال الجماهيرية ، خاصة الإنترنيت و التلفزيون من ثقافة
التسطيح و التغييب للوعي و ذلك من خلال ما
تبثه من برامج ترفيهية و مسلسلات و أفلام أجنبية مستوردة تزيد في تعميق الهوة بين الإنسان و الواقع ، فتضاءلت
فرص العمل أمام الشباب المتخرج في تحسين وضعهم المعيشي لتحقيق عيش كريم ، و استسلم
هذا الأخير ليأس قاتل .
و حتى يتسنى تحقيق الأهداف
بقصد تطويع هذه القاعدة العريضة من الشعب و
إذلالها ، خاصة شبابها ، سعت القوى المتحكمة في مراكز اتخاذ القرار إلى توسيع الهوة بين الإنسان و واقعه عبر نسف ذلك
الجسر الذي يسهل المرور من اكتساب المعارف و المهارات و الكفايات بمختلف أنواعها
إلى الانفتاح على مختلف الممارسات الحياتية المتشعبة ، و الذي ترسيه و تدعمه
المؤسسات التعليمية ، و ذلك عبر انتهاجها لسياسات تربوية نفخت في الجسم التربوي
روح التيئيس و التبخيس .وقلصت ، بفعل ذلك ، من حجم هذا مد فكري و وعي تنويري متصاعد بدأ يتجذر في بنياتنا
الفكرية ، و ينتشر و يتوسع بسرعة في أوساط
تلاميذنتا و طلبتنا . و ترتب عن هذا
الإجراء الممنهج تراجع دور الثقافة
المتنورة و الواعدة بشكل مواز مع تراجع الدور التنشيئي للأسرة و للمدرسة ليحل مكان
هاته الأدوار إعلام سمعي و مرئي ترفيهي الغرض منه هو تمييع كل ما هو جميل و هادف و جدي و جعله مبتذل و غير
صالح إلا كديكور و ك " فترينة "
فانتهجت سياسة مهرجانات الموسيقى و الرقص بغرض إلهاء الشباب ، و إبعادهم عن
همومهم الحقيقية . فباسم الثقافة يخضع الشباب لتخطيط ممنهج ، حيث يتم تصفية و
إقبار ما تبقى من أمل في تغيير حقيقي لأوضاعهم .
إن ما يحصل
اليوم ، في المجتمع المغربي ، من تطورات
هامة ، والتي بدأت تمس الآن هياكله السياسية و التشريعية والقانونية و الاقتصادية
و الاجتماعية ، و التي توجت بسن دستور جديد ، يعتبر نتيجة الحراك الذي عاشه مؤخرا المغرب
، تماشيا مع ثورات الربيع العربي ، و الذي بفضله استطاع الإنسان المغربي أن ينفلت
من حلقات سلسلة من الكوارث و الاحباطات النفسية التي أثقلت كاهله و جعلته عرضة
للتفكك النفسي و الاستيلاب الاجتماعي و الغبن السياسي . فسياسات العهد القديم كانت تطبخ ، من وراءه ، في الكواليس. و أغلب
القرارات التي أخرت البلاد و العباد لسنين طويلة عن ركب الحضارة و الديمقراطية و
الحرية ، كانت تتخذ في غفلة منه .
و
في الأخير ، يمكن القول ، أن السلوك الإنساني
التعاطفي الذي سلكه رئيس الحكومة تجاه الأستاذ الضحية و تجاه نساء و رجال التعليم
فهو سلوك محمود ، لكنه غير كاف . فحكومته مدعوة ،أكثر من أي وقت مضى ، إلى أن تفي
بالتزاماتها و عهودها تجاه ، منظومة التربية و التكوين .فالاعتداءات الشنيعة في حق
مربيي الأجيال الصاعدة هو، في حد ذاته ، تعبير صريح بأن منظومة التربية و التكوين
قد فشلت فشلا نهائيا ، و أن على أصحاب القرار في هذه البلاد العزيزة ، أن يراجعوا
أوراقهم و يعيدوا النظر في طريقة تدبيرهم لهذا القطاع الحيوي في البلاد ، قبل فوات
الأوان .