طفولة قاتلة .. و مقتولة !
عبد
الجبار الغراز
يأبى " الإرهاب " ، هذه المرة ، إلا أن يقدم
للعالم دراما دموية ، في صورة جديدة ، حيث أظهر ، بنرجسيته المتعطشة للدماء ،
الطفولة قاتلة، و في نفس الآن ، أظهرها مقتولة
..
فما معنى أن تكون الطفولة قاتلة و
مقتولة في نفس الآن ؟
طرحت على نفسي هذا السؤال بعدما شاهدت
الفيديو الصادم الذي يصور مشهدا مروعا لطفل صغير يقتل ببرودة أعصاب رهينة ، بعد أن
تسلم مسدسا أوتوماتيكيا من أحد عناصر تنظيم داعش ، ولم أجد لسؤالي هذا، جوابا شافيا يبدد أعاصير تلك النوبة الهيستيرية التي
انتابتني . فالمنظر ، لو ندري ، فظيع بكل المقاييس ..
نوبة لم أستطع الخروج منها إلا و في
القلب غصة وفي الوجدان جروح أمدتني بحزمة من أسئلة من قبيل:
كيف
يصيرسلاح فتاك يدا بيضاء ناعمة إلى يد خشنة جبارة ، لا تعرف غير لغة البطش والفتك وإزهاق الأرواح ؟
وكيف
تتحول ،هكذا فجأة ، عينا ملاك رباني ، كانتا تفيضان ببريق
البراءة والطهر، إلى عيني شيطان تقذفان الشرر والتوحش والغدر؟
أ
إلى هذا الحد يحول الإرهاب سكينة النفوس ، كما شكلتها يد الخالق ، إلى زمهرير في ليلة عاصفة ؟
لقد
عودنا الإعلام المرئي ، في عصر طغيان ثقافة الصورة ، أن نرى أجساد الأطفال ، ضحايا
الحروب الظالمة ، مرمية في الشوارع ، هنا .. وهناك ، لكننا لم نتعود ، أبدا ، على
رؤية طفل ينتحل ، قسرا ، صفة جلاد ليعدم بأعصاب باردة رهينته .
فما
أقبحه من سلوك سالب للبراءة
وللعفوية هذا الذي قامت به يد " الإرهاب " !!! وما أغربه من سلوك يؤصل العنف
والعدوان في جسم الطفولة البريئة !
فقد
يموت " الإرهاب"، لكن سيترك فراخه، وقد تلبس شيطان العنف والفتك والقسوة
، التي لا حدود لها ، أرواحها
البائسة .
أما كان
من الأجدى أن تحمل يدا هذا الطفل المسكين، بدل المسدس ، أقلاما ملونة لترسم بها
وطنا متوجا بالغد المشرق الجميل
؟
إن
هذا المشهد الرهيب ، يدعونا إلى التفكير في مفهوم الإرهاب لإعادة النظر فيه بقصد إعطائه دلالة أخرى تقودنا إلى معرفة أن لهذا الأخير جذورا تغذت
على ثقافة سلبية ما تزال ، للأسف الشديد مجتمعاتنا العربية والإسلامية أسيرة لها
.. ثقافة تحكم ، مسبقا ، على الطفولة بالإعدام مع وقف التنفيذ ..
" الإرهاب "، هذا الذي عرفناه
، انطلاقا من وسائل الإعلام ، والذي يتجسد في صورة وجه ملثم يخفي عن الأنظار ملامحه،اللهم إلا من أعين يتطاير
منها شرر الحقد والكراهية، أو يتجسد في صورة يد خشنة تضرب الأعناق لتفصل الرؤوس عن
أجسادها ، ما هو إلا صورة مظهرية لإرهاب خفي مبثوث في ثنايا الثوب ، قابع في أعماق
النفوس الآدمية . إنه، بهذا المعنى الأخير ، بنيةune structure نجدها قد تكونت و
تفاعلت عناصرها و تأسست ، أول الأمر، في أسر تشكو من نقص مزمن في فيتامين الدفء الأسري الناعم .. أسر لم ترضع أطفالها ، قبل اللبن ، الحب و
الحنان ، ولم تلبسهم ، قبل
الكسوة ذات الجودة الرفيعة ، لباس التقوى ، ولم تفطمهم على النبل وتقدير الذات
واحترام النفس الذي لا يكون إلا بتقدير واحترام الآخر.
كما
قد نجده، ثانيا ، قد تأسس في الحضانة .. في المدارس.. في الاعداديات.. في
الثانويات.. في الجامعات وفي الشوارع الحاضنة للوساخة والقبح الرافض لكل ما هو
مفيد وممتع و جميل .
ففي
ظل مثل هذه الأوساط الموبوءة ، يعيش الإنسان بلا حس إنساني و اجتماعي و جمالي
يحميه من شر نفسه و من شرور غيره ، ،كائنا مغترب الكيان ، متماه مع أفكار شيطانية
تجتاحه و تستحوذ عليه وتتلبسه و تفعل به ما تشاء، ليظهر متوحدا معها في جسم ناري
حارق حامل لهوية شيطانية ممسوخة ، ويصبح ، في نظر العرف الإنساني و القوانين
السماوية والوضعية ، إرهابي بامتياز
. وهو ، في حقيقة الأمر ، إنسان غير مسؤول عن أشياء قد ارتكبتها يداه ..
فتدريب
أطفال على ذبح الدمى و على حمل السلاح و استعماله في معسكرات التدريب لا معنى له
سوى تكريس احترافية القتل و تأصيلها في وجدان طفولة تساق إلى متاهات الإرهاب ، بدل
إلحاقها بالفصول الدراسية من أجل اكتساب المعارف والمهارات اللازمة التي ستساعدها
على استيعاب الحياة في تركيبتها جد المعقدة ..
فعندما ستصبح هذه الطفولة يافعة و
تعوزها القدرة على فهم الواقع ، وقتها سيتسلل الخطاب الديني البسيط و السطحي إلى
عقلها ليسحرها، فتنساق ، من حيث لا تدري ، إلى متاهات و دروب الفكر التكفيري الذي
يحولها إلى مجرد آلة مبرمجة تأتمر بأوامر أياد تحركها في خفاء .
إنه لشيء مؤسف أن نرى ، بعيون المستقبل
الغامض والمجهول ، أجيالا ضائعة من الأطفال ، فاقدة لمعاني الحس الإنساني المشترك ، طامسة لماهيتها ، التي هي إنسانيتها .
أجيال تتورط ، و هي في عمر الزهور، من
حيث لا تدري ، في حروب و ويلات أكبر منها، بحيث لا يستطيع عقلها الناشئ استيعاب ما
يجري لها. فإذا كبر الجسم وشب فيه الكائن ، بقي العقل والوجدان ثابتين لا يتغيران،
وقد احتواهما قالب التكفير احتواء، فيمسي الإنسان أسيرا لذلك القالب إلى أبد
الآبدين . بعدها، تغدو تلكم النفس التي كانت مطمئنة ، تسرح في ملكوت الطفولة
المرحة ، نفسا أمارة بالقتل والحرق و فصل الرؤوس عن أجسادها .. نفسا شخصانية مرضية
تكشف عن أورام سرطانية اجتماعية ، لم يعد من الإمكان استئصالها.
فهل سيستطيع ، بعدها ، الأطباء وعلماء
النفس والأخصائيون الاجتماعيون معالجة ظواهر، ستظهر على سطح الأحداث بعد حين من
الدهر ، وقد تجذرت في أعماق طفولة مغتصبة ، وانغرست كالألغام في قرارها المكين ؟
وقبل الختام ، أوجه خطابي إلى كل سياسيي
العالم ، الذي هو بمثابة صرخة مدوية في وجوههم قائلا لهم :
" رجاء أوقفوا هذا النزيف الحاد في
جسم الطفولة .. إن صمتكم هو تواطؤ مع هذا الإرهاب ومؤشر دال على موت الإنسان فيكم
.
فافعلوا شيئا لأجل هذه الطفولة المسكينة
قبل فوات الأوان ".
نشر هذا المقال بمجلة الكويت عدد يونيو 2015 - رمضان - شوال 1436 تحت عدد 381