تأطير إشكالي
يركز هذا المحور الثاني من درس النظرية و التجربة على فهم طبيعة العقلانية العلمية المقابلة لطبيعة التجربة و التجريب ، هل يمكن اعتبارها طبيعة منغلقة تضفي على العقل الإنساني صفة الانغلاق .، أم يمكن اعتبارها ذات طبيعة مفتوحة تضفي عليه صفة الانفتاح ؟
فالشق الأول من هذا التساؤل الإشكالي يصف لنا شأن الفلسفات الكلاسيكية ، التي نهلت من المنطق الصوري الأرسطي الذي سجن قدرات التفكير للعقل الإنساني في مجموعة من المبادئ و القواعد المنطقية الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان و المكان ، فأصبح بمقتضاها تفكير الإنسان تفكيرا انغلاقيا لا يخرج عن ثوابته القياسية الموضوعة له سلفا . تفكير يعبر عن عقل تتجدد أطره الفكرية بتجدد المعطيات الجديدة التي يستلزمها العالم الخارجي .
أما الشق الثاني من هذا التساؤل فهو يصف لنا شأن الفلسفات التي نهلت من تطور العلوم ، خاصة علم الرياضيات و علم الفيزياء في مجاله مرتبط بالميكروفيزياء ، فغذت فلسفات عقلانية منفتحة تتماهى مع ما وصل إليه العقل الإنساني من ارتقاء في مستوى الإنتاجية الفكرية باعتماده على الصيغ البرهانية و الإنشاءات الصورية الرياضية الخلاقة التي لا تحتاج إلى الواقع و لا تحتاج إلى معيار التحقق التجريبي المرتبط به ، بل هي محتاجة إلى العقل ومعياره الذي يفيد التماسك المنطقي .
كما أن هذه الفلسفات المنفتحة أصبحت تضفي على العقلانية صفة التطبيق و تعتبرها عقلاتية طبقة تسعى إلى التوفيق بين الجانبين الاختباري و الجانب العقلاني على أساس أن العقل البشري هو عقل جدلي يحتاج إلى الواقع ليدخل معه في علاقة تبادلية كلاهما يتأثر تأثيرا إيجابيا بالآخر .
فما طبيعة العقل في العلم ، هل هي عقلانية صورية محضة مكتفية بذاتها أم هي عقلانية مطبقة تنهل من الواقع الاختباري و معطيات التجربة ؟
مقاربات للإجابة عن الإشكالية
تختلف الإجابة عن هذه التساؤلات باختلاف التوجهات الفلسفية أو العلمية للفلاسفة أو المفكرين الذين قاربوا لنا هذه الإشكالية . فها هو محمد أركون يقارب لنا هذا الموضوع من وجهة نظر فلسفية تستقي من التاريخ الحديث و المعاصر لأوربا تلك الأفكار التي ناهضت الفكر القروسطوي . فالعقل و العقلانية ، حسبه ، قد شهدا ثورة جذرية انقلابية على وضع أوروبا العصر الوسيط ، خصوصا مع رواد العقلانية في الحديث أمثال ديكارت و سبينوزا اللذان سعيا إلى نقل العقل الإنساني من مستوى التفكير اللاهوتي إلى مستوى التفكير العقلاني المعتمد على اليقينيات المطلقة ، هذه الأخيرة ستشهد ، هي الأخرى انتقالا من مستوى المطلق إلى مستوى النسبية أو مستوى مرحلة العقل النسبي النقدي الذي يراجع ذاته باستمرار حتى لا يسقط في متاهات اللايقين .
من وجهة نظر عقلانية محضة يرى ألبيرت أنشتاين أن لكل من العقل و التجربة أدوارهما في رحلة بناء المعرفة العلمية . فإذا كان العقل يقوم بعملية بنينة للمعرفة العلمية فإن معطيات التجربة يجب أن تطابق نتائج تلك المعرفة العلمية المبنية . فالتجربة ، بحسب هذا المعنى ،الذي يعطيه أنشتاين لها ،تلعب فقط دورا ثانويا مرتبطا بإرشاد العالم إلى اختيار المفاهيم الرياضية لبناء النظرية العلمية . و عليه ، فالعقل الرياضي ،كمجموعة مبادئ و قواعد و قوانين ، هو المبدأ الخلاق في المعرفة العلمية و ليس التجربة . فهو يمكننا من فهم و تصور الظواهر دون أن نحتاج إلى معاينتها ، لأنه عقل يرى الأمور بنظرة استباقية .
أما هانز رايشنباخ ، فإنه ينطلق من وجهة نظر ذات اتجاه وضعي تجريبي منطقي ، فهو يعتبر أن المعرفة العلمية تنبني على الملاحظة و التجربة ، إذ لا غنى لها عنهما . فتجاوز هذا المبدأ المنهجي معناه ، في نظر رايشنباخ ، الدخول في متاهة ذات نزعة صوفية مثالية . واضح من هذا الكلام أن رايشنباخ ينتقد الاتجاه العقلاني سواء الكلاسيكي أو المعاصر الذي يرى في العقل و مبادئه و قواعده الصورية مصدرا مطلقا للمعرفة .
من زاوية أخرى ، يتموقع موقفا كل من غاستون باشلار و روبير بلانشي في الموقع الوسط . فهما يريان أن العقل و الواقع التجريبي يقومان بحوار بينهما في سبيل بناء معرفة علمية .
فالتجريبية حسب غاستون باشلار ، إذا لم تعتمد على العقل تكون عمياء ، لأنها في حاجة إلى الفهم لمختلف الترابطات بين العناصر التجريبية المستقاة من الواقع . وعقلانية تكون فارغة من أي مضمون معقول إذا أزالت عنها شرط الواقع التجريبي في عملية بناء المعرفة العلمية .، لأنها أيضا بدورها ستكون محتاجة إلى تطبيق عملي علىأرض واقعية لمختلف تلك القواعد و القوانين المنطقية الصارمة لتي ينتجها العقل .
أما روبير بلانشي فإنه لا يمكن، في نظره ، أن نتصور العقلانية إلا على أنها عقلانية مطبقة أي عقلانية تجريبية منفتحة على الواقع التجريبي تحاول أن تراجع إنتاجها النظري عبر إلغاء جزء من يقينياتها القبلية بواسطة عقل يراجع دائما أسسه و قواعده أثناء مواجهته لواقع متجدد و متغير باستمرار .
خلاصة تركيبة
كخلاصة تركيبية يمكن القول أن العقل البشري هو عقل نسبي يخطع لشروط معينة لكي يركز نشاطه النظري في بناء المعرفة العلمية . و لهذا فلا يمكن تصوره خارج المنظومة التاريخية العامة ، و التي تعتبر منظومة تاريخ العلوم جزء منها ، و بناء عليه فهو يعتبر عقلا نسبيا و منفتحا و متغيرا ، جاء كنتاج لتفاعل جدلي و حوار بناء بين ما هو عقلي.و ما هو تجريبي .
فمسار العلم قد عرف منعطفات كثيرة و عميقة . وبناء عليه فلا وجود لنظرية علمية خالصة لأنها مجرد تفسيرات مؤقتة يعاد فيها النظر بشكل مستمر ، كما أنه أيضا لا وجود لتجربة علمية مستقلة عن أطر و قواعد و مبادئ العقل فهي بدونها تمثل واقعا جد محدود .
يركز هذا المحور الثاني من درس النظرية و التجربة على فهم طبيعة العقلانية العلمية المقابلة لطبيعة التجربة و التجريب ، هل يمكن اعتبارها طبيعة منغلقة تضفي على العقل الإنساني صفة الانغلاق .، أم يمكن اعتبارها ذات طبيعة مفتوحة تضفي عليه صفة الانفتاح ؟
فالشق الأول من هذا التساؤل الإشكالي يصف لنا شأن الفلسفات الكلاسيكية ، التي نهلت من المنطق الصوري الأرسطي الذي سجن قدرات التفكير للعقل الإنساني في مجموعة من المبادئ و القواعد المنطقية الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان و المكان ، فأصبح بمقتضاها تفكير الإنسان تفكيرا انغلاقيا لا يخرج عن ثوابته القياسية الموضوعة له سلفا . تفكير يعبر عن عقل تتجدد أطره الفكرية بتجدد المعطيات الجديدة التي يستلزمها العالم الخارجي .
أما الشق الثاني من هذا التساؤل فهو يصف لنا شأن الفلسفات التي نهلت من تطور العلوم ، خاصة علم الرياضيات و علم الفيزياء في مجاله مرتبط بالميكروفيزياء ، فغذت فلسفات عقلانية منفتحة تتماهى مع ما وصل إليه العقل الإنساني من ارتقاء في مستوى الإنتاجية الفكرية باعتماده على الصيغ البرهانية و الإنشاءات الصورية الرياضية الخلاقة التي لا تحتاج إلى الواقع و لا تحتاج إلى معيار التحقق التجريبي المرتبط به ، بل هي محتاجة إلى العقل ومعياره الذي يفيد التماسك المنطقي .
كما أن هذه الفلسفات المنفتحة أصبحت تضفي على العقلانية صفة التطبيق و تعتبرها عقلاتية طبقة تسعى إلى التوفيق بين الجانبين الاختباري و الجانب العقلاني على أساس أن العقل البشري هو عقل جدلي يحتاج إلى الواقع ليدخل معه في علاقة تبادلية كلاهما يتأثر تأثيرا إيجابيا بالآخر .
فما طبيعة العقل في العلم ، هل هي عقلانية صورية محضة مكتفية بذاتها أم هي عقلانية مطبقة تنهل من الواقع الاختباري و معطيات التجربة ؟
مقاربات للإجابة عن الإشكالية
تختلف الإجابة عن هذه التساؤلات باختلاف التوجهات الفلسفية أو العلمية للفلاسفة أو المفكرين الذين قاربوا لنا هذه الإشكالية . فها هو محمد أركون يقارب لنا هذا الموضوع من وجهة نظر فلسفية تستقي من التاريخ الحديث و المعاصر لأوربا تلك الأفكار التي ناهضت الفكر القروسطوي . فالعقل و العقلانية ، حسبه ، قد شهدا ثورة جذرية انقلابية على وضع أوروبا العصر الوسيط ، خصوصا مع رواد العقلانية في الحديث أمثال ديكارت و سبينوزا اللذان سعيا إلى نقل العقل الإنساني من مستوى التفكير اللاهوتي إلى مستوى التفكير العقلاني المعتمد على اليقينيات المطلقة ، هذه الأخيرة ستشهد ، هي الأخرى انتقالا من مستوى المطلق إلى مستوى النسبية أو مستوى مرحلة العقل النسبي النقدي الذي يراجع ذاته باستمرار حتى لا يسقط في متاهات اللايقين .
من وجهة نظر عقلانية محضة يرى ألبيرت أنشتاين أن لكل من العقل و التجربة أدوارهما في رحلة بناء المعرفة العلمية . فإذا كان العقل يقوم بعملية بنينة للمعرفة العلمية فإن معطيات التجربة يجب أن تطابق نتائج تلك المعرفة العلمية المبنية . فالتجربة ، بحسب هذا المعنى ،الذي يعطيه أنشتاين لها ،تلعب فقط دورا ثانويا مرتبطا بإرشاد العالم إلى اختيار المفاهيم الرياضية لبناء النظرية العلمية . و عليه ، فالعقل الرياضي ،كمجموعة مبادئ و قواعد و قوانين ، هو المبدأ الخلاق في المعرفة العلمية و ليس التجربة . فهو يمكننا من فهم و تصور الظواهر دون أن نحتاج إلى معاينتها ، لأنه عقل يرى الأمور بنظرة استباقية .
أما هانز رايشنباخ ، فإنه ينطلق من وجهة نظر ذات اتجاه وضعي تجريبي منطقي ، فهو يعتبر أن المعرفة العلمية تنبني على الملاحظة و التجربة ، إذ لا غنى لها عنهما . فتجاوز هذا المبدأ المنهجي معناه ، في نظر رايشنباخ ، الدخول في متاهة ذات نزعة صوفية مثالية . واضح من هذا الكلام أن رايشنباخ ينتقد الاتجاه العقلاني سواء الكلاسيكي أو المعاصر الذي يرى في العقل و مبادئه و قواعده الصورية مصدرا مطلقا للمعرفة .
من زاوية أخرى ، يتموقع موقفا كل من غاستون باشلار و روبير بلانشي في الموقع الوسط . فهما يريان أن العقل و الواقع التجريبي يقومان بحوار بينهما في سبيل بناء معرفة علمية .
فالتجريبية حسب غاستون باشلار ، إذا لم تعتمد على العقل تكون عمياء ، لأنها في حاجة إلى الفهم لمختلف الترابطات بين العناصر التجريبية المستقاة من الواقع . وعقلانية تكون فارغة من أي مضمون معقول إذا أزالت عنها شرط الواقع التجريبي في عملية بناء المعرفة العلمية .، لأنها أيضا بدورها ستكون محتاجة إلى تطبيق عملي علىأرض واقعية لمختلف تلك القواعد و القوانين المنطقية الصارمة لتي ينتجها العقل .
أما روبير بلانشي فإنه لا يمكن، في نظره ، أن نتصور العقلانية إلا على أنها عقلانية مطبقة أي عقلانية تجريبية منفتحة على الواقع التجريبي تحاول أن تراجع إنتاجها النظري عبر إلغاء جزء من يقينياتها القبلية بواسطة عقل يراجع دائما أسسه و قواعده أثناء مواجهته لواقع متجدد و متغير باستمرار .
خلاصة تركيبة
كخلاصة تركيبية يمكن القول أن العقل البشري هو عقل نسبي يخطع لشروط معينة لكي يركز نشاطه النظري في بناء المعرفة العلمية . و لهذا فلا يمكن تصوره خارج المنظومة التاريخية العامة ، و التي تعتبر منظومة تاريخ العلوم جزء منها ، و بناء عليه فهو يعتبر عقلا نسبيا و منفتحا و متغيرا ، جاء كنتاج لتفاعل جدلي و حوار بناء بين ما هو عقلي.و ما هو تجريبي .
فمسار العلم قد عرف منعطفات كثيرة و عميقة . وبناء عليه فلا وجود لنظرية علمية خالصة لأنها مجرد تفسيرات مؤقتة يعاد فيها النظر بشكل مستمر ، كما أنه أيضا لا وجود لتجربة علمية مستقلة عن أطر و قواعد و مبادئ العقل فهي بدونها تمثل واقعا جد محدود .