الربيع
العربي .. المبني
للمجهول !
عبد الجبار
الغراز
هل يمكن وصف ما يجري الآن في مصر من
غليان و اقتتال،على أنه حصيلة ثورة شعبية ،لم تنضج بعد فاكهتها ، و قد تم قطافها قبل
الأوان؟ ماذا بقي من ملامح مشرقة لربيعنا العربي ، بعد تنحية الجيش المصري لمرسي ،المنتخب
ديمقراطيا ، وما ترتب عن ذلك من عنف و عنف مضاد ممارس من قبل جسم ثقافي واحد? هل يرتقي ، هذا الربيع المبني للمجهول، بعد هذه
الأحداث الجسام المسجلة في كل من تونس و سوريا و ليبيا و مصر ، إلى مصاف الثورات
الكونية التي شهدها تاريخ البشرية؟
أسئلة كثيرة
تجول في الخاطر نبغي طرحها على ربيعنا العربي الذي اذاق الشعوب العربية طعم الحرية
و جعلها تسترد بعضا من آدميتها التي سلبت منها ، لكنه ، في الوقت ذاته ، حرمها
نعمة الأمن و الاستقرار المنشودين. أسئلة
تدفعنا إلى التفكير في مآلاته و في وضعيات
التقتيل التي يتعرض أبناء الشعب الواحد . فهل يكفي كل هذا ،لنعيد النظر في حقيقته
، و في هويته و مصداقيته الثورية ،و نعرف سبب انحرافه عن سكته و سبب تغيير مساره و
أخذه اتجاها أخر أريد جبرا لتلك الشعوب العربية ان تمشي فيه ?
الربيع العربي لم يعد كما كان عفويا، بل أصبح
أسير أجندة خارجية تدفعه نحو اتجاه سيضمن
، و لا شك ، تحقيق بعض المكاسب لتلك الشعوب الغاضبة و المنتفضة ، و لكنه ، سيساعد
الغرب ، المتحكم في العالم ، على استعادة مطمحه القديم ، و تحقيق حلمه بطرق اقل
كلفة و اخف وطئا من تدخلاته السابقة في تغيير أنظمة حكم غير مرغوب فيها. و يتجلى هذا الحلم في خلق شرق أوسط جديد، يعزز
أمن إسرائيل ، و يضمن بشكل أوسع مصالحها الحيوية في المنطقة .
فكما يعلم الجميع ، أن أمريكا ،
في العهد بوش، لم تنجح في محاولتها
الرامية إلى تغيير خارطة الشرق الأوسط ، و
ذلك ، بطريقة التدخل العسكري المباشر . فالمستنقع العراقي والأفغاني الذي غرقت فيه
،و الذي تسبب في تتالي الأزمات الاقتصادية المنعكسة عليها سلبا و على بلدان العالم
الرأسمالي ، ليعتبر خير شاهد على ذلك . فغطاء محاربة الإرهاب و البحث عن أسلحة الدمار
الشامل الذي كانت تتستر به ، و الذي كانت تجعل منه مسوغا للتدخل في شؤون الآخرين ،
قد زال ،و بزواله انكشف امر تلك اللعبة
الدنيئة التي كانت تقوم بها هذه الدولة بمعية إسرائيل ،ذلك الوباء الطاعوني الذي
يهدد سلامة هذا العالم .
الآن ، و بعد ان تشكلت في المحيط
الدولي أقطاب جديدة ، و أصبحت تشكل قوى عظمى منافسة، بعد استفادتها من مرحلة ما
بعد الحرب الباردة ، تلك المرحلة التي حاولت أمريكا أن تلعب فيها دور السيد الكبير
الذي يريد أن يسيطر على العالم ، بات لزاما على الغرب ان يستغل ثورات الربيع
العربي و يجعلها في صالحه، و يوظفها في ضرب هذه الأقطاب الجديدة.
إن مرحلة ما بعد ثورات الربيع
العربي ، التي نعيش تداعياتها الآن سواء في سوريا أو ليبيا أو في مصر على الخصوص ،
هي نتاج مباشر لهذا الصراع الخفي بين الغرب و تلك الأقطاب الجديدة. فالسيناريو المرسوم
لهذه المرحلة أريد فيه أن يكون الربيع العربي مبنيا للمجهول ، مجهزا على الثورة و
مكتسباتها، و مقلبا على فاعليها. فما يكون قد بقي من مكتسبات لهذه الثورة، سيحول
إلى موضوع نزاع و بالتالي اندلاع حرب الكل ضد الكل، التي سيقتل الإنسان فيها أبناء
جلدته و يحارب فيها الصديق صديقه. مرحلة
سيختلط فيها الحابل بالنابل، إلى درجة لا يعود المرء فيها يدري أي أحد هذه الفرق
المتناحرة حول السلطة على حق. المهم من هذا كله هو أن تحل الفوضى محل النظام و يحل
الشقاق و النفاق محل الوحدة و وضوح الرؤية و الثبات على المبدأ. كل هذا يحدث من
أجل ان يعود الرأي الواحد المستبد ليسود من جديد.
قد يكفي صاحب كل ذهنية متبصرة ، فقط ، تقليب هذه " اللخبطة " من جميع
أوجهها ليكتشف أن ما يحدث في هذه البلدان هو تدبير محكم من فعل فاعل ليس في مصلحته
أن تنهض الشعوب و ترفع عنها الوصاية.
تدبير نجده قد اتخذ الإسلام السياسي
وسيلة و مطية لخلق هذه البلبلة. فالديمقراطية العددية هي جاهزة لهذا الغرض ، حيث سيلعب هذا الإسلام السياسي
أدواره ، محاولا تطبيق قناعته المبدئية التالية : "الإسلام هو الحل ". و بعد أن يفرز
للجمهور نخبته السياسية الجديدة ،و بعد أن يطبق خياره الإسلامي الذي تبناه كخيار
استراتيجي وحيد ،ستبعد كل الخيارات الممكنة و ستقصى ، في نفس الوقت ، كل قوة
سياسية وازنة تريد أن تتقاسم معه ذاك الفعل السياسي، . حينها لن ينتظر العالم كثيرا ليشهد فشل تلك النخبة الإسلامية
الجديدة الصاعدة في تدبير أمور الرعية .
وهكذا.. و بهذه الطريقة ، ستكتشف هذه
النخبة السياسية الجديدة الصاعدة أنها قد حوربت بنفس الأدوات الديمقراطية التي
أتاحت لها الصعود إلى سدة الحكم ، وستعلم علم اليقين أنها قد هزمت شر هزيمة عند
أول اختبار لها في الحكم ، و ستعرف أن ما حظيت به من شرعية نابعة من صناديق
الاقتراع سوف يندثر .فالجمهور الذي دعمها ، سيتحول الى جمهور غاضب و ناقم و غير
راض عنها .
قبل الختام ، يمكن استنتاج النقاط
الثلاث التالية :
-
إن مجتمعاتنا العربية هي تقليدية في عمقها . و الربيع
العربي كان مناسبة لتحديث بنياتها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية بشكل حقيقي. و لن ينجح في مسعاه إلا إذا كان
الحسم بشكل نهائي في قضايا مصيرية كالتبعية و التخلف الاجتماعي و الاقتصادي و
الأمية السياسية ...
-
الغرب يحاول بواسطة الربيع العربي اللعب على متناقضات
مجتمعاتنا . و هذا نهج تكتيكي قديم . فرغم تلويناته المتعددة و محاولته البروز و
الظهور بمظهر يتلاءم مع عصرنا الحالي و ملابساته، فهو يبقى كلاسيكيا .
-
اعتبار الربيع العربي ، في مرحلته الأولى ، فاتحة عهد
جديد لتغيير الأوضاع في مجتمعاتنا . أما مرحلة ما بعد الثورة، التي حاولنا بعجالة
تحليل بعض من ملامحها ،هي مرحلة جد صعبة تستلزم نخبا سياسية محنكة قادرة على تلبية
مطالب شعوبها في تحقيق استقرار سياسي دائم ، يكون أساسه الاختلاف و التعددية
السياسية و الفكرية و الإيديولوجية ، و ليس التعصب و نبذ الآخر و إقصائه. و لن
يتحقق هذا الشرط إلا إذا تم التفكير في إيجاد قاعدة تواصل سياسي حقيقي ينبذ ثقافة
العنف و الإقصاء و التهميش و محاربة كل عقلية ، فئوية كانت أم حزبية تريد أن تقفز على الأحداث للاستئثار بمكاسب الثورة و اقتسام الغنائم.فكل
اختلاف إيديولوجي أو مذهبي أو طائفي إذا لم يرس على هذه القاعدة التواصلية
السياسية ، سيكون مصيره الفشل ، و سيجد نفسه أمام " ميدان تحرير " غاضب
و منتفض .
و في الأخير، يصح القول أن أية ثورة شعبية ، هي
في الأساس ، قلب و تغيير جذري لنظم حياتية . ثورة تمس بشكل مباشر، الواقع المعيشي
اليومي للإنسان العادي و البسيط. فالظلم و
القهر و الاستبداد و التسلط كقيم سلبية ، هي أشكال بئيسة ، سعت الأنظمة
الاستبدادية بواسطتها إلى أن تحول الناس إلى مجرد كائنات بشرية اغترابية أو مجرد
أشباح آدمية مسلوبة الإرادة و الحرية و الكرامة. الثورة ، بمعنى آخر ، هي استرداد
لتلك الآدمية المسلوبة. فإذا لم تستطع تلك الثورة أن تفعل ذلك عبر تغيير البنيات
الفكرية الراكدة ، أن كان ذلك على المستوى المتوسط أو المستوى البعيد، فإننا لا
يصح أن ننعتها بأنها ثورة شعبية ، بل نستطيع القول بأنها مجرد انتفاضات محيط على مركز ، كان من ثمراتها قطع رأس النظام ، لكن الجوهر بقي
ثابتا و مستقرا و مبتوتا في كل الثنايا ينتظر الفرصة ليظهر بألوان و أشكال جديدة
تمويهية و خادعة .
فمتى سيبقى ربيعنا العربي ، الذي
تحمسنا له في أول الأمر و علقنا عليه الآمال في تغيير أوضاعنا الراكدة ، مبنيا
للمجهول و تبقى شعوبنا العربية ، أمام هذه
الحالة الإعرابية ، ابد الدهر ، نائب
فاعل ؟ و متى ستكتشف شعوبنا المكيدة و لن
تنجر ، بعدها ، وراء ربيع عربي ذو مذاق بطعم الخديعة ؟؟؟
نشر ب : الحوار المتمدن-العدد: 4175 - 2013 / 8 / 5 - 16:46 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=371919