الهوية الثقافية.. هل تقضي العولمة على الخصوصية الثقافية للمجتمعات؟
قد يفيد القول بديناميكية الهوية الثقافية، جعل هذه الأخيرة مجرد وحدة ظاهرها التماسك والقوة وباطنها الانشطار والتفكك. فكيف تُحْمى كل هوية ثقافية من التفكك والانشطار؟ يجيبنا الباحث علي وطفة، من خلال إبرازه أن للأسر دور كبير يتجلى في زرع الحب والحنان في نفوس الأطفال. وهذا، في نظره يكفي لكي يجعل الهويات متماسكة تماسكا قويا. لكن المستطلع لعملية الانبناء التي تعرفها بعض الهويات، من جملتهم الهويات العربية والإسلامية، سوف يرى أن هذه الأخيرة أصبحت مهددة بالنسف بسبب اجتياح العولمة. فالمفكر علي حرب له رأيه في هذا الصدد؛ إذ يعتبر أن خطر العولمة يكمن في التوظيف الإيديولوجي لعناصر استاتيكية مرتبطة بالموروث الثقافي من أجل تعميق الهوة بين الإنسان وكيانه الروحي والحضاري.
نجد موقف علي حرب جد معقول: فالعولمة، كما سبق أن ذكرنا في إحدى مقالاتنا السابقة التمايز الثقافي والمشترك الإنساني تقيم الكمائن للمجتمعات التي لها عمق تاريخي، والاحتراس منها يعتبر من الأولويات. ذلك أن ما نشاهده ونتلمسه ونعايشه الآن من تفسخ للمنظومات القيمية والتربوية وإحلال قيم ثقافية مستوردة بدلها، تبثها الفضائيات العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي، لشاهد على ذلك. ومناقشة الهوية الثقافية في علاقتها بالموروث الثقافي، يجرنا حتما إلى تناول إبدال آخر للهوية، يتعلق الأمر بمفهوم الهوية القومية. إن رصد هذا الأخير رصدا علميا دقيقا لا يتحقق، في رأي نديم البيطار، إلا بشرح تمايزين يتخللانه:
الأبعاد المحلية للهوية القومية، تجعل من الهوية القومية مجرد سمات مادية وروحية لدى جماعة ثقافية ما، تنفرد وتتميز بها عن باقي جماعات آخري، مما قد يضفي عليها الطابع التجزيئي |
الأول ميتافيزيقي لأنه يفصل الجوهر عن وقائعه التاريخية؛ إذ يرى في الشخصية الثقافية جوهرا أو تركيبة نفسية عقليه ثابتة ينبغي الانطلاق منها بصرف النظر عن الأوضاع التي أنتجتها، الاجتماعية، الاقتصادية، التاريخية، والفكرية. والثاني سوسيولوجي، لأنه يرى في الهوية القومية طرق تفكير وشعور وسلوك متماثلة ومهيمنة نسبياً، وتتغير مع حركة التاريخ وتحولاتها الجذرية.
الهوية القومية، بهذا المعنى الذي شرحه نديم البيطار، هي هوية نسبية وتاريخية يحققها شعب ما عنن طريق تفاعل أو علاقته الجدلية مع التاريخ، وليست موروثة من جوهر ثابت متأصل فيه. إنها، بحسبه، ليست ردا فطريا وغريزيا، بل هي نتيجة استجابات نعانيها عن طريق النشأة الاجتماعية. وبالفعل، فقد ابتعد الفكر الاجتماعي الحديث، في العقود القليلة الماضية عن المفهوم الميتافيزيقي للهوية القومية، بعد ان اعتبر أن خصوصيات أي شعب هي نتائج عوامل التاريخ الديناميكية، من احتكاك ثقافي، وحروب، وهجرة، واختراعات، وأزمات، وصراعات اجتماعية، وسياسية وتصورات إيديولوجية وغيرها من العوامل المتحولة عبر التاريخ، والتي جعلت من الهويات كيانات متحولة ومتغيرة.
نستخلص من موقف البيطار هذا، أن الأبعاد المحلية للهوية القومية، تجعل من الهوية القومية مجرد سمات مادية وروحية لدى جماعة ثقافية ما، تنفرد وتتميز بها عن باقي جماعات آخري، مما قد يضفي عليها الطابع التجزيئي. لكن الذي يجعلها هوية ذات أبعاد إنسانية وكونية هو طابعها التركيبي الذي تتحدد في إطاره القيم والمبادئ الإنسانية الكونية المتعارف عليها. فداخل هذا الإطار يتوحد المحلي والقومي مع كل مشترك إنساني.
كما قد نفهم من تصوره هذا، أن الهويات القومية لا تنبني إلا على قاعدة التعدد والكثرة. وهذا إبدال آخر للهوية الثقافية الذي يؤشر على وجود هوية ثقافية عالمية موحدة تنتسب إلى الإنسان، والإنسان ينتسب إليها، ويدل على أن الهوية الإنسانية متماهية مع وضعها وغيريتها البشريتين. فمن هذا المنتهى تبتدئ فكرة الحضارة العالمية، التي لا تثمر ولا تزهر إلا من حيث اعتبارها تشكيلة لتحالفات ثقافية محتفظة بنسبها الخصوصية غير القابلة للذوبان في كيان ثقافي معين.
يمثل التفوق الثقافي إبدالا آخر من إبدالات الهوية الثقافية. ويظهر ذلك جليا وواضحا من خلال استراتيجيات العولمة على المدى المتوسط والبعيد: فالعولمة من خلال وسائل الإعلام والإشهار والماركتينغ، تكرس عودة ذلك الإنسان الطبيعي الذي لا يعرف حدودا ولا قيما اخلاقية ولا ضوابط ونوازع إنسانية.. إنسان لا هوية له إلا ما استمده من لحظات عيش استهلاكية محضة. وهذا الوضع البشري الذي خلقته العولمة يجعل من التفوق الثقافي التي تمثلها المركزية الغربية إشكالية دائمة وقائمة، تقف بالمرصاد لكل محاولة للتحرر الثقافي. مركزية انبنت على تمركز الذات الغربية، التي سعى عدد من الإثنولوجين الغرب تفكيك خطابها، وأولهم لفي ستروس.
صحيح أنه قد أصبح للناس في هذا الكوكب، بسبب إبحارهم في العالم الأزرق عالم الإنترنت، هويات إنسانية، تولدت عنها لغة عالمية مشتركة تسعى إلى نقل ثقافات الشعوب، لكنها تبقى هويات إنسانية افتراضية. وهذا يضعنا أمام إبدال آخر، جد عويص للهوية الثقافية. فهل تسير العولمة بهذا العالم في اتجاه القضاء على الاختلاف والمغايرة: كما أشار إلى ذلك الفيلسوف جان بودريار؟ هذا موضوع آخر، ارتأينا أن نرجئ الخوض فيه في مقال لاحق.