السبت، 4 أبريل 2015

جدلية العتمة و الضوء



أهدي هذه القصيدة ..
إلى كل قلم شريف .. 
و إلى كل شرفاء وطننا المكابر ..  

                                          جدلية العتمة و الضوء

 للمفسدين ،
صائدي هذا الوطن المسكين
، الذين انسلوا هاربين،
 قبيل فجر ذلك اليوم الأليم ،
من باب جبنهم الهجين ،
بعد أن جففوا ينابيع الفرات
و كنزوا الدينار ..
و الدولار اللعين ..
 و طرزوا على رقعة هذا الوطن
 الفوضى ،
 الألم و الأنين ..
و لم يخلفوا وراءهم ..
سوى هذا الحزن الدفين ،
 ليحصد الخيبات ..
 تلو الخيبات ، 
لهم أقول :   
" أنا فارس الحرف،
الكتابة بالنسبة لي
 ساحة وغى 
أصول فيها أنا ..
 و أجول ..
سأتعقب آثاركم
لأفضحكم
 يا فرسان الجبن
 يا من يحملون سكين الغدر
 ليفصلوا هامات أفكارنا عن أجسادها
و هوياتنا عن تربتها ..
فلتعلموا إذن ..
 يا فرسان الموت
أن تاريخنا ، الذي بيننا،  شاهد 
 لم يكن في يوم من الأيام
 محطة خفاء ..
 أو عتمة للاختباء..
إنه ضوء ينسج خيوطه الذهبية
  الشعراء
 بقصائد علت فوق كل سماء
لتنير كل هاتي الأجواء.
 فلا تعبثوا يا وجه الوسخ
بماضي الشرفاء .
و لا تنسوا ..  
أن تاريخنا الأليم ،
 مكر ..
و ليس كر
 و لا فر
  فأين المفر ؟
القصيدة منشورة في جريد " الأخبار " المغربية عدد : 768 الخميس 14 ماي 2015 

طفولة قاتلة .. و مقتولة !





طفولة قاتلة .. و مقتولة !
عبد الجبار الغراز


       يأبى " الإرهاب  " ، هذه المرة ، إلا أن يقدم للعالم دراما دموية ، في صورة جديدة ، حيث أظهر ، بنرجسيته المتعطشة للدماء ، الطفولة قاتلة، و في نفس الآن ، أظهرها  مقتولة ..
       فما معنى أن تكون الطفولة قاتلة و مقتولة في نفس الآن ؟
     
       طرحت على نفسي هذا السؤال بعدما شاهدت الفيديو الصادم الذي يصور مشهدا مروعا لطفل صغير يقتل ببرودة أعصاب رهينة ، بعد أن تسلم مسدسا أوتوماتيكيا من أحد عناصر تنظيم داعش ،  ولم  أجد لسؤالي هذا،  جوابا شافيا  يبدد أعاصير تلك النوبة الهيستيرية التي انتابتني . فالمنظر ، لو ندري ، فظيع بكل المقاييس ..
   
       نوبة لم أستطع الخروج منها إلا و في القلب غصة وفي الوجدان جروح أمدتني بحزمة من أسئلة من قبيل: 
     كيف يصيرسلاح فتاك يدا بيضاء ناعمة إلى يد خشنة  جبارة ، لا تعرف غير  لغة البطش والفتك وإزهاق الأرواح  ؟
      وكيف تتحول ،هكذا فجأة ، عينا ملاك رباني ، كانتا تفيضان ببريق البراءة والطهر، إلى عيني شيطان تقذفان الشرر والتوحش والغدر؟
      أ إلى هذا الحد يحول الإرهاب سكينة النفوس ، كما شكلتها يد الخالق ، إلى  زمهرير في ليلة عاصفة ؟
  
     لقد عودنا الإعلام المرئي ، في عصر طغيان ثقافة الصورة ، أن نرى أجساد الأطفال ، ضحايا الحروب الظالمة ، مرمية في الشوارع ، هنا ..  وهناك ، لكننا لم نتعود ، أبدا ، على رؤية طفل ينتحل ، قسرا ، صفة جلاد ليعدم بأعصاب باردة رهينته .
  
     فما أقبحه من سلوك  سالب للبراءة وللعفوية هذا الذي قامت به يد " الإرهاب "  !!! وما أغربه من سلوك يؤصل العنف والعدوان في جسم الطفولة البريئة !

    فقد يموت " الإرهاب"، لكن سيترك فراخه، وقد تلبس شيطان العنف والفتك والقسوة ، التي لا حدود لها ،  أرواحها البائسة . 
   أما كان من الأجدى أن تحمل يدا هذا الطفل المسكين، بدل المسدس ، أقلاما ملونة لترسم بها وطنا متوجا بالغد المشرق   الجميل ؟
     
    إن هذا المشهد الرهيب ، يدعونا إلى التفكير في مفهوم الإرهاب  لإعادة النظر فيه بقصد إعطائه  دلالة أخرى تقودنا إلى معرفة أن لهذا الأخير جذورا تغذت على ثقافة سلبية ما تزال ، للأسف الشديد مجتمعاتنا العربية والإسلامية أسيرة لها .. ثقافة تحكم ، مسبقا ، على الطفولة بالإعدام مع وقف التنفيذ ..


       " الإرهاب "، هذا الذي عرفناه ، انطلاقا من وسائل الإعلام ، والذي يتجسد في صورة وجه ملثم يخفي عن الأنظار ملامحه،اللهم إلا من أعين يتطاير منها شرر الحقد والكراهية، أو يتجسد في صورة يد خشنة تضرب الأعناق لتفصل الرؤوس عن أجسادها ، ما هو إلا صورة مظهرية لإرهاب خفي مبثوث في ثنايا الثوب ، قابع في أعماق النفوس الآدمية . إنه، بهذا المعنى الأخير ، بنيةune structure   نجدها قد تكونت و تفاعلت عناصرها و تأسست ، أول الأمر، في أسر تشكو من نقص مزمن في فيتامين  الدفء الأسري الناعم .. أسر لم  ترضع أطفالها ، قبل اللبن ، الحب و الحنان ، ولم تلبسهم  ، قبل الكسوة ذات الجودة الرفيعة ، لباس التقوى ، ولم تفطمهم على النبل وتقدير الذات واحترام النفس الذي لا يكون إلا بتقدير واحترام الآخر.

    كما قد نجده، ثانيا ، قد تأسس في الحضانة .. في المدارس.. في الاعداديات.. في الثانويات.. في الجامعات وفي الشوارع الحاضنة للوساخة والقبح الرافض لكل ما هو مفيد وممتع و جميل .     
       
     ففي ظل مثل هذه الأوساط الموبوءة ، يعيش الإنسان بلا حس إنساني و اجتماعي و جمالي يحميه من شر نفسه و من شرور غيره ، ،كائنا مغترب الكيان ، متماه مع أفكار شيطانية تجتاحه و تستحوذ عليه وتتلبسه و تفعل به ما تشاء، ليظهر متوحدا معها في جسم ناري حارق حامل لهوية شيطانية ممسوخة ، ويصبح ، في نظر العرف الإنساني و القوانين السماوية والوضعية ، إرهابي  بامتياز . وهو ، في حقيقة الأمر ، إنسان غير مسؤول عن أشياء قد ارتكبتها يداه ..
        
     فتدريب أطفال على ذبح الدمى و على حمل السلاح و استعماله في معسكرات التدريب لا معنى له سوى تكريس احترافية القتل و تأصيلها في وجدان طفولة تساق إلى متاهات الإرهاب ، بدل إلحاقها بالفصول الدراسية من أجل اكتساب المعارف والمهارات اللازمة التي ستساعدها على استيعاب الحياة في تركيبتها جد المعقدة ..

         فعندما ستصبح هذه الطفولة يافعة و تعوزها القدرة على فهم الواقع ، وقتها سيتسلل الخطاب الديني البسيط و السطحي إلى عقلها ليسحرها، فتنساق ، من حيث لا تدري ، إلى متاهات و دروب الفكر التكفيري الذي يحولها إلى مجرد آلة مبرمجة تأتمر بأوامر أياد تحركها في خفاء .
       
        إنه لشيء مؤسف أن نرى ، بعيون المستقبل الغامض والمجهول ، أجيالا ضائعة من الأطفال ، فاقدة لمعاني الحس الإنساني المشترك ، طامسة لماهيتها ، التي هي إنسانيتها . أجيال تتورط ، و هي في عمر الزهور،  من حيث لا تدري ، في حروب و ويلات أكبر منها، بحيث لا يستطيع عقلها الناشئ استيعاب ما يجري لها. فإذا كبر الجسم وشب فيه الكائن ، بقي العقل والوجدان ثابتين لا يتغيران، وقد احتواهما قالب التكفير احتواء، فيمسي الإنسان أسيرا لذلك القالب إلى أبد الآبدين . بعدها، تغدو تلكم النفس التي كانت مطمئنة ، تسرح في ملكوت الطفولة المرحة ، نفسا أمارة بالقتل والحرق و فصل الرؤوس عن أجسادها .. نفسا شخصانية مرضية تكشف عن أورام سرطانية اجتماعية ، لم يعد من الإمكان استئصالها.
       
        فهل سيستطيع ، بعدها ، الأطباء وعلماء النفس والأخصائيون الاجتماعيون معالجة ظواهر، ستظهر على سطح الأحداث بعد حين من الدهر ، وقد تجذرت في أعماق طفولة مغتصبة ، وانغرست كالألغام في قرارها المكين ؟  

       وقبل الختام ، أوجه خطابي إلى كل سياسيي العالم ، الذي هو بمثابة صرخة مدوية في وجوههم قائلا لهم :
       " رجاء أوقفوا هذا النزيف الحاد في جسم الطفولة .. إن صمتكم هو تواطؤ مع هذا الإرهاب ومؤشر دال على موت الإنسان فيكم .

       فافعلوا شيئا لأجل هذه الطفولة المسكينة قبل فوات الأوان ". 
نشر هذا المقال بمجلة الكويت عدد يونيو 2015 - رمضان - شوال 1436 تحت عدد 381 

الاثنين، 5 يناير 2015

الفيلم الوثائقي: " تحت الثلج.. البياض القاتل " للمخرج المغربي عز العرب العلوي : البياض الذي ارتد إلى سواد


الفيلم الوثائقي: " تحت الثلج.. البياض القاتل " للمخرج المغربي عز العرب العلوي :
البياض الذي ارتد إلى سواد


عبد الجبار الغراز

      عرضت مؤخرا ،  قناة " الجزيرة الوثائقية  " الفيلم الوثائقي " تحت الثلج .. البياض القاتل " لمخرجه المغربي " عز العرب العلوي. و قد استحق هذا الفيلم ، من هذه القناة أن يعرض ، ضمن ركن " العدسة الحرة "   نظرا لكونه يستجيب ، بشكل كبير ، لشروط الجودة و الإبداع ، على مستوى رؤية المخرج  النقدية  للعالم التي جمعت ما بين الواقعي و الإستيتيقي ، بشكل تجعلنا ، كمتلقين ، ننحاز،  بوعي كبير ، إلى أفكار الفيلم ،  و نتتفاعل ، إيجابيا ،  مع تداعياتها الفنية و الإبداعية .
    عند بداية العرض نجد أنفسنا ، لأول وهلة ،  مشدودين إلى هذا الفيلم ، و ما خطه المخرج بالبياض من كلمات هي بمثابة مقدمة تمهد لمجريات الفيلم و وقائعه ، و كأنه يريد ، من خلال ذلك  ، أن يضعنا في صورة واقع ستبدأ بتشكيله ، بصريا ، عدسات كاميراته ..
      مقدمة تشرح  ، باقتضاب  ، كيف استطاع الثلج في قرية نائية في جبال الأطلس المتوسط المغربية أن يفرض جبروته  " الأبيض " على أهلها ،  ذكورا و إناثا ، أطفالا و شبابا و شيبا .
     " تحت الثلج ... " ، إذن ، هو تصوير بليغ لمعاناة أناس في رحلة بحث عن قوتهم اليومي و قوت ماشيتهم ..  بحث عن دفء مادي لم  ينته،  بعد و لا قبل ، بجمع أعواد حطب تحولت إلى لهيب مشتعل في مواقدهم الحديدية ، و لم ينته حتى  بذلك الدفء  المعنوي الذي تنعشه ، بين اللحظة و الأخرى ، ما تنسجه علاقاتهم الأسرية الممتدة التي يتميز بها مجتمع القرية ، من تآزر و تعاون و تضامن .  
     فمنذ البداية ، تدخلنا عدسات كاميرات المخرج عز العرب العلوي في ثنايا هذا الثلج وبياضه لاكتشاف عوالمه و بريقه الخداع ..
    ففي الاتجاه السالك لمكان ما .. مكان مجهول  يطلب منا الفيلم اكتشافه ، تبدو تلك  الطريق المؤدية إليه ( حيث نترك على يميننا  مدينتي ميسور و بولمان و على يسارنا مدينتي فاس و صفرو )  و كأنها بساط أسود وسط فضاء أبيض تتخلله نتوءات  تكشف عن مكان موحش و قفر . الداخل إليه مفقود و الخارج منه مولود .
     مكان، لا نرى فيه ، على حد ملمح بصرنا ، سوى هذا البياض  الشاخص الذي يجتاح كل الفضاءات ، و لا نسمع فيه سوى أصوات الريح بكل تلاوينها ، و كأنها عواء ذئاب جائعة ..
      بياض تتخلله  نتوءات تظهر و تختفي ، و كأن ثمة صراع لا مرئي بين الوجود و العدم ، الظلمة و النور .. المكان و اللامكان  ..   بياض قد ارتد إلى سواد ..  فضاعت معه معاني حياة كريمة مزهوة بكل ألوان الطيف ..    
      على اليمين ، تواصل عدسة الكاميرا شق الطريق نحو قرية نائية . .  تبدو ، تلك القرية ،  عند الوصول إليها  ، و كأنها خاوية على عروشها إلا من  أغصان أشجار اللوز و الزيتون  التي كستها الثلوج ، فغذت أوراقها و كأنها قد  تساقطت منذ أمد بعيد ..
      لا حي يرزق يجوب هذا المكان ..  فكل المخلوقات التي تدب على هذه الأرض ، أرض هذا البياض القاتل ،  قد اختفت في تلك اللحظة ، أو أنها سكنت و جمدت عند نقطة ما  من نقاط  هذا المكان الممتد ، أو أنها هرعت إلى أوكارها خوفا من صقيع  لا يرحم ، يمزق الأجسام  التي يصادفها أمامه إربا إربا .
      يتوارى الليل ، تدريجيا ، عن مشهد هذا الوجود ، و ينطفئ سواده معلنا انسحابه و تاركا المكان لنور صباح ليس ككل الصباحات ..  شيئا فشيئا يبسط وشاحه الفضي الميال إلى الاصفرار عن جبال قد كساها الثلج  و منحها حلته البيضاء ، معلنا استيقاظ كل المخلوقات .
          شخوص الفيلم الوثائقي " تحت الثلج ... " واقعية مائة بالمائة ، تماما  كما أرادها المخرج أن تكون  .. تولدت من رحم ظروف حياتية قاهرة انتزعت منها ألوان الحياة انتزاعا ، فصارت مجرد أشباح آدمية تدب في أرض هذا البياض    
         لكن ، بالرغم من ذلك ،  فهي لم تختزل في مجرد عناصر صالحة لمادة توثيقية أو ترفيهية فرجوية ،  تستعرض، بشكل فولكلوري أو تقريري ، مجريات حياتية لأناس يعيشون بشكل مختلف ، و تحت ضغط ظروف مختلفة عن ظروف بقية خلق الله ، بل أريد لها من طرف المخرج أن تكون  رؤية نقدية تسلط الضوء على كل ما هو هامشي  ..  منسي  .. و مسكوت عنه .. و كأنها تشعرنا ، من خلال ذلك ، بأننا جد مقصرين في حق هؤلاء الخلق الذين ينتمون إلى مغرب آخر غير مغربنا الذي نعيش فيه .. مغرب عميق .. مغرب غير نافع ..   
        هكذا  ترصد عدسة ه كاميرا المخرج  عز العرب العلوي، و بكل أمانة فنية ، هؤلاء الخلق في وضعيات حياتية مختلفة ، ارتأينا ، نحن أيضا ، أن ننقلها بتأويل سيميولوجي أمين و صادق .  
        في البيت ، وعلى مائدة فطور مكون من أرغفة خبز ساخنة تعد على رؤوس الأصابع لا تكفي لسد الرمق ، و كؤوس شاي . يتحلق الجميع  حول  تلك " الغنيمة "..  تتسابق الأيدي نحو الصحن  و ترتمي كارتماء النسور الجائعة على فريستها ، على محمولاته لتنهشها ، تتشكل معاناة شخوص هذا الفيلم الوثائقي في شكل دردشات كلامية انصبت حول مجريات ليلة فائتة و ما حملته من مآسي من الصعب نسيانها : برد قارص ، أغطية غير كافية لمواجهته ، رياح قوية عاتية تزيح سقوفا بلاستيكية من مكانها ،  تعاني أصلا من السيلان بسبب ما أحدثت  بها الطيور من ثقوب .  
      أو في الحظيرة لتفقد ماشية ، صغيرة  أو كبيرة في السن ، حين يغرز البرد القارص مخالب الموت في أضلاعها لتوجد في صباح اليوم التالي مرمية بلا حراك ، فترغم  بالقوة النعاج الأخرى على إرضاع صغارها حتى لا تكون هي الأخرى عرضة للهلاك ، أو قد تتعرض للأذى إذا صاحبت القطيع في رحلة بحثه اليومي عن الكلأ ..
       تحدث هذه المآسي  دون أن يكلف البياطرة أنفسهم عناء تفقد القرى لمد يد المساعدة لمعرفة سبب موت هذه القطعان الصغيرة ..
      أو في المرعى ، حيث  يكون القطيع ، في أحسن حاله ، تحت رحمة الذئاب و الوحوش الضارية الأخرى ، أو ، في أسوأ حاله ،تحت رحمة الثلوج التي تحاصره في كل مكان ..
      ثلوج  تمنع الرعاة من مزاولة مهامهم في الرعي ، فلا كلأ  لهذا القطيع إلا ما تجود به أغصان الأشجار التي  يسقطها ، من أجلهم ، الرعاة بواسطة عصيهم .
     أما  في حالة البرد القصوى ، فقد يتحتم على هذا القطيع البائس ، أن يبقى لأيام و ليال طوال رابضا في الحظيرة ، و هذا أمر مكلف ماديا بالنسبة "  للكساب "..  فصاع شعير يساوي 100 درهم ..
    أو في الغابة لقطع الأشجار و جلب خشبها على ظهور الحمير بقصد البيع أو بقصد التدفئة ..
    كل هذه الأعمال تبدو للحطاب عادات متكررة و روتينية .. أو انتظار عبثي لما سوف تأتي به الدقائق و الساعات و الأيام .. أو قتل لفراغ موحش .. أو مقاومة لليال حبلى بالصقيع و البرد القارص ..
     لكنها ، في عين عدسة كاميرا عز العرب العلوي ،  مكابدة لموت بطيء يدنو من الأبواب ليحول ربيع عمر هذا الحطاب إلى خريف متساقط الأوراق . 
     فبين ناظر الحطاب المثقلة أجفانه بالهموم و المآسي ،  و هذا الفضاء الواسع الممتد ثلوجا ،  تنسل أطياف بيضاء تشكلت لترقص رقصتها الشيطانية الخالية من أي معنى سوى من التعبير عن هذا الخواء الأبيض الذي يملأ المكان . في مخيلة الحطاب كليشيهات أو صور بيضاء  بلا ألوان قزحية .. يحاول المسكين أن ينظر إلى ما وراء هذه الأشياء الماثلة أمامه لعله يقتنص معنى معقولا لوجوده في هذا البياض الممتد ، فلا يرى سوى حياة بائسة  تتراجع إلى الوراء في بطء  لتختفي و تحل محلها حياة أخرى غريبة مثقلة بالكوابيس و الهواجس ..
     حياة تبحث عن ركن قصي في النفس  يستظل باللاشعور لتوفير ملجأ يمنح لحظة انتشاء .. لحظة سعادة عابرة .. قد تتولد عنها تداعيات في شكل أغان أمازيغية بطعم عاطفي .. أغان  خارجة ، للتو ،  من الأعماق ..
     تبدو كلمات هذه الأغاني ، لدى سماعنا لها خارجة من أعماق الحطاب ، نهرا متدفقا يفيض عذوبة .. كلمات تائهة  تبحث عن لحظات عشق أجهضتها الأيام و السنون ..  تعبيرا ، بلا جدوى ، عن حبيب عزيز ضائع وسط ما صنعه هذا البياض من خرائب ..
     يحاول عز العرب العلوي أن يوظف هذه الكلمات الأمازيغية الشاعرية و يجعلها تتوافق و ثيمة فيلمه و ذلك من خلال اعتبارها  أنينا حزينا آتيا من الأعماق  .. رجع صدى لنغمة تنامت  في الأعماق و انسلت من منعرجات الحنجرة لتخرج صوتا  جريحا و مبحوحا ..  صرخة مدوية  في وجه هذا البياض القاتل ..
      أو في الطريق الوطنية رقم 707 الرابطة بين مدينتي بولمان و إفران .. حين يرخي الليل سدوله على القرية و ينتصف ، و حين تعانق السماء سواده و يرتمي الفضاء في أعماق ظلمته ، و تتعب النفوس من سلطان يقظة كلت الجفون يكون الحسين كريش ، ذلك الموظف البسيط التابع لمديرية  الإقليمية للتجهيز و النقل بإيفران ، بمعية فريق عمل ميداني يجوب الطريق طولا و عرضا باسطا أجنحة الرحمة الربانية لكل مسافر عابر تقطعت به السبل و بقي في نقطة من نقط العبور الوعر محاصرا بالثلوج .
     عمل ، و لا شك قاس و صعب ، لكنه بطولي يصارع على واجهتين حربيتين : واجهة يكون هذا الطاقم فيها أمام ثلوج مكتسحة للطريق إذ يتطلب الأمر منه  مخاطرة و مجازفة استثنائيتين لإجلائها عن تلك الطريق ، و واجهة  يكون فيها أمام عابرين متهورين لا يقيمون أي وزن للأخطارالتي تنتظرهم .. عابرون يكسرون الأقفال و يجتازون الحواجز الموضوعة ليجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام بياض قاتل .  
       أو في أي مكان من أرض هذا البياض ، الذي تتواجد فيه المرأة كأم ، كزوجة ، كأخت ، أو كابنة .. حيث تظهر النساء ، كهذا البياض الممتد فوق الأرض السوداء،  بلا لون ..  بلا طعم .. بلا رائحة .. بلا أنوثة تجعل منها كيانا  له معنى .. نساء تعيد إنتاج نفسها في صور رمادية باهتة .. نساء لا هم لهن سوى تقاسم غبن مزدوج فيما بينهن : غبن ناتج عن هذه الطبيعة القاسية ، وغبن ، توارثنه أبا عن جد ،  ناتج عن مجتمع ذكوري ،  لا يرى فيهن سوى أكياس إنجاب للأطفال ، أو ماكينات لعجن الرغيف اليومي المر و طهيه على مطبخ موت مؤجل ..
       أو في تلك الوجوه الصغيرة التي اغتصبت في طفولتها .. وجوه كئيبة  ارتسم عليها التعب و أبانت ، ذات صباحات من صباحات هذا البياض القاتل عن عيون بريئة  ما تزال تغالب النعاس .. عن ملامح لم تغادر بعد أرض السهاد و هي تحث الخطى سيرا على الأقدام نحو  مدرسة بلا نجاح .   
       أطفال في عمر الزهور يحملون هذا البياض و يصنعون منه مستقبلا غامضا و وهميا  يتراشقون به  فيما بينهم ، اقتناصا للحظات فرح هارب نحو اللاشيء ..
       فبين حكاية النملة و الدودة ، كما  روتها كراساتهم العقيمة ، و بين تفاؤل يرسم ببياض الثلج آفاقا يكون فيها هذا التلميذ  طبيبا و تكون فيها  تلك التلميذة معلمة و يكون فيها ذاك التلميذ  مهندسا ..  تضيع تفاصيل  الحكاية و تتبخر أحلام المستقبل ..
      هذه الوضعيات الحياتية ، التي أتينا على ذكرها ، و التي نقلتها لنا عدسة كاميرا المخرج عز العرب العلوي هي نسج  لفضاءات هذا البياض القاتل ،  وفق رؤيته الخاصة للأشياء .
       في هذه القرية ، " قرية جبل بولمان " مكان تصوير فيلم " تحت الثلج ... "  تضيق دوائر الرؤيا أمام أعين ساكنتها..  يتراجع الزمن الكرونولوجي الذي يعد بالأنات و الدقائق ليفسح المجال لزمن آخر .. زمن بنيوي تنتفي فيه كل الامتدادات و كل الأشكال الهندسية .. إنه الزمن النفسي الذي معه تتشكل كل تضاريس النفس البشرية لتكشف عن مكنوناتها و دواخلها الخفية ..
       فالطبيعة القاسية ، و الإنسان ، هذا  الذي يشرب معاناته شايا و سكرا، و باقي المخلوقات الأخرى التي دبت على أرض هذا السواد ..  كلها مجرد أطياف و أشكال لهذا الزمن النفسي الذي تشخصنت سانكرونيته المثقلة ببياض الثلوج .. زمن تسارع بخطى وئيدة نحو اللاشيء . زمن  قد صير الحياة هناك .. فراغا جامعا بين أضداد :  حلو و مر ، بياض و سواد ظمأ و ارتواء ..

الخميس، 1 يناير 2015

اقرأ .. !!!


اقرأ .. !!!
اقرأ ، فبفعل القراءة أنت موجود .. 
اقرأ، و ناج طائر أرتيابك .. مهجتك ، الآن ، بقدرة القراءة وحدها صارت جناحاه .. صفق بهما .. ولا تكترث بما تصادف من غربان قلمت أجنحة الفكر ، فسكنت سوادها و استكانت لليل سرمدي يلعق ما تبقى من ندى صباحها الباهت ..  
اقرأ .. و لا تعبأ بنعيقها المخيف الذي يعلن موت هذا الوجود . 
اقرأ .. لكي ينتابك جنون العارفين بخبايا فراشة القلوب ، فترتاب في نفسك .. في زفراتك التي تجتاح قمم النفوس و سفوحها .. 
اقرأ .. حتى تحس بأنك بلا مأوى يحميك من حر يقين مطلق ، و من قر سير الأجداد المجيدة ، فتبدد هذا الخراب الذي سكن دواخلك ..
اقرأ .. فالقراءة فعل جميل يطهر الإنسان، كل إنسان، من دنس الجهل و الأمية و الاغتراب اللعين.. 
اقرأ و انفض عن جسمك المفهومي غبار كل هذي السنين .. 
اقرأ .. حتى تنجلي لك ممكنات هذا الوجود .. فأرض يقينياتك ، لو تدري ، هشة .. غادرها بسرعة دون ندم .. دون التفات إلى الوراء .. فالماضي حقل مليء بألغام ستصير جسدك أشلاء إن استكنت عند نقطة من نقطه . 
اقرأ .. لترى ، دائما ، ك " زرادشت " ، فعل الكينونة ، من أعالي الجبال ، يسبق زفراتك .. يمتص رحيقها المر، كي يخرج من بطنها الألم و الاغتراب .. 
اقرأ .. كي تصرخ نحلات أزهارك في وجه قمر رمادي بليد ، يستلذ بالتيهان في صحاري نجواك .. فرقصهن نهر ماؤه لم يفارق ، بعد ، التدفق و الانسياب .
اقرأ .. حتى لا تصاب يعسوب لغتك بعماء الصمت ، بالتهاب الفواصل ، فتهتز كلماتها و نقط حروفها .. و تغدو مجرد قطران أسود انطلى على أوراق الكراسات و الكتب . 
اقرأ .. حتى تستطيع أن تعانق حريتك .. و تنفض عنك غبار العبودية.. فبالقراءة وحدها تستطيع أن تسترد حريتك من عبث اليومي و عبث المبتذل الذي تساق إليه من حيث تدري أو لا تدري ..
اقرأ .. لكي تكون قادرا على أخد معولك لهدم حقائقك الجوفاء و أوثانك الصدئة.. فبخمول الذهن قد تكون أو لا تكون .. لكن بالقراءة تكون .. و تكون .. 
اقرأ عن تاريخك ، عن سير الأولين و الآخرين لتعيد أمجاد أجدادك .. 
اقرأ عن أرضك ، التي لم تعد تنبت أزهار الطفولة ، لكي تنفخ فيها روح المحبة و التسامح وتزرع فيها بذور الدهشة ، حتى تستعيد خصوبتها و تصبح قادرة على إنجاب جيل العطاء .. فلا أحد من أهلك و ناسك ، هناك ، أصبح قادرا ، من فرط الخمول و الكسل ، على استعادة دهشة الأطفال عند رؤيتهم زرقة السماء و نور الشمس و ضياء القمر .. 
اقرأ .. لكي تسابق بقراءتك الرياح و الضوء ، نحو غد قد يبدو بعيدا .. لكنه ، دون شك ، غد مرتقب . . في مدينة عشاق الحرف و الكلمة ، حط الرحال .. سترى ، هناك ، دررا مرمية ، أصبحت بفعل التقادم ، متآكلة و منسية .. سترى قبورا بلا شواهد ، لأسلاف رحلوا عنك ، بغتة ، دون إشارة وداع .. فقد كانت أرضهم ، بالأمس البعيد، أرض أحلام و مسرات ، تصغي لتغاريد الشحارير ، و الآن ، غذت أرض خراب و سراب .
اقرأ .. فقد تكون ، أنت ، نطفة بعث جديد، أو تكون بلسما لداء هذا الخرس الذي أصاب العقول . 
اقرأ .. لتبحث في مرآة كينونتك عن وجوه تتقاطع مع بقايا ملامحك ، فتصير تلك المرآة عنوانا لمعاناة عشاق الحكمة، أو تطهيرا لمهجتك من صخب هذا الناقوس المزعج الذي يدق معلنا اقتراب ساعة الموت و الفناء.. 
اقرأ .. لتبدد هذه الظلال المكبلة ليدك، و المصفدة لقدميك، و القاذفة بك في قرارها السرمدي.. 
اقرأ ليغدو عالمك كهفا يشتاق لغاوون الشعراء ، و لوثة الحكماء . فإن كنت عاشقا للحكمة ، منصتا لها ، فأنا صوفياك ، حكيمة الحكماء ، اعشقني مثلما عشق قيس لبناه .. و جميل بثيناه ، وعنترة عبلاه .. و ابحث لك عن بصيص نور ، حتى لا تلتهم ظلال كهفك ما تبقى من زادك ، وانتظرني ، فأنا قادمة ، من أعالي الجبال لأفك عنك قيود شهواتك .. .. تأمل في وجهي الإشراقي ، فسترى في عيني الشمس تطرز بخيوطها الذهبية، هذا الخواء ليصير، من أجلك أيها القارئ الحكيم ، بهاء ..

المقال منشور بمجلة الكويت الكويتية تحت  عدد 377 مارس 2015 جمادى الأولى 1436 

السبت، 22 نوفمبر 2014

آكادير .. على إيقاع " ليلة الورشات الفنية "





    


عبد الجبار الغراز
      
      على أيقاع الأصباغ و الألوان  أحيت مدينة آكادير  يوم الجمعة 07 – 11 – 2014 ليلة الورشات الفنية ، حيث كان  الجمهور الأكاديري على موعد مع ثلاتين فنانا و فنانة  تشكيلين عرضوا أعمالهم سواء بمتحف الفنون و الثرات الأمزيغي أو بالمعهد الفرنسي أو بالرواق الفني  Le sous sol  ، بالإضافة إلى الورشات الفنية  التي أقيمت بمراسم أحد الفنانين .
     
      لقد أريد لهذه الليلة أن تتشكل عبرها فضاءات مفتوحة على تأويلات متعددة و مختلفة  واصل فيها هؤلاء الفنانون مشروعهم التشكيلي بكل حس إبداعي مرهف ، محاولين بذلك توسيع دائرة  ممارستهم  الإبداعية الفنية بمدينة آكادير و تأثيراتها النوعية على المشهد التشكيلي  ببلادنا .
   
      لقد كان للجمهور الأكاديري نصيب في المشاركة في هذه الليلة الفنية الجميلة، فقد أقيمت ورشة فنية  لصالح عينة منهم ، نتج عنها إبداع  إحدى عشر لوحة فنية فاضت بالحركية و بالحيوية ، حيث ارتكزت على الجسد و تعبيراته . و قد أشرف على هذا العمل الفني الفنانان التشكيليان محمد الفرقشي و سيزان سترادانجر ، اللذان قاما بتوظيف  تقنية الرسام الأمريكي جاكسون بولوك) (action painting المرتكزة على الرسم بالحركات التلقائية والجسدية والتقطير Le draping .  فقد سجل الكل ارتياحه و اعتبر التجربة مفيدة و ممتعة ساعدت على تفتق مواهب فنية واعدة  فجرت طاقاتها الفنية الكامنة في الأعماق .
      
      كما كان الجمهور الأكاديري على موعد  ، في كل من متحف الفنون الثرات الأمازيغي و المعهد الفرنسي بآكادير والرواق الفني Le sous sol  ، مع فنانين تشكيليين مرموقين محليا و وإقليميا و وطنيا أمثال  دجيمي و بروزي و الغراز و مربو و أوصالح و بلقاضي ... 
       
       سأحاول أن أقدم ورقة تحليليية لأعمال البعض منهم . يتعلق الأمر بالفنانين : عبد العزيز الغراز و عبد العزيز أوصالح و حافظ مربو .
    
        لقد تتعددت البناءات الدلالية للجسد ، بفضل المنتوج الفني المحقق لما بات يعرف ب" الجسد المفهومي "  . هذا الأخير أصبح متداولا و متناولا فنيا في عدد كبير من الابداعات التشكيلية ، إذ تم جعله موضوعا سيميائيا دسما يفيض بالمعاني .
     
        لم يخرج الفنان عبد العزيز الغراز عن هذا الإطار النظري العام لمفهومية الجسد الأنثوي ، حيث نجده قد  بصم إرساءه  " المرأة \ الشجرة "  الذي عرضه برواق المعهد الفرنسي ،  بلون إبداعي فريد اعتمد فيه على فكرة الجسد ككتابة فنية ، أي تحويل الجسد من موضوع خارجي إلى وسيلة لاكتشاف للعالم و الذات و الآخر ، و هذا الانشغال المعرفي بهذا النوع من الكتابة  يجعل من هذا الإرساء  ممارسة بحثية جديرة بالمتابعة و الاهتمام يقارب فيها الجسد كثيمة  لا تكف عن إنتاج المعاني .
    
        فالجسد \ الشجرة ، كما يصوره لنا  الفنان عبد العزيز الغراز من خلال إرساءه ، هو الجسد الأنثوي ،. لكنه جسد ليس ككل الأجساد الأنثوية الأخرى التي  تقوم على ثقافة الحضور لمشخصاته باعتبارها عناصر عريضة بادية للعيان تنشد الإثارة المجانية و المبتدلة، و إنما هو جسد مبني على ثقافة مضادة تدعونا إلى الإبحار في تفاصيله الدقيقة و الاتجاه بنظرنا صوب تخومه  و هوامشه المستعصية عن البروز .. جسد تتناسل داخليا فيه ايقاعات أخرى مندسة داخل  ثنايا الثوب  .. داخل قشرته السطحية . إنه الجسد \ الأصل  .. أليست الأنثى هي الأصل كما تدل على ذلك  النقوش و الآثار ؟
     
        يحاول الفنان عبد العزيز الغراز ، أن يعمق هذا المستوى من الرؤية البصرية ، كما طرحها إرساؤه ، لكن هذه المرة ، عبر لوحاته معروض البعض  منها  برواق المعهد الفرنسي و البعض الآخر  بالرواق الفني  Le sous sol   ، انطلاقا من خلق تقاطعات ممكنة بين العملين الإبداعيين  ( الإرساء  و اللوحات ) . تقاطعات تجعل من تلك الإيقاعات تكشف عن وجه سالب لهذا الجسد  .. وجه يقودنا ، كمتلقين ، إلى جسد آخر .. أرض أخرى .. و جغرافية أخرى .. إنها جغرافيا الرغبة كبعد سيميولوجي  تتحول  فيه منظورات رؤانا البصرية  نحو الطاقة الفنية الكامنة و المبثوتة فيه إبداعيا .. إنها لغة مكتوبة بالجسد تحكي تاريخ الأنثى و المآسي التي عاشتها ..  لغة صامتة ينطق بها هذا الجسد ،  تكشف عن جدل الظاهر و الباطن .. الخفاء و التجلي ..  لغة تتأرجح ما بين البوح الصامت و الغواية الفاضحة . فعبر وجع القماش الملطخ  بالألوان و بالإيقاع يبحث  هذا الفنان في عوالمه الباطنية عن ثمة خلاص تنشده ضربات الفرشاة كتداعيات فنية تتغيى الإشراق الفني في أبهى حلته .
      
        أما الفنان عبد العزيز أوصالح فإنه يميل في لوحاته إلى تكسير قواعد الفن الكلاسيكية داعيا المتلقي إلى الانخراط معه في هذا الورطة  الفنية الجميلة المحتكمة فقط إلى أزمنته النفسية الذاتية المتداخلة  فيما بينها لإنتاج بنية تعبيرية فنية جديدة تشكل هندسة  هذا العطاء الإبداعي القريب من الطفولة و شغبها .
     
        اللوحة بالنسبة لهذا الفنان ليست مجرد لخبطات  لونية  أو إشارات و علامات و إيقاعات عشوائية ، بل  هي زخم تشكيلي جامع  لكل مفردات السند ، وغير مانع  لكل لحظة فنية  تهيئ أرضية الإبداع و الخلق .. زخم  يحول الفعل التشكيلي إلى طاقة فياضة بالمعاني الكثيفة  connotatif ، و بركانا  ، ينفجر دلالة ،  تنساب  أنهر ألوانه سيولا متوقدة  لهبا خارجة للتو من حمم الذات المبدعة .
      
         أمام هذه اللجة اللونية المتموجة  تتماهى مختلف الحركات الخارجية ، و ما تتركه من آثار منطبعة على القماش ، مع ما يعتمل في الباطن من أحاسيس و حالات نفسية ، فيغذو السطح  طاقة ترميزية خرجت للتو من حالة كمون إلى انزلاقية تعبيرية جسدية انفلتت من سلطة الابتذال و منحت اللوحة فرحتها التعبيرية و قيمتها الجمالية  .
      
         يحاول الفنان أولحاج أن يفرغ الجسد من حمولته القيمية اتشييئية و يصيره عنصرا دالا على رؤيا لا ضوابط لها إلا ما يعكسه  فضاء اللوحة من انزياحات حاملة للمعنى و ذلك من خلال ما تتركه آثارها من متلاشيات متشظية  .    
       
         أما الفنان حافظ مربو ، فإن انتاجه الجديد الذي يعتبر امتدادا لإنتاجه  الفني " تحولات "والذي سبق أن تم عرضه بالرباط شهر ماي المنصرم ،  يشكل ، بالنسبة لنا ، مرورا من الداخل نحو الخارج يصاحبه قلق ما .. يود الفنان مربو التعبير عنه بلغته الخاصة ..
        
          قد تتبدى للمتلقي العادي ، لأول وهلة ،  لوحات هذا الفنان و كأنها مقاطع لونية بدون هوية ما ، أو بدون بوصلة تعبيرية تقود  بأمان ،  صاحبها إلى شط الغواية المنشوذ، لكنها في أعين المتبصر المتملك لناصية الحرف التشكيلي تعتبر  تجذيفا في بحر ظلمات لا قرار له ، أو مغامرة لا تملك سوى اندفاعها اللوني لاجتياز العتبة الإيقاعية التي هي صورة تعبيرية حقيقية  لما يعتمل في الدواخل من تفاعلات .
       
          لوحات مربو هي مقاطع موسيقية  تولدت بفعل  هذا الانشطار الوجودي و كأنها لغة جسدية ستنفجر إبداعا بعد حين  و ستترك أثارها على السند كبؤر هامشية ينساب المعنى من خلالها رقراقا في حركة لولبية سهلة الولوج إلى القاع دون أن تترك تصدعات في هذا الجسد المفهومي .
     
          لوحات الفنان مربو ، بهذا المعنى ، هي سيل لوني جارف يمسح تضاريس المعاني القديمة و المبتذلة لإثبات كينونته الجديدة التي تتغذى على الألم و الخوف و حرقة الأسئلة. 
    
          لا تعوز هذا الفنان الموهوب الطرق التعبيرية ، فهو كتوأمه الفنان عبد العزيز الغراز قد استطاع أن يعبر عن هذه اللجة التي تسكن أعماقه بواسطة اعتماد وسيلة تعبيرية أخرى لا تقل أهمية على مستوى الخصوصية الاستيتيقية . فإرساؤه المقام بمرسمه يجعلك مشدودا إلى تعبيراته البليغة : فأن تعلق برميلا أسودا على سقف المرسم بواسطة ثلاث سلاسل من حديد و تجعل فتحته التي هي في الأسفل تسكب سائلا أسودا على كومة من الكتب لتتشكل بقع سوداء يتزايد تدريجيا حجمها ، هو في حد ذاته  تجسيم استعاري جد بليغ يعبر  عن المستوى المتدني لثقافتنا  ، فكريا و حضاريا ، بسبب سيادة ثقافة نفطية جعلت كل شيء  ، في زمن الابتذال و الرداءة ، مبتذلا و رخيصا .
     
         و قبل الختام ، نود أن نشير أن هذه التظاهرة الفنية قد غيرت بشكل جذري صورة مدينة آكادير .. فليلة الورشات الفنية هي ليلة الإشعاع التشكيلي  ، حيث أتيح لهؤلاء الفنانين و الفنانات  فرصة الإنصات لكل منسي و كل مكبوت في ثقافتنا ، حتى تتغذى هذه الحركية التشكيلية في المستقبل على إيقاعات متصاعدة جديدة .