عبد الجبار الغراز
حلت يوم الأحد الماضي 03
ماي ( آيار ) الذكرى الخامسة لوفاة المفكر المغربي محمد عابد الجابري ( 1936 – 2010
) . و هي مناسبة هامة ، بالنسبة لكل عربي ، لكي يستحضر أعمال هذا الهرم العربي
الذي أغنى الثقافة و الفكر العربيين بسلسلة من أبحاثه في مجال الفكر و الفلسفة و
التراث ، وسع الجابري ، من خلالها ، مجالات تفكير هذا الإنسان العربي ، و ذلك بحس
فكري تجديدي و رؤية نقدية عميقة للتراث العربي الإسلامي ، قربت هذا الأخير من
إشكاليات ارتبطت بالماضي العربي ا لفكري و السياسي و الاجتماعي ، و هي الآن ، تحضر
بقوة في واقعه العربي المعاصر ، كقضايا مركزية لا مهرب منها . ( 1 )
لقد تداخلت و تشابكت أوجه الطابع
الإشكالي لهذه القضايا ، التي نذكر منها إشكالية الأصالة و المعاصرة و إشكالية
أزمة الإبداع و إشكالية التقدم و إشكالية النهضة و إشكالية العلاقة بين العرب و
الآخر الغربي ، لتشكل تجليا للواقع الثقافي للإنسان العربي ، في أفق تجاوز
أزمة الإبداع التي تعاني منها ثقافته العربية المعاصرة الراكدة، بقصد إنتاج
شروط جديدة لمواجهة عسر الانتقال بها إلى مرحلة متقدمة .
و قبل الدخول في عرض كيف تناول الجابري لازدواجية : " أصالة / معاصرة "،
تناولا تحليليا و نقديا ، المعتمد
عليها هنا في هذا المقال كنموذج لهذه الإشكاليات ، نود أن نستعرض، في عجالة ،
مساره ، الذي سبق مرحلة تأسيسه لمشروعه الفكري في نقده لبنية العقل العربي.
لقد قدم الجابري إسهامات كثيرة و متنوعة تنوعت بتنوع الأشواط التي
قطعتها مسيرته الفكرية . إذ كانت له إسهامات في التأليف المدرسي في مادة الفلسفة و
الفكر الإسلامي الموجه إلى تلامذة الباكالوريا ، و أخرى في مجال الإبستيمولوجيا و
فلسفة العلوم الموجهة للطلبة الجامعيين . كما أن له إسهامات في مجال النضال
السياسي ، قبل أن يتجه إلى الجانب الفكري الفلسفي مع بداية السبعينات من القرن
العشرين . ( 2 )
لقد ارتبط التأليف الفكري لدى الجابري ، بدراسة التراث العربي الإسلامي ، فأصدر
كتابه عن ابن خلدون " العصبية و الدولة " كما اهتم بأقطاب الفلسفة
العربية في العصر الوسيط ، كالفارابي و ابن سينا و ابن رشد و الغزالي ، فأنجز سلسة
من المقالات ، هي في الأصل مداخلات في ندوات فكرية كان الجابري يشارك فيها، سواء
في المغرب أو في عدد من الدول العربية .
و نظرا لتجاوب و استحسان عدد كبير من المفكرين و المثقفين العرب لهذه المقالات،
لتناولها العميق لإشكاليات التراث العربي الإسلامي تناولا يعتمد الجدة و الأصالة
في الطرح الفكري و الفلسفي ، فقد ارتأى الجابري جمعها في كتاب " نحن و التراث
" . هذا الكتاب الذي اعتبر نقطة انطلاق حقيقية لفكره في شق الطريق نحو
تأصيل و تجديد التراث العربي الإسلامي النابع من تحليل عميق للعلاقة التي تجمع
العرب بموروثهم الثقافي و الحضاري من جهة ، و النابع ، أيضا ، من فهم له في
تاريخيته ( 3 )
لقد كان يحدو الجابري ، في تلك المرحلة من حياته الفكرية ، هاجس بناء رؤية تقدمية
للتراث العربي و الإسلامي. فكتابه الموسوم ب " من أجل رؤية تقدمية لبعض
مشكلاتنا الفكرية و التربوية " هو محاولة لتشكيل رؤية نقدية جديدة لطبيعة
الإشكاليات الفكرية و التربوية التي تناولت مسألة التراث من زوايا متعددة. رؤية
أرادت، من جهة، أن تربط الحاضر بالماضي من أجل رسم مستقبل مشرق و زاهر، و من جهة
أخرى ، أرادت أن تحدد موقفا فكريا و منهجيا لمعالجة مختلف القضايا المرتبطة
بالتراث و بفترتنا المعاصرة ( 4 )
و قد اهتدى الجابري في بناء هذه الرؤية التقدمية إلى تبني منهج علمي زاوج
فيه ما بين النظرتين التاريخية و البنيوية المضاف إليهما موقف الذات المفكرة
المعالجة للموضوع .
و هكذا ، و على هذا الأساس المنهجي ، الذي بدأ يتسع عند كل محطة من حياة الجابري
الفكرية ، حاول الجابري تعميق رؤيته و تصوره لقضايا تراثنا العربي ، انطلاقا من
تحليل كيفية تعامل العرب مع قضاياهم المعاصرة ، خاصة تلك التي تخص ماضيهم في
علاقته بحاضرهم . ذلك الحاضر المتسم ب " الانشطار " و ب "
الانفصامية " ( على حد قول الجابري ) كحالة تعبر، في نظره ، عن وضعية
ثبات و جمود عند نقطة وسط بين ماض متجاوز و حاضر غير متملك . حالة تكشف التجاذب و
الصراع و الاصطدام بين ثقافة العصر الوسيط و بين ثقافة العصر الحديث ، لتضع
وضع ، بفعل ذلك ، العرب في مستوى إشكالي ، قفز به الجابري من مستوى مناقشة العلاقة
بين القديم و بين الحديث إلى مستوى يمس الذات العربية في علاقتها بآخرها الذي هو
الغرب الأوروبي .
لقد اعتبر الجابري قضية علاقة الذات العربية بالآخر الأوروبي قضية مركزية قد
أنتجت، في خضم المخاض العسير الذي يعيشه الواقع العربي المعاصر ( أو ما يسميه
الجابري ب " عسر الانتقال إلى مرحلة متقدمة " )، قضايا و إشكاليات فرعية
مختلفة و متداخلة ، كإشكالية "الأصالة و المعاصرة " و إشكالية "
أزمة الإبداع " و إشكالية " النهضة " و قد انصب جهده على ممارسة
النقد عليها و تحليلها عبر تفكيك خطاباتها لتغدو مسائل قابلة للحل ، بدل تركها
ك" صور لاعقلانية مشوشة للكيان " أي كإشكاليات بدون حلول . ( 5 )
يرى الجابري أن إشكالية " الأصالة و المعاصرة " قد كشفت عن صراع بين
ثلاثة أقطاب و هي :
- قطب عصراني متبن للنموذج الغربي " ( ليبراليون ،
اشتراكيون ، قوميون ، و أصحاب النزعة القطرية الضيقة )
- و قطب سلفي " متبن للنموذج العربي
القديم كما كان قبل عصور الانحطاط ( سلفيون راديكاليون يرون في ماضي السلف الصالح
نبعا صافيا ينبغي الاغتراف منه اتقاء شرور الثقافة الغربية المعاصرة ، سلفيون
معتدلون يقبلون بهذه الأخيرة شريطة عدم مخالفة ما أتت به الشريعة من أحكام )
- وقطب متبن لموقف " انتقائي " يسعى إلى
التوفيق بين " العصرنة " و بين " السلفية " عبر البحث في
الحضارات الإنسانية ما يقوي " يؤصل " قيم الحضارة العربية الإسلامية .
و في هذه الحالة ، اعتبر الجابري أن العرب قد بدوا في وضعية جبرية لم تسمح لهم
بحرية الاختيار بين النموذج الغربي المعاصر و بين النموذج العربي الإسلامي الأصيل
. فالتحديث الذي تعرفوا عليه لا يعدو أن يكون مجرد تحديث مستورد كشف ، بالتالي ،
عن وجه استعماري مقيت للغرب ، وانعكس ، سلبا ، على مختلف شؤونهم التنظيمية و
التدبيرية للاقتصاد و السياسة و المجتمع ، فظهرت هذه الأخيرة ، غارقة في السطحية و
في الارتجال .
و قد اقتضى الأمر ، في نظر الجابري ، لمعالجة إزدواجية : أصالة / معاصرة ، موضوعيا
و تاريخيا ، فحص أسئلة النهضة التي تمخضت عنها، للبحث عن أسباب التأخر و التقدم و
البحث عن كيفية النهوض و اللحاق بالركب الحضاري الغربي . و قد قام الجابري
بتحليلها و ممارسة النقد عليها ، ليكتشف ، في الأخير ، أنها مجرد أسئلة
حالمة و إيديولوجية انطلقت من نقد الحاضر للاحتماء بالماضي البعيد من أجل توظيفه
لمصلحة النهضة .
فليس عيبا ، في نظر الجابري ، أن يستشعر العرب ، بعد قرون من الانحطاط و الجمود
الفكري ، بضرورة النهوض اعتمادا على ماضيهم لتأكيد هويتهم و خصوصيتهم
الثقافية ، ضدا على أي ثقافة غازية ، لكن العيب كل العيب ، هو افتقاد التاريخ
الثقافي العربي لإعادة الكتابة و التأسيس بروح نقدية . ذلك التاريخ ، الذي هو في
واقعه ، يؤرخ لخلاف الرأي و ليس لبناء الرأي ( 6 ) تاريخ الفصل و ليس
الوصل تاريخ التزامن و ليس التعاقب تاريخ فاقد لمعنى التغاير . تاريخ مرتبط
بالمكان أكثر مما هو مرتبط بالزمان ، تاريخ قائم على التراكم بدل التعاقب
قائم على الفوضى بدل النظام . و تعتبر إعادة الكتابة و التأسيس هته ، في رأيه ،
خطوة و سبيلا لرد الاعتبار إلى هذا التاريخ .
و لن يتأتى ذلك، في نظر الجابري ، إلا إذا تم فحص الأداة التي أنتجت هذه
الثقافة ( العقل العربي ) و تفكيك بنيتها الداخلية لمعرفة كيف تأسست و تكونت و
معرفة نوعية الإنتاج الذي أنتجته ( 7 ) و قد كان هذا هو الهدف الرئيسي من إصدار
الجابري لكتابه الموسوم ب " الخطاب العربي المعاصر " أي افتتاح مشروعه
الكبير في نقد العقل العربي حيث انكب على تحليل الخطاب النهضوي العربي الحديث و
المعاصر لإبراز مكامن ضعفه و إبراز عيوبه و نواقصه لكشف صورة العقل العربي كما هي .
الهوامش :
1 -
تزامنا مع هذه الذكرى الخامسة لوفاة محمد عابد الجابري أنتجت " قناة الجزيرة
الوثائقية " فيلما وثائقيا من إخراج عز العربي العلوي . و قد تم عرضته في شهر
أبريل ( نيسان ) المنصرم . و من فاتته مشاهدته يمكن النقر على الرابط التالي
2 – أنظر تقديم
الأستاذ محمد وقيدي لوقائع ندوة " نقد العقل العربي في مشروع الجابري "
مجلة الوحدة العربية السنة الثالثة – العددان 26 و 27 تشرين الثاني / نونبر 1986 .
و قد أعاد نشره الجابري في كتابه الموسوم ب " التراث و الحداثة " في
الفصل الثاني عشر ص – 265 .
3 - نفس
المرجع : " التراث و الحداثة " ص – 267
4 – "
التراث و الحداثة " ص – ص 268 – 269 .
5 - أنظر
إلى كتاب : " إشكاليات الفكر العربي المعاصر " للدكتور محمد عابد
الجابري – مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الثانية : بيروت – أيلول / سبتمبر
1990 ص – ص : 9 – 10
6 – نفس المرجع
. ص 38
7 – نفس المرجع
. ص 39
نشر هذا المقال اليوم بجريدة " الأخبار " المغربية عدد 774 بتاريخ الخميس 21 ماي 2015 م الموافق ل 2 شعبان 1436 ه