التجربة و التجريب
تأطير إشكالي :
في هذا السياق
المحوري الأول من موضوع النظرية و التجربة ، الذي سنتناول فيه الفرق بين التجربة و
التجريب و الحدود الفاصلة بينهما ، يمكن القول أنه إذا اعتبرنا التجربة ، في
معناها العادي المرتبط بالحس المشترك ، هي
تلك الخبرات التي راكمها الإنسان في حياته ، في ارتباطه المباشر بواقعه المعيش ، و التي على
أساسها أصبح إنسانا محنكا ، فإننا سنعتبرها في معناها العلمي الدقيق كمجموعة خطوات
منهجية نظرية و تطبيقية سيتأسس عليها التجريب العلمي الذي يتوخاه العالم انطلاقا
من ملاحظته للظاهرة المراد دراستها علميا و صياغته لفرضيات تولدت مباشرة عن تلك
الملاحظة .
انطلاقا من هذا التحديد ، سيكون التجريب
العلمي ، هو تلك الوسيلة العملية التي
ستمكن العالم من التحقق من مختلف الاجوبة الممكنة للأسئلة الافتراضية التي انطلق
منها . و هذا ما يجعلنا أمام إشكالية فلسفية حقيقية تكمن في بنية تلك التجربة و طبيعتها : فهل ينبغي
الاكتفاء بطبيعتها المنغلقة التي ترى في المنهج التجريبي، السبيل الأنجع لبلورة
نظرية علمية ، أم ينبغي تجاوز بعده الاختباري، والنظر في مستويات أخرى أرقى ، تكون مكملة لهذا الواقع ، و
تجعل من التجريب العلمي انفتاحا على واقع افتراضي أساسه الخيال ؟
مواقف
فلسفية للإجابة عن هذه الإشكالية :
للإجابة عن هذه الإشكالية المطروحة ، يرى كلود برنار ( 1813- 1878 ) أن
السبيل الأنجع لدراسة أية ظاهرة طبيعية ، يكمن في اتباع خطوات المنهج التجريبي ،
الذي صاغه فرانسيس بيكون ، و الذي يعتمد بالأساس على :
-
الملاحظة القصدية و الموجهة المبتعدة عن العفوية ، كمعاينة للظاهرة و المتوخية للموضوعية و الدقة
باستخدامها لكل الأدوات و التقنيات المساعدة ، دون
إغفال للتفاصيل و الجزئيات الملاحظة .
-
الفرضية كمجموعة أفكار ينبغي أن تكون من وحي الطبيعة و منبثقة من الملاحظة و ذات تفسير علمي
يعتمد على العقل و المنطق ، و ذات قابلية للتحقق التجريبي . فالفرضية بهذا المعنى
، هي مقدمات أو منطلقات يقترحها العالم ، من أجل فهم مؤقت للظاهرة الملحوظة ريثما
يتحقق ، عن طريق التجربة ، من أهمية
مضامينها و نجاعتها في تفسير الظاهرة المدروسة .
-
التجربة كإعادة
بناء الظاهرة ، مختبريا . و الغرض منها هو التحقق من صحة أو عدم صحة الفرضية
، و ذلك من خلال ضبط معايير و مقاييس
الانجاز و كذا تتبع سيرورتها انطلاقا من خضوعها للمراقبة داخل المختبر و تكرار
إنجازها ضمانا للنتائج الحسنة .
-
القانون كعلاقة
ثابتة قائمة بين ظاهرتين أو أكثر ، يتوخى التعميم كخاصية تنطبق على كل الظواهر
المتشابهة ، كما يتوخى ، أيضا ، التنبؤ بحدوث الظاهرة مستقبلا إذا توفرت نفس
الظروف ، و يتوخى أيضا اللغة الرمزية،
باعتباره صياغة لمجموعة علاقات رياضية
.
إذا كان كلود برنار يقيم وزنا لعنصر التجربة
ضمن منهجه التجريبي الذي سقناه قبل قليل ، فإن ألكسندر كويري ( 1892 – 1964 ) سينطلق من التمييز بين التجريب و التجربة . هذه
الأخيرةExperience سيعتبرها عائقا إبستمولوجيا يحول دون قيام نظرية علمية ، لأفتقادها إلى
الدقة و الموضوعية و لاعتمادها على الحس العام القائم على الملاحظة العامية . أما
التجريب Experimentation
، فسيعتبره مساءلة منهجية للطبيعة ، التي تفترض لغة يطرح بها أسئلته ، و
قاموسا علميا يتيح للعالم إمكانية تأويل أجوبة تلك الأسئلة المطروحة . فالتجربة في
معناها العامي لا تستطيع أن تملي قرار استعمال تلك اللغة الرمزية المعبرة عن موقف
ذهني للعلم متميز بلحظتين مترابطتين :
-
أولا : إضفاء الصفة الهندسية على المكان عبر
اختفاء كل اعتبار ينطلق من الكوسموس في الاستدلال العلمي .
-
ثانيا : استبدال
المكان الفيزيائي الملموس بالمكان الهندسي المجرد .
أما العالم الرياضي الفرنسي روني توم( 1923 ... ) فإنه يرى أن التجريب إذا
اراد وحده إتاحة التحليل السببي للظاهرة المدروسة ، فإنه سوف يكون عاجزا عن اكتشاف
العلاقات السببية بين الظواهر ، ما لم ينتبه إلى دور التفكير في عملية بناء
المعرفة العلمية. و مفاد هذا التصور الجديد الذي يقدمه لنا روني توم ، يكمن في
ضرورة تصور التفكير على أنه ذو طبيعة
انفتاحية تنفلت من رتابة المناهج المكبلة لقدراته على التصور و الابداع عبر ما
يتيحه الذهن من خيال . التجربة العلمية ، بناء هذا المعنى الجديد ، لا ينبغي حصرها
في ما هو واقعي تجريبي اختباري بل ينبغي لها أن تنفتح على ما هو خيالي افتراضي . و
لهذا السبب نجد أن كل النظريات الرياضية و الفيزيائية ، في نظر روني توم ، أصبحت اليوم تبني صرحها بواسطة العمليات الذهنية
دون أن تحتاج إلى الواقع الحقيقي . فالواقع العلمي أصبح يبنى بواسطة تجربة عقلية
خيالية تكمل الواقعي بالخيالي .
خلاصة تركيبية :
كخلاصة تركيبية لمحور " التجربة و التجريب " يمكن القول أن
العلم ، في فترتنا المعاصرة ، أصبح فيه التجريب منفتحا على الواقع الافتراضي و
الخيالي ، و لم يعد معتمدا فقط على الواقع
التجريبي الملموس . فبناء كل نظرية علمية يقتضي تدشين حوار متفاعل بين التجريب
المختبري المعتمد على الواقعي و بين التجربة الذهنية المعتمدة على الفكري و الذهني
و الخيالي.