الفيلم الوثائقي: " تحت الثلج.. البياض القاتل " للمخرج المغربي عز العرب العلوي :
البياض الذي ارتد إلى سواد
عبد الجبار الغراز
عرضت مؤخرا ، قناة " الجزيرة الوثائقية " الفيلم الوثائقي "
تحت الثلج .. البياض القاتل " لمخرجه المغربي " عز العرب العلوي. و قد
استحق هذا الفيلم ، من هذه القناة أن يعرض ، ضمن ركن " العدسة الحرة
" نظرا لكونه
يستجيب ، بشكل كبير ، لشروط الجودة و الإبداع ، على مستوى رؤية المخرج النقدية للعالم التي جمعت ما بين الواقعي و
الإستيتيقي ، بشكل تجعلنا ، كمتلقين ، ننحاز، بوعي
كبير ، إلى أفكار الفيلم ، و
نتتفاعل ، إيجابيا ، مع
تداعياتها الفنية و الإبداعية .
عند بداية العرض نجد أنفسنا ، لأول وهلة
، مشدودين إلى هذا الفيلم ،
و ما خطه المخرج بالبياض من كلمات هي بمثابة مقدمة تمهد لمجريات الفيلم و وقائعه ،
و كأنه يريد ، من خلال ذلك ،
أن يضعنا في صورة واقع ستبدأ بتشكيله ، بصريا ، عدسات كاميراته ..
مقدمة تشرح ، باقتضاب ، كيف استطاع الثلج في قرية نائية
في جبال الأطلس المتوسط المغربية أن يفرض جبروته " الأبيض " على أهلها ، ذكورا و إناثا ، أطفالا و شبابا و
شيبا .
" تحت الثلج ... " ،
إذن ، هو تصوير بليغ لمعاناة أناس في رحلة بحث عن قوتهم اليومي و قوت ماشيتهم
.. بحث عن دفء مادي لم ينته، بعد و لا قبل ، بجمع أعواد حطب
تحولت إلى لهيب مشتعل في مواقدهم الحديدية ، و لم ينته حتى بذلك الدفء المعنوي الذي تنعشه ، بين اللحظة و
الأخرى ، ما تنسجه علاقاتهم الأسرية الممتدة التي يتميز بها مجتمع القرية ، من
تآزر و تعاون و تضامن .
فمنذ البداية ، تدخلنا عدسات كاميرات
المخرج عز العرب العلوي في ثنايا هذا الثلج وبياضه لاكتشاف عوالمه و بريقه الخداع
..
ففي الاتجاه السالك لمكان ما .. مكان
مجهول يطلب منا الفيلم
اكتشافه ، تبدو تلك الطريق
المؤدية إليه ( حيث نترك على يميننا مدينتي
ميسور و بولمان و على يسارنا مدينتي فاس و صفرو ) و كأنها بساط أسود وسط فضاء أبيض
تتخلله نتوءات تكشف عن مكان
موحش و قفر . الداخل إليه مفقود و الخارج منه مولود .
مكان، لا نرى فيه ، على حد
ملمح بصرنا ، سوى هذا البياض الشاخص
الذي يجتاح كل الفضاءات ، و لا نسمع فيه سوى أصوات الريح بكل تلاوينها ، و كأنها
عواء ذئاب جائعة ..
بياض تتخلله نتوءات تظهر و تختفي ، و كأن ثمة صراع
لا مرئي بين الوجود و العدم ، الظلمة و النور .. المكان و اللامكان .. بياض قد ارتد إلى سواد .. فضاعت معه معاني حياة كريمة مزهوة بكل
ألوان الطيف ..
على اليمين ، تواصل عدسة الكاميرا شق
الطريق نحو قرية نائية . . تبدو
، تلك القرية ، عند الوصول
إليها ، و كأنها خاوية على
عروشها إلا من أغصان أشجار
اللوز و الزيتون التي كستها
الثلوج ، فغذت أوراقها و كأنها قد تساقطت
منذ أمد بعيد ..
لا حي يرزق يجوب هذا المكان .. فكل المخلوقات التي تدب على هذه
الأرض ، أرض هذا البياض القاتل ، قد
اختفت في تلك اللحظة ، أو أنها سكنت و جمدت عند نقطة ما من نقاط هذا المكان الممتد ، أو أنها هرعت إلى
أوكارها خوفا من صقيع لا
يرحم ، يمزق الأجسام التي
يصادفها أمامه إربا إربا .
يتوارى الليل ، تدريجيا ، عن مشهد هذا
الوجود ، و ينطفئ سواده معلنا انسحابه و تاركا المكان لنور صباح ليس ككل الصباحات
.. شيئا فشيئا يبسط وشاحه
الفضي الميال إلى الاصفرار عن جبال قد كساها الثلج و منحها حلته البيضاء ، معلنا استيقاظ
كل المخلوقات .
شخوص
الفيلم الوثائقي " تحت الثلج ... " واقعية مائة بالمائة ، تماما كما أرادها المخرج أن تكون .. تولدت من رحم ظروف حياتية
قاهرة انتزعت منها ألوان الحياة انتزاعا ، فصارت مجرد أشباح آدمية تدب في أرض هذا
البياض
لكن ، بالرغم من ذلك ، فهي لم تختزل في مجرد عناصر صالحة لمادة
توثيقية أو ترفيهية فرجوية ، تستعرض،
بشكل فولكلوري أو تقريري ، مجريات حياتية لأناس يعيشون بشكل مختلف ، و تحت ضغط
ظروف مختلفة عن ظروف بقية خلق الله ، بل أريد لها من طرف المخرج أن تكون رؤية نقدية تسلط الضوء على كل ما
هو هامشي .. منسي ..
و مسكوت عنه .. و كأنها تشعرنا ، من خلال ذلك ، بأننا جد مقصرين في حق هؤلاء الخلق
الذين ينتمون إلى مغرب آخر غير مغربنا الذي نعيش فيه .. مغرب عميق .. مغرب غير
نافع ..
هكذا ترصد عدسة ه كاميرا المخرج عز العرب العلوي، و بكل أمانة
فنية ، هؤلاء الخلق في وضعيات حياتية مختلفة ، ارتأينا ، نحن أيضا ، أن ننقلها
بتأويل سيميولوجي أمين و صادق .
في البيت ، وعلى مائدة فطور مكون من
أرغفة خبز ساخنة تعد على رؤوس الأصابع لا تكفي لسد الرمق ، و كؤوس شاي . يتحلق الجميع حول تلك
" الغنيمة ".. تتسابق
الأيدي نحو الصحن و ترتمي
كارتماء النسور الجائعة على فريستها ، على محمولاته لتنهشها ، تتشكل معاناة شخوص
هذا الفيلم الوثائقي في شكل دردشات كلامية انصبت حول مجريات ليلة فائتة و ما حملته
من مآسي من الصعب نسيانها : برد قارص ، أغطية غير كافية لمواجهته ، رياح قوية
عاتية تزيح سقوفا بلاستيكية من مكانها ، تعاني
أصلا من السيلان بسبب ما أحدثت بها
الطيور من ثقوب .
أو في الحظيرة لتفقد ماشية ،
صغيرة أو كبيرة في السن ،
حين يغرز البرد القارص مخالب الموت في أضلاعها لتوجد في صباح اليوم التالي مرمية
بلا حراك ، فترغم بالقوة
النعاج الأخرى على إرضاع صغارها حتى لا تكون هي الأخرى عرضة للهلاك ، أو قد تتعرض
للأذى إذا صاحبت القطيع في رحلة بحثه اليومي عن الكلأ ..
تحدث هذه المآسي دون أن يكلف البياطرة أنفسهم عناء
تفقد القرى لمد يد المساعدة لمعرفة سبب موت هذه القطعان الصغيرة ..
أو في المرعى ، حيث يكون القطيع ، في أحسن حاله ، تحت
رحمة الذئاب و الوحوش الضارية الأخرى ، أو ، في أسوأ حاله ،تحت رحمة الثلوج التي
تحاصره في كل مكان ..
ثلوج تمنع
الرعاة من مزاولة مهامهم في الرعي ، فلا كلأ لهذا
القطيع إلا ما تجود به أغصان الأشجار التي يسقطها ، من أجلهم ، الرعاة بواسطة
عصيهم .
أما في حالة البرد القصوى ، فقد يتحتم على
هذا القطيع البائس ، أن يبقى لأيام و ليال طوال رابضا في الحظيرة ، و هذا أمر مكلف
ماديا بالنسبة " للكساب
".. فصاع شعير يساوي
100 درهم ..
أو في الغابة لقطع الأشجار و جلب خشبها
على ظهور الحمير بقصد البيع أو بقصد التدفئة ..
كل هذه الأعمال تبدو للحطاب عادات
متكررة و روتينية .. أو انتظار عبثي لما سوف تأتي به الدقائق و الساعات و الأيام
.. أو قتل لفراغ موحش .. أو مقاومة لليال حبلى بالصقيع و البرد القارص ..
لكنها ، في عين عدسة كاميرا عز العرب
العلوي ، مكابدة لموت بطيء
يدنو من الأبواب ليحول ربيع عمر هذا الحطاب إلى خريف متساقط الأوراق .
فبين ناظر الحطاب المثقلة أجفانه
بالهموم و المآسي ، و هذا
الفضاء الواسع الممتد ثلوجا ، تنسل
أطياف بيضاء تشكلت لترقص رقصتها الشيطانية الخالية من أي معنى سوى من التعبير عن
هذا الخواء الأبيض الذي يملأ المكان . في مخيلة الحطاب كليشيهات أو صور بيضاء بلا ألوان قزحية .. يحاول المسكين
أن ينظر إلى ما وراء هذه الأشياء الماثلة أمامه لعله يقتنص معنى معقولا لوجوده في
هذا البياض الممتد ، فلا يرى سوى حياة بائسة تتراجع إلى الوراء في بطء لتختفي و تحل محلها حياة أخرى
غريبة مثقلة بالكوابيس و الهواجس ..
حياة تبحث عن ركن قصي في النفس يستظل باللاشعور لتوفير ملجأ يمنح لحظة
انتشاء .. لحظة سعادة عابرة .. قد تتولد عنها تداعيات في شكل أغان أمازيغية بطعم
عاطفي .. أغان خارجة ، للتو
، من الأعماق ..
تبدو كلمات هذه الأغاني ، لدى سماعنا
لها خارجة من أعماق الحطاب ، نهرا متدفقا يفيض عذوبة .. كلمات تائهة تبحث عن لحظات عشق أجهضتها الأيام
و السنون .. تعبيرا ، بلا
جدوى ، عن حبيب عزيز ضائع وسط ما صنعه هذا البياض من خرائب ..
يحاول عز العرب العلوي أن يوظف هذه
الكلمات الأمازيغية الشاعرية و يجعلها تتوافق و ثيمة فيلمه و ذلك من خلال اعتبارها أنينا حزينا آتيا من الأعماق .. رجع صدى لنغمة تنامت في الأعماق و انسلت من منعرجات الحنجرة
لتخرج صوتا جريحا و مبحوحا
.. صرخة مدوية في وجه هذا البياض القاتل ..
أو في الطريق الوطنية رقم 707 الرابطة
بين مدينتي بولمان و إفران .. حين يرخي الليل سدوله على القرية و ينتصف ، و حين
تعانق السماء سواده و يرتمي الفضاء في أعماق ظلمته ، و تتعب النفوس من سلطان يقظة
كلت الجفون يكون الحسين كريش ، ذلك الموظف البسيط التابع لمديرية الإقليمية للتجهيز و النقل
بإيفران ، بمعية فريق عمل ميداني يجوب الطريق طولا و عرضا باسطا أجنحة الرحمة
الربانية لكل مسافر عابر تقطعت به السبل و بقي في نقطة من نقط العبور الوعر محاصرا
بالثلوج .
عمل ، و لا شك قاس و صعب ، لكنه بطولي
يصارع على واجهتين حربيتين : واجهة يكون هذا الطاقم فيها أمام ثلوج مكتسحة للطريق
إذ يتطلب الأمر منه مخاطرة و
مجازفة استثنائيتين لإجلائها عن تلك الطريق ، و واجهة يكون فيها أمام عابرين متهورين لا
يقيمون أي وزن للأخطارالتي تنتظرهم .. عابرون يكسرون الأقفال و يجتازون الحواجز
الموضوعة ليجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام بياض قاتل .
أو في أي مكان من أرض هذا
البياض ، الذي تتواجد فيه المرأة كأم ، كزوجة ، كأخت ، أو كابنة .. حيث تظهر
النساء ، كهذا البياض الممتد فوق الأرض السوداء، بلا لون .. بلا طعم .. بلا رائحة .. بلا أنوثة تجعل
منها كيانا له معنى .. نساء
تعيد إنتاج نفسها في صور رمادية باهتة .. نساء لا هم لهن سوى تقاسم غبن مزدوج فيما
بينهن : غبن ناتج عن هذه الطبيعة القاسية ، وغبن ، توارثنه أبا عن جد ، ناتج عن مجتمع ذكوري ، لا يرى فيهن سوى أكياس إنجاب للأطفال ،
أو ماكينات لعجن الرغيف اليومي المر و طهيه على مطبخ موت مؤجل ..
أو في تلك الوجوه الصغيرة التي اغتصبت
في طفولتها .. وجوه كئيبة ارتسم
عليها التعب و أبانت ، ذات صباحات من صباحات هذا البياض القاتل عن عيون
بريئة ما تزال تغالب النعاس
.. عن ملامح لم تغادر بعد أرض السهاد و هي تحث الخطى سيرا على الأقدام نحو مدرسة بلا نجاح
.
أطفال في عمر الزهور يحملون هذا البياض
و يصنعون منه مستقبلا غامضا و وهميا يتراشقون
به فيما بينهم ، اقتناصا
للحظات فرح هارب نحو اللاشيء ..
فبين حكاية النملة و الدودة ، كما روتها كراساتهم العقيمة ، و بين تفاؤل
يرسم ببياض الثلج آفاقا يكون فيها هذا التلميذ طبيبا
و تكون فيها تلك التلميذة
معلمة و يكون فيها ذاك التلميذ مهندسا
.. تضيع تفاصيل الحكاية و تتبخر أحلام المستقبل
..
هذه الوضعيات الحياتية ، التي أتينا على
ذكرها ، و التي نقلتها لنا عدسة كاميرا المخرج عز العرب العلوي هي نسج لفضاءات هذا البياض القاتل ، وفق رؤيته الخاصة للأشياء .
في هذه القرية ، " قرية جبل بولمان
" مكان تصوير فيلم " تحت الثلج ... " تضيق دوائر الرؤيا أمام أعين
ساكنتها.. يتراجع الزمن
الكرونولوجي الذي يعد بالأنات و الدقائق ليفسح المجال لزمن آخر .. زمن بنيوي تنتفي
فيه كل الامتدادات و كل الأشكال الهندسية .. إنه الزمن النفسي الذي معه تتشكل كل
تضاريس النفس البشرية لتكشف عن مكنوناتها و دواخلها الخفية ..
فالطبيعة القاسية ، و الإنسان ، هذا الذي يشرب معاناته شايا و سكرا، و
باقي المخلوقات الأخرى التي دبت على أرض هذا السواد .. كلها مجرد أطياف و أشكال لهذا
الزمن النفسي الذي تشخصنت سانكرونيته المثقلة ببياض الثلوج .. زمن تسارع بخطى
وئيدة نحو اللاشيء . زمن قد
صير الحياة هناك .. فراغا جامعا بين أضداد : حلو
و مر ، بياض و سواد ظمأ و ارتواء ..