الأحد، 10 نوفمبر 2013

وجود الغير


وجود الغير

تقديم الإشكالية

     لا يمكن الاعتراف بوجود الغير إلا إذا اعتبرناه يشكل مفارقة أنطلوجية و معرفية ضرورية . و مفاد ذلك أن وعي الذات بنفسها لا يتحقق إلا بوجود الغير ، أي أنه لا وجود ل " لأنوات" منعزلة في هذا العالم . و ما دام الأمر بهذا المعنى ، فإن وجود الغير ، من الناحية الفلسفية ، قد شكل قضية فلسفية أثارت نقاشات واسعة في أوساط الفلاسفة ، تختلف درجة حدتها باختلاف تناولهم لها و تعمقهم في مختلف جوانبها .

     فما الذي يميز وجود الغير ؟ هل هو مؤشر دال على ذوبان الذات في حياة الجماعة ، أم يشكل وعيا مستقلا ؟ و كيف يمكننا الحديث عن " أنا آخر " غير " أنا  المتكلم " ؟ و كيف يمكن فهم أن الغير ، من جهة ، يكون شرطا لإدراك ذاتي ، و من جهة أخرى ، وسيطا حائلا بيني و بينها ؟ هل يمكن تصور الغير كعالم واقعي يخضع للوجود الممكن ؟

    هناك مقاربات فلسفية تجيب عن هذه الإشكالية:

     من وجهة نظر الفلسفة الوجودية ، ينطلق مارتن هايدجر من التفكير في سؤال معنى الوجود الإنساني ، الذي يقسمه إلى :  وجود  متعين و وجود راهن . فالأول هو الذي تعيشه الذات لنفسها ، أما الثاني فهو الذي تعيشه الذات مع الآخر . فباقتسامها معه ذاك الوجود تفقد معنى  وجودها كاختلاف.

     فوجود الإنسان بما هو إنسان يتجاوز وجود الأشياء (" الموجود – هنا ") لا يكون مطابقا لذاته ككينونة خاصة ، لأنه يكون مفرغا منها و مذابا في نمط الوجود المشترك اليومي الذي يتحكم فيه الغير (الوجود – مع - الغير ) .و هذا الوضع الوجودي يجعل الآخر ، منذ الوهلة الأولى ، يكون على نمط " الموجود – هنا " و تصبح ، بالتالي سلطته قوية ، فتختفي الذات و ذات الآخر أكثر فأكثر و تفقد كل واحدة منها ما يميزها و ما يجعلها متفردة ، ليبرز ، بالتالي ضمير المجهول On   و يطور خاصيته الدكتاتورية المميزة له ، فيصبح ، ترتيبا على ذلك  ، كل واحد هو آخر  ، و لا  أحد هو هو  . و في هذه الحالة يتم في الكائن فقد صفة الشخص المتعين .

     يتضح مما سبق أن الغير ، يغلق كل طرق الوجود الأصلي أمام الكائن، و يمحو كل التمايزات و كل الاختلافات بينه و بين الأنا ، فهو ، بهذا المعنى الوجودي الذي يقدمه مارتن هايدجر ، وجود دال على اختفاء و ذوبان الذات في حياة الجماعة.

      و من نفس منطلق الفلسفة الوجودية يرى جان بول سارتر ، أن الغير ، من جهة أولى، ليس بمعطى تقدمه لنا تجربتنا في الوجود، بل هو نظام تمثلات الذات التي تكونه شيئا فشيئا كموضوع عيني بواسطة أحداث تجربتها، كما أنه أيضا ، و من جهة ثانية مقابلة للذات ، هو نظام مترابط من التجارب المستقلة عن الذات ، حيث تكون هذه الأخيرة موضوعا ، هي الأخرى ، من بين الموضوعات . يفهم من هذا أن الغير هو سلب جذري لتجارب الذات و نفي لها من حيث هو مركز للعالم.

      يترتب عن هذا التحديد المزدوج المعنى لمفهوم وجود الغير، الذي يقدمه لنا سارتر، ما يلي :

     -  الغير هو " أنا آخر " الذي هو ليس بأناي و لست أنا إياه .

     - السلب ، أو العدم ، هو بنية مكونة لوجود الغير ، أي أنه عنصر فصل معطى بين الغير و بين الأنا ، لا يستمد أصوله كنفي أو كسلب أو كعدم من الأنا كذات و لا من الغير و لا من العلاقة المتبادلة بينهما بل يستمدها من نفسه باعتباره أساس كل علاقة ممكنة بينهما . السلب هو غياب أولي لهاته العلاقة .   

      - وجود الغير نابع أساسا من أطروحة فلسفية وجودية تعطي الأسبقية المنطقية و الزمانية للوجود على الماهية . فوجود الكائن سابق على ماهيته . و ماهية الإنسان هي حريته، حيث تعتبر شرط الوجود في العالم و مع الغير. هذه الأخيرة ( أي الحرية ) ليست معطى مباشرا بل هي محكومة بوضعيات استيلاب و تشييء .

       أما الفيلسوفين الفرنسيين جيل دولوز و فليكس غاتاري ، فإنهما يطرحان مسألة الغير من منظور مغاير للأسس الفلسفية التي انبنت عليها الذاتية و الوعي . فالغير لا يعتبر ، في نظرهما " أنا آخر " كما رأينا مع جان بول سارتر ، بل هو عالم ممكن ، منفتح أمامنا كي نكتشفه و نجربه .

        ينطلق هذان الفيلسوفان من طرح تساؤل افتراضي حول مفهوم الغير ، كما تصورته الفلسفات الذاتية ، يتعلق بمرتبته بالنسبة " لأنا ما " ، ليفترضا ، من جهة أولى ، كإجابة عن هذا التساؤل ، أن هذا المفهوم يعد تاليا ، لأنه ينطبق على آخر خاص بالنسبة إلى الأنا التي تمثله في صورة موضوع .

        فانطلاقا من هذا التصور للذاتية ، الذي يغلب عليه طابع الحضور و التطابق ، تصبح المفاهيم التالية : الذات ، الغير ، الموضوع ، الشخص ، مفاهيم تحيلنا إلى تعدد الذوات . و هذا يطرح ، في نظر هذين الفيلسوفين ، مشكلات فلسفية لا تحل إلا بتبني  تصور بنيوي يستلزم منطق العلاقات الذي يحول الذوات إلى أغيار . هذا التصور الجديد هو تجاوز للفلسفة الذاتية المنبني على فلسفة المغايرة و الاختلاف الذي ساهم في وضعه جان بول سارتر، و ذلك من خلال مفهوم السلب أو العدم يقول في ذلك دولوز : " يعتبر إسهام سارتر إسهاما رائدا للبنيوية لأنه أول من تصور الغير كبنية خاصة أو محددة غير قالبة للاختزال في الموضوع و في الذات "

       فانطلاقا من هذه النظرة البنيوية لمفهوم الغير ، حدد كل من دولوز و غاتاري ، الغير كبنية ذات مكونات ثلاثة : عالم ممكن ، وجه قائم الوجود ، و كلام و لغة واقعية .و تتجلى قيمة هذه الأطروحة الفلسفية في مراهنتها على الفهم البنيوي للغير باعتباره عالما ممكنا .

      و تجدر الإشارة ، في هذا الإطار ، أنه سبق لجيل دولوز أن تقدم بهذه الأطروحة  لنيل الدكتوراه في تحليله لرواية ميشال تورنييه  Vendredi ou les limbes du pacifique   التي تحكي عن روبنسون كروزو الذي ظل في جزيرة لوحده مدة طويلة ، بعد أن غرقت سفينته و نجا وحده ، فالتقى بالفتى بعد معاناة الوحدة و العزلةVendredi   ذلك العالم الممكن . يقول تورنييه على لسان بطل الرواية : " لقد توصلت الآن إلى قناعة مفادها أن الأرض التي عليها تطأ قدماي تحتاج ، كي لا تهتز ، إلى آخرين غيري ليعمروها . إن الحصن الأكثر أمانا ضد الوهم البصري و ضد الاستيهامات ، وضد حلم اليقظة و الهذيان و اضطراب السمع ... هو أخونا و جارنا و صديقنا أو عدونا ، مهما كان هذا الغير "

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق